العودة المحرمة
إن الصهيونية كحركة هي بالفعل نتاج سياسي حدث في القرن 19. بيد أن الصهيونية كفكرة موجودة في التراث الثقافي اليهودي، كحنين إلى العودة إلى فلسطين ظهر منذ السبي البابلي، وهو ما تعكسه علامات ورموز ومحددات ثقافية كثيرة داخل التراث الديني اليهودي، ومن بينها المزمور 137, غير أن هذا الحنين كان مجرد فكرة انتظارية مشروطة بنزول "المسيا" (مسيح اليهود)، حيث نجد في الفكر الديني اليهودي تحريما شديدا لهذه العودة، بل تعتبر عودة اليهود هرطقة وتعجيلا بالنهاية (بالعبرية "دحيكات هاكتس").
لذا لم يكن ممكنا للفكرة أن تتحول إلى "حركة" وإستراتيجية عملية إلا بعد حدوث تحولات فكرية داخل هذا التراث الثقافي الديني اليهودي، وهي التحولات التي تمثلها إسهامات مفكرين وحاخامات الصهيونية أمثال القلعي وكاليشر.. الذين قاموا بتحريف فكري تجاوزوا به التحريم الديني الذي كان يحرم العودة الجماعية لليهود إلى فلسطين، حيث يشرطها بنزول المسيح (المسيا)، الذي نظر إليه في التراث الديني اليهودي بوصفه الإذن الإلهي بانتقال اليهود جماعيا إلى فلسطين.
"
القول إن الحركة الصهيونية هي "استثمار للتراث اليهودي" هو تأكيد لحقيقة تمكننا من تفسير ما يعجز عنه كثير من التعاريف الأخرى التي تجعل هذه الحركة سواء كفكرة أو كحركة من إنشاء الغرب وحده
"
فقام هؤلاء الحاخامات بنقد هذه العقلية الانتظارية والدعوة إلى ما يمكن أن نسميه استنزال المسيح، بمعنى أن عودة اليهود الجماعية إلى فلسطين ستضطر المسيح إلى النزول!!.
وإن القول إن الحركة الصهيونية هي "استثمار للتراث اليهودي" هو تأكيد لحقيقة تمكننا من تفسير ما يعجز عنه كثير من التعاريف الأخرى التي تجعل هذه الحركة سواء كفكرة أو كحركة من إنشاء الغرب وحده. حيث إن هذه التعاريف تعجز عن الإجابة على أسئلة عديدة من قبيل: لماذا بالضبط تم اختيار اليهود؟ ولماذا فلسطين؟ وهما سؤالان لا يجدان إجابتيهما إلا باستحضار التراث الثقافي والديني اليهودي.
لكن قولنا هذا لا يعني أن الصهيونية نتاج يهودي محض. بل إننا بإشارتنا إلى الدعم الأوروبي، وإشارتنا السابقة إلى كون المشكلة اليهودية مشكلة نشأت داخل المجال الأوروبي تحديدا، نؤكد أن دور العامل الأوروبي سواء كتحول مجتمعي من الإقطاع إلى الرأسمالية أو كإرادة سياسية استعمارية بتوظيف الجماعات غير المرغوب فيها كأداة للاستخدام الاستعماري، هو دور أساس في تشكيل الصهيونية كحركة، واستوائها كدولة استيطانية.
جدلية الإجلاء والتوطين
وعندما نقول في التعريف إن الدولة الصهيونية المقامة في فلسطين "دولة عنصرية" وإنها "ارتكزت في قيامها على جدلية الإجلاء والتوطين"، فإن هذا القول هو استجماع وإيضاح لحقائق عديدة تسعى الحركة الصهيونية إلى إخفائها:
أولها: الطابع العنصري والإرهابي للدولة اليهودية. وثانيها: أنها لم تأت إلى "أرض بلا شعب"، بل جاءت إلى أرض لها أصحابها، ولذا كانت منهجيتها في الاستيطان تقوم على جدلية الإجلاء والتوطين: إجلاء الفلسطينيين ووضع اليهود موضعهم، وهو الإجلاء الذي استخدمت فيه أساليب إرهابية متوحشة بدءا بالحرب وانتهاء بالمذابح ضد المدنيين.
وهكذا يمكن أن نقول إن هذا التعريف المقترح يوفر إمكانية لفهم الظاهرة الصهيونية على حقيقتها، ويستحضر مختلف أبعادها، سواء الأبعاد الثقافية أو التاريخية أو السياسية، الأمر الذي يجعل منه تعريفا دقيقا يفوق غيره من التعاريف المتداولة.
