بثت إذاعة بي بي سي العربية مع بداية قصف غزة، تقريرا ً عمّا يُسمى "الأغاني الملتزمة". التقرير ذكّرني بأغنية "وين الملايين" التي تذكرتها مؤخرا ً أيضا ً لسبب مختلف وهو أن مؤلفها الثورجي الليبي أطلق الشهر الماضي (ديسمبر) أغنية اسمها "الوريد" في رثاء صدّام حسين.
يجب مزج هاتين الأغنيتين معاً للوصول إلى نوعية معيّنة من "التبشير" في الثقافة العربية، مزيج ذي نكهة مميزة، يُبشّر بالشعب والثورة والكرامة والفداء وفكرة "لو نفنى ببكرة أبينا، أبدا ً ما تهون أراضينا"، مع تمجيده في نفس الوقت لرموز الديكتاتورية العربية. كلما سمعت تعبير "الأغاني الملتزمة" تساءلت: الملتزمة بماذا؟ الأغنية الأولى تمجّد الانتفاضة الفلسطينية لكنها أيضاً توبّخ باقي العرب المساكين لأنهم يعيشون حياة عادية ولديهم "مال وبنون" ولا يُجيبون نداء "خوتي وين؟".
ضَع هذا المنطق جنباً إلى جنب تمجيد "صدّام حسين" وسترى أنه في حقيقته تبشير ملتزم بمعاداة الإنسان العاديّ البسيط، يستكثر حياته المحدودة عليه ويحمله مسؤولية الأخطاء السياسية والتاريخية لزعامات لم ينتخبها ولم يردها، بينما يمجّد هذه الزعامات الاستبدادية ويُبرئ صفحتها ويلتمس لها العذر، خطاب مثل هذا وإن تلبّسَ وجهاً شعبويا، لا يمكن أن تنتجه إلا الآلة الإعلامية للسياسي العربي، والمنخرطون فيها بوعي أو دون وعي.
لكن هذا الإنسان البسيط من جانبه يبدو - بشكل مدهش! - متقبّلا ً لهذا النوع من التبشير... مستسلما ً للخدعة على الأحرى ومستغرقا ً في معاداة نفسه. أغنية "وين الملايين" يمكن وصفها بالأغنية الأكثر إلحاحاً في تاريخ الغناء العربي، كلمة "وين" تتكرر فيها 89 مرة، لتلبّي شرط الحالة المازوشية من اللوم الملح للذات وتبكيتها، رغم ذلك تلاقي رواجا ً جيّدا ً اليوم على الشبكة، وقد كانت هي الأكثر بثاً في التلفزيونات العربية وقت الانتفاضة الثانية، كانت تتكرر طوال الوقت كفاصل خلال تغطية حملات التبرّع. سماعها ثلاث مرات فقط يعني حسابيا ً سماع كلمة "وين" 267مرة، ويبقى السؤال يطنّ في رأس المستمع العربي المسكين لعدّة أيامٍ بعد ذلك دون أن يقدّم له أحدٌ إجابة، دون أن يكون قادراً بنفسه على تقديم إجابة، لكنه يبقى تحت وطأة الشعور المبهم الذي تولّده الأغنية، شعور طفليّ بالذنب لأن شيئاً ما مفقود وأنه هو المسؤول عن فقدانه واسترداده، ثمّ يُستكمل هذا الشعور في مرحلة لاحقة بإحالة الشعور بالفقد والقمع والاغتصاب على "المجرم الأجنبي البعيد". اللقطة التي عرضتها القناة السورية الرسمية لطفل سوري صغير "يبكي" بدموعٍ حقيقية من أجل قصف "دير الزور" ويعبّر عن حلمه لما يكبر، وهو "اقتلاع أمريكا من أرضها"، لقطة ذات دلالة في هذا السياق.
بالنسبة لي، لم أتخلص من إلحاح "مشروع البحث العربيّ الموسّع" هذا منذ الانتفاضة الثانية، وأي استعادة عابرة للأغنية تكفي لتعليق الشريط في ذهني لأيام بعد ذلك، وهي مزعجة بما فيه الكفاية عندما تكون خارج الرأس فكيف إذا صارت داخله؟! هكذا فكّرت أنه قد يضع نهاية لهذه المعاناة تفكيك وإجابة أسئلة الأغنية و لو استدعى هذا اقتراح 89 إجابة مختلفة لنفس السؤال: وين؟ يمكن أولا ً استبعاد أي "وين" مطلقة و إسقاطها من الاعتبار، فهي لا تمثل سؤالا ً منطقيا ً يمكن أن يفضي إلى إجابة منطقية. على أية حال هذا النمط من التساؤل ليس بدعا ً في الثقافة العربية. ثم يأتي دور "وين الملايين؟"، أفكّر بعدّة إجابات واقعيّة أفيد بها السيّدة جوليا بطرس، مثلاً "هل جرّبت سؤال الأخ صدّام في المكتب المجاور؟"، أو إجابة من وحي الواقع الاقتصادي: "لم آخذ منها شيئا ً. و لا فلسا ً منها حتى"، أو إجابة تعبّر عن حريّة الوصول إلى المعلومة المكفولة للمواطن العربي: "لا يمكنني أن أجيبك. معلومات الملايين متاحة للأجهزة الأمنية فقط".
