تلاحم شعبي وبطولات
إن المرء ليذهل حقا من مقدار التنكيل والترويع والسحق والتدمير الواقع على أهل غزة، كما يذهل من مقدار شيفونية وسادية قوات الاحتلال، وقدرتها على سفك الدماء وارتكاب كل هذه الانتهاكات والجرائم الإنسانية.
لكن الدهشة الأكبر تنبع حقيقة من ذلك الإباء والشموخ المشهود لشعب غزة، ومن تجاوزه لصدمة الرعب التى حاول "الرصاص المصبوب" تحقيقها، ومن قدرته على الصمود والتحمل والتحدي رغم نقص وانتقاص كل شيء من حوله، بدءاً من الماء والغذاء والدواء وحتى الأكفان وثلاجات حفظ الموتى.
بل إن المرء ليعجب أكثر وأكثر من تلاحم صفوف ذلك الشعب، ومن البطولات المتحققة على أرضه وبواسطة أبنائه العزل، رغم كل عوامل الشتات من حوله.
عمار أبو عاصي شاب نحيف (18 عاماً لا أكثر) من خان يونس، يجسد أحد هذه البطولات. لم يأبه عمار، ولم يرتعد أمام هدير الطائرات المتربصة بإخوانه من رجال المقاومة، ولا بحركة الآليات المدرعة المتأهبة لدك حصون أولئك الرجال، فأقدم مثل عشرات غيره من الصبية والشباب، في مشهد أصبح معتاداً، على إشعال بعض إطارات السيارات بغرض خلق سحابة من الدخان، تعمي عيون العدو، وتحول بينه وبين قنص أولئك المقاتلين الشرفاء، بيد أنه تم استهدافه -كما يحكي مراسل الجزيرة نت أحمد فياض- بقذيفة غادرة أدت في النهاية إلى جرحه ومن ثم بتر ساقيه.
لا يمكن أن نستوعب أيضاً ثبات تلك الأم الثكلى في أطفالها الخمسة، سميرة بو عسكر، حينما تقرر بعزة وجلد أن أولادها وروحها فداء للوطن، وأن العدو مهما فعل لن يستطع قهر إرادة غزة أو تركيع أهلها. ولا استيعاب كذلك مشهد ذلك المواطن الغزاوي المكلوم في أبنائه وعشيرته، حينما علق بإباء أمام كاميرات التصوير، بأن إسرائيل مهما فعلت لن تنال من الشعب الفلسطيني، وأنها لن تستطيع سوى القضاء على الحجارة، ولا أكثر.
"
أثبت الشعب الفلسطيني إيمانه بالقدر، وبقناعة أفراده بحكامه وقياداته، إذ لم نر أو نسمع من أي من المنكوبين ممن أظهرتهم أو استضافتهم شاشات التلفزيون، تبرمه من الابتلاء الواقع أو تبرمه من سياسات حماس، رغم أن هذا أمر متوقع في مثل هذه المواقف
"
نقطة أخرى لا أستطيع تجاهلها عند الحديث عن التلاحم الشعبي في غزة وصبر وجلد أهلها، وهي تتعلق بإيمان ذلك الشعب بالقدر، وبقناعة أفراده بحكامه وقياداته، إذ لم نر أو نسمع من أي من المنكوبين ممن أظهرتهم أو استضافتهم شاشات التلفزيون، تبرمه من الابتلاء الواقع أو تبرمه من سياسات حماس، رغم أن هذا أمر متوقع في مثل هذه المواقف.
ناهيك عن صور التلاحم الأخرى، من تقاسم كسر الخبز القليلة المتاحة، واستضافة أسر كثيرة، رغم ما تعانيه من ضيق وعوز، للعائلات المنكوبة، وغير ذلك من صور التلاحم الرائعة والشائعة بين أهل غزة.
لسنا هنا في مجال استعراض أو تقييم بطولات رجال المقاومة المسلحين، سواء من حماس أو الجهاد أو غيرها، لأن المخفي منها أكثر من المعلوم، ولأن تركيزنا منصب أساسا على المواقف البطولية لشعب غزة الأعزل، لكننا لا نستطيع مع ذلك إغفال الإشارة إلى تلك النقلة النوعية الحادثة في أسلوب المقاومة وفي تكتيكات العمليات المنفذة، وآخرها نجاح كتائب القسام بعتادها البسيط، في اليوم الرابع عشر من المحرقة، في قنص 12 جنديا إسرائيليا، دفعة واحدة، من خلال كمين محكم نصب لهم في بيت لاهيا.