ــــــــــــ
كاتب مغربي
إن الصهيونية كحركة هي بالفعل نتاج سياسي حدث في القرن 19. بيد أن الصهيونية كفكرة موجودة في التراث الثقافي اليهودي، كحنين إلى العودة إلى فلسطين ظهر منذ السبي البابلي، وهو ما تعكسه علامات ورموز ومحددات ثقافية كثيرة داخل التراث الديني اليهودي، ومن بينها المزمور 137, غير أن هذا الحنين كان مجرد فكرة انتظارية مشروطة بنزول "المسيا" (مسيح اليهود)، حيث نجد في الفكر الديني اليهودي تحريما شديدا لهذه العودة، بل تعتبر عودة اليهود هرطقة وتعجيلا بالنهاية (بالعبرية "دحيكات هاكتس").
لذا لم يكن ممكنا للفكرة أن تتحول إلى "حركة" وإستراتيجية عملية إلا بعد حدوث تحولات فكرية داخل هذا التراث الثقافي الديني اليهودي، وهي التحولات التي تمثلها إسهامات مفكرين وحاخامات الصهيونية أمثال القلعي وكاليشر.. الذين قاموا بتحريف فكري تجاوزوا به التحريم الديني الذي كان يحرم العودة الجماعية لليهود إلى فلسطين، حيث يشرطها بنزول المسيح (المسيا)، الذي نظر إليه في التراث الديني اليهودي بوصفه الإذن الإلهي بانتقال اليهود جماعيا إلى فلسطين.
"
القول إن الحركة الصهيونية هي "استثمار للتراث اليهودي" هو تأكيد لحقيقة تمكننا من تفسير ما يعجز عنه كثير من التعاريف الأخرى التي تجعل هذه الحركة سواء كفكرة أو كحركة من إنشاء الغرب وحده
"
فقام هؤلاء الحاخامات بنقد هذه العقلية الانتظارية والدعوة إلى ما يمكن أن نسميه استنزال المسيح، بمعنى أن عودة اليهود الجماعية إلى فلسطين ستضطر المسيح إلى النزول!!.
وإن القول إن الحركة الصهيونية هي "استثمار للتراث اليهودي" هو تأكيد لحقيقة تمكننا من تفسير ما يعجز عنه كثير من التعاريف الأخرى التي تجعل هذه الحركة سواء كفكرة أو كحركة من إنشاء الغرب وحده. حيث إن هذه التعاريف تعجز عن الإجابة على أسئلة عديدة من قبيل: لماذا بالضبط تم اختيار اليهود؟ ولماذا فلسطين؟ وهما سؤالان لا يجدان إجابتيهما إلا باستحضار التراث الثقافي والديني اليهودي.
لكن قولنا هذا لا يعني أن الصهيونية نتاج يهودي محض. بل إننا بإشارتنا إلى الدعم الأوروبي، وإشارتنا السابقة إلى كون المشكلة اليهودية مشكلة نشأت داخل المجال الأوروبي تحديدا، نؤكد أن دور العامل الأوروبي سواء كتحول مجتمعي من الإقطاع إلى الرأسمالية أو كإرادة سياسية استعمارية بتوظيف الجماعات غير المرغوب فيها كأداة للاستخدام الاستعماري، هو دور أساس في تشكيل الصهيونية كحركة، واستوائها كدولة استيطانية.
جدلية الإجلاء والتوطين
وعندما نقول في التعريف إن الدولة الصهيونية المقامة في فلسطين "دولة عنصرية" وإنها "ارتكزت في قيامها على جدلية الإجلاء والتوطين"، فإن هذا القول هو استجماع وإيضاح لحقائق عديدة تسعى الحركة الصهيونية إلى إخفائها:
أولها: الطابع العنصري والإرهابي للدولة اليهودية. وثانيها: أنها لم تأت إلى "أرض بلا شعب"، بل جاءت إلى أرض لها أصحابها، ولذا كانت منهجيتها في الاستيطان تقوم على جدلية الإجلاء والتوطين: إجلاء الفلسطينيين ووضع اليهود موضعهم، وهو الإجلاء الذي استخدمت فيه أساليب إرهابية متوحشة بدءا بالحرب وانتهاء بالمذابح ضد المدنيين.
وهكذا يمكن أن نقول إن هذا التعريف المقترح يوفر إمكانية لفهم الظاهرة الصهيونية على حقيقتها، ويستحضر مختلف أبعادها، سواء الأبعاد الثقافية أو التاريخية أو السياسية، الأمر الذي يجعل منه تعريفا دقيقا يفوق غيره من التعاريف المتداولة.
ــــــــــــ
كاتب مغربي