إذا كان السؤال مطروحا ً صباحا ً فـ"الملايين ذهبوا إلى العمل ليحصلوا المال الذي سيطعمون به البنين" وهو الأمر الذي ينقمه الأخ مؤلف الأغنية عليهم، لا أدري إن كان يشجع على السرقة أم على قطع النسل، عموما الخيار الأول معمول به أما الثاني فليس سيئاً جداً، من باب الرأفة بالطفولة. وإذا كان مطروحاً مساء فالإجابة تختلف من قطر شقيق إلى آخر، بعض الأقطار تنشر فقرة تقليدية في الصحيفة عن "أين تذهب هذا المساء"، بعض الأقطار الأخرى تشجّع الإنسان على البقاء في دفء المنزل، و"خليك بالبيت". من الممكن إجابة السؤال من وحي التنمية البشرية للعالم العربي بـ"ما أدري!"، "ما سرقتها"، "ما فهمت السؤال!"، أو إحالة السؤال على مقاول ليُريه ما بُني أسمنتياً بالملايين و يرفع العَتَب. يمكن طرح السؤال في مقرّ انتخابي عربيّ و سيكون الجواب "قادمون بباصات الأمن بعد دقائق لأداء واجبهم الوطني"، و يمكن عند طرحه على امرأة عربية أن يكون الجواب (....) لأنها تنتظر "أبو العيال" ليُجيب بدلا ً عنها.
... هذا و لم ننجز حتى الآن إلا 11 إجابة فقط! و بقيت احتمالات لا نهائية لتفسير غيبوبة الملايين العربية، بالإضافة إلى أسئلة الأغنية التفصيلية الأخرى التي تجنح بصراحة إلى الدخول في موضوعاتٍ حساسة و محرجة كـ"الشرف"، أو تفاصيل بيولوجية تتعلق بـ"الدم"، أو ميتافيزيقية تتعلق بـ"الوحدة العربية". يبقى سؤال "الغضب العربي وين" و هذا أظن أنه إن لم يستفزه هذا الغناء الخطابي ليغضب لنفسه، فسيكون من الصعب استفزازه بشيء آخر.
*نقلاً عن صحيفة "الوطن" السعودية
يجب مزج هاتين الأغنيتين معاً للوصول إلى نوعية معيّنة من "التبشير" في الثقافة العربية، مزيج ذي نكهة مميزة، يُبشّر بالشعب والثورة والكرامة والفداء وفكرة "لو نفنى ببكرة أبينا، أبدا ً ما تهون أراضينا"، مع تمجيده في نفس الوقت لرموز الديكتاتورية العربية. كلما سمعت تعبير "الأغاني الملتزمة" تساءلت: الملتزمة بماذا؟ الأغنية الأولى تمجّد الانتفاضة الفلسطينية لكنها أيضاً توبّخ باقي العرب المساكين لأنهم يعيشون حياة عادية ولديهم "مال وبنون" ولا يُجيبون نداء "خوتي وين؟".
ضَع هذا المنطق جنباً إلى جنب تمجيد "صدّام حسين" وسترى أنه في حقيقته تبشير ملتزم بمعاداة الإنسان العاديّ البسيط، يستكثر حياته المحدودة عليه ويحمله مسؤولية الأخطاء السياسية والتاريخية لزعامات لم ينتخبها ولم يردها، بينما يمجّد هذه الزعامات الاستبدادية ويُبرئ صفحتها ويلتمس لها العذر، خطاب مثل هذا وإن تلبّسَ وجهاً شعبويا، لا يمكن أن تنتجه إلا الآلة الإعلامية للسياسي العربي، والمنخرطون فيها بوعي أو دون وعي.
لكن هذا الإنسان البسيط من جانبه يبدو - بشكل مدهش! - متقبّلا ً لهذا النوع من التبشير... مستسلما ً للخدعة على الأحرى ومستغرقا ً في معاداة نفسه. أغنية "وين الملايين" يمكن وصفها بالأغنية الأكثر إلحاحاً في تاريخ الغناء العربي، كلمة "وين" تتكرر فيها 89 مرة، لتلبّي شرط الحالة المازوشية من اللوم الملح للذات وتبكيتها، رغم ذلك تلاقي رواجا ً جيّدا ً اليوم على الشبكة، وقد كانت هي الأكثر بثاً في التلفزيونات العربية وقت الانتفاضة الثانية، كانت تتكرر طوال الوقت كفاصل خلال تغطية حملات التبرّع. سماعها ثلاث مرات فقط يعني حسابيا ً سماع كلمة "وين" 267مرة، ويبقى السؤال يطنّ في رأس المستمع العربي المسكين لعدّة أيامٍ بعد ذلك دون أن يقدّم له أحدٌ إجابة، دون أن يكون قادراً بنفسه على تقديم إجابة، لكنه يبقى تحت وطأة الشعور المبهم الذي تولّده الأغنية، شعور طفليّ بالذنب لأن شيئاً ما مفقود وأنه هو المسؤول عن فقدانه واسترداده، ثمّ يُستكمل هذا الشعور في مرحلة لاحقة بإحالة الشعور بالفقد والقمع والاغتصاب على "المجرم الأجنبي البعيد". اللقطة التي عرضتها القناة السورية الرسمية لطفل سوري صغير "يبكي" بدموعٍ حقيقية من أجل قصف "دير الزور" ويعبّر عن حلمه لما يكبر، وهو "اقتلاع أمريكا من أرضها"، لقطة ذات دلالة في هذا السياق.
بالنسبة لي، لم أتخلص من إلحاح "مشروع البحث العربيّ الموسّع" هذا منذ الانتفاضة الثانية، وأي استعادة عابرة للأغنية تكفي لتعليق الشريط في ذهني لأيام بعد ذلك، وهي مزعجة بما فيه الكفاية عندما تكون خارج الرأس فكيف إذا صارت داخله؟! هكذا فكّرت أنه قد يضع نهاية لهذه المعاناة تفكيك وإجابة أسئلة الأغنية و لو استدعى هذا اقتراح 89 إجابة مختلفة لنفس السؤال: وين؟ يمكن أولا ً استبعاد أي "وين" مطلقة و إسقاطها من الاعتبار، فهي لا تمثل سؤالا ً منطقيا ً يمكن أن يفضي إلى إجابة منطقية. على أية حال هذا النمط من التساؤل ليس بدعا ً في الثقافة العربية. ثم يأتي دور "وين الملايين؟"، أفكّر بعدّة إجابات واقعيّة أفيد بها السيّدة جوليا بطرس، مثلاً "هل جرّبت سؤال الأخ صدّام في المكتب المجاور؟"، أو إجابة من وحي الواقع الاقتصادي: "لم آخذ منها شيئا ً. و لا فلسا ً منها حتى"، أو إجابة تعبّر عن حريّة الوصول إلى المعلومة المكفولة للمواطن العربي: "لا يمكنني أن أجيبك. معلومات الملايين متاحة للأجهزة الأمنية فقط".
إذا كان السؤال مطروحا ً صباحا ً فـ"الملايين ذهبوا إلى العمل ليحصلوا المال الذي سيطعمون به البنين" وهو الأمر الذي ينقمه الأخ مؤلف الأغنية عليهم، لا أدري إن كان يشجع على السرقة أم على قطع النسل، عموما الخيار الأول معمول به أما الثاني فليس سيئاً جداً، من باب الرأفة بالطفولة. وإذا كان مطروحاً مساء فالإجابة تختلف من قطر شقيق إلى آخر، بعض الأقطار تنشر فقرة تقليدية في الصحيفة عن "أين تذهب هذا المساء"، بعض الأقطار الأخرى تشجّع الإنسان على البقاء في دفء المنزل، و"خليك بالبيت". من الممكن إجابة السؤال من وحي التنمية البشرية للعالم العربي بـ"ما أدري!"، "ما سرقتها"، "ما فهمت السؤال!"، أو إحالة السؤال على مقاول ليُريه ما بُني أسمنتياً بالملايين و يرفع العَتَب. يمكن طرح السؤال في مقرّ انتخابي عربيّ و سيكون الجواب "قادمون بباصات الأمن بعد دقائق لأداء واجبهم الوطني"، و يمكن عند طرحه على امرأة عربية أن يكون الجواب (....) لأنها تنتظر "أبو العيال" ليُجيب بدلا ً عنها.
... هذا و لم ننجز حتى الآن إلا 11 إجابة فقط! و بقيت احتمالات لا نهائية لتفسير غيبوبة الملايين العربية، بالإضافة إلى أسئلة الأغنية التفصيلية الأخرى التي تجنح بصراحة إلى الدخول في موضوعاتٍ حساسة و محرجة كـ"الشرف"، أو تفاصيل بيولوجية تتعلق بـ"الدم"، أو ميتافيزيقية تتعلق بـ"الوحدة العربية". يبقى سؤال "الغضب العربي وين" و هذا أظن أنه إن لم يستفزه هذا الغناء الخطابي ليغضب لنفسه، فسيكون من الصعب استفزازه بشيء آخر.
*نقلاً عن صحيفة "الوطن" السعودية