كي لا تُنسى المحرقة
أخشى ما أخشاه أن تضعف ذاكرة الأمة مجدداً، لتنسى أو تتناسى عظم الجرائم والانتهاكات المرتكبة بحق غزة، والتي لا تمثل حرب الإبادة الجماعية الدائرة ولا المحرقة المشتعلة فيها وفي أهلها حاليا سوى إحدى حلقاتها المستعرة والمتواصلة.
ستنتهي هذه الحرب من دون شك، إن عاجلا أو آجلاً، كمثل الاعتداءات والانتهاكات الواقعة علينا سابقاً، كما سيعاد يوما ما بناء وتعبيد الأبنية والطرق المهدمة، بحيث لا يبدو ظاهراً من أثر الجرائم المرتكبة شيء.
"
يجب ألا نكون أقل فطنة أو دهاء من قتلتنا الذين سوقوا كثيراً لمعتقلات الجيتو وللهولوكوست، محققين من وراء ذلك مكاسب تاريخية وإستراتيجية ومادية عديدة
"
وسوف يستمر أيضاً نمط الحياة والإحساس العربي كأن شيئاً لم يكن، على الأغلب على نفس تبلده وغفلته الحالية، وهذا هو أبشع أنواع الظلم للنفس وللأجيال القادمة. لذا فليس أقل من العمل على تأريخ كل ما حدث وكل جرائم العدو، لا افتراضيا أو إلكترونيا فقط، بل عمليا وميدانيا من خلال جمع كل الشهادات والوثائق والصور المتاحة أمامنا، وليكن في متحف مستقل، يعرض ويوثق كل الجرائم الصهيونية المرتكبة. إسرائيل تبث لقطات لغاراتها على غزة على موقع "اليوتيوب" الشهير، في محاولة لتوجيه رسالة دعائية عن قدرة جيشها على سحق كل من يحاول تدميرها. لماذا لا نفعل شيئاً مشابهاً، وإن كان بطريقة موثقة ومنظمة؟
أعتقد أنه آن الأوان لأن نبحث تفعيل هذا الأمر، فما أقدم عليه العدو هذه المرة، أبشع كثيراً مما يحكى ومما تعرض له اليهود أنفسهم من قبل، بمحارق الهولوكوست النازية (بفرض حدوث ذلك فعلاً).
يجب ألا نكون أقل فطنة أو دهاء من قتلتنا الذين سوقوا كثيراً لمعتقلات الجيتو وللهولوكوست، محققين من وراء ذلك مكاسب تاريخية وإستراتيجية ومادية عديدة.
ليس هناك شك في أن دماء وأسماء ضحايانا من الشرفاء والأبرياء، أشرف وأعز كثيراً من تلك الدماء الممقوتة. لذا أكرر وأقول بأنه ليس أقل من تذكير العالم بما ارتكب بحقها، وليس أقل من تخليد عبق دمائها الطاهرة.
النصرة الواجبة
بعيداً عن فكرة توثيق جرائم المحرقة، لسنا بحاجة للقول بأن نصرة شعب غزة وفلسطين واجبة، بل تعد فرض عين في مثل هذا الظرف، الذي فاقت وحشية العدو الإسرائيلي فيه كل وصف.
وهذا لن يتأتى إلا بالجهاد سواء بالنفس أو المال أو الجهد، فإن لم يكن فبأضعف الإيمان، وهو الدعاء لأهل غزة ومد لهم يد العون، وحث الحكومات على اتخاذ موقف أكثر إيجابية، تجاه غزة وتجاه القضية عموماً. بيد أنه يجب ألا تتوقف جهودنا أبدا عند مجرد الدعاء أو مصمصة الشفاه أو ذرف الدمع. هذا جيد، لكن غزة محتاجة الآن ولا شك لكل عمل ثاقب وفاعل.
فإن لم يكن بمقدور أي منا هذا، فلا بأس حينئذ من تذكير الأخوة في غزة وفلسطين بدعاء المصطفى (صلى الله عليه وسلم) المعروف، حينما شعر في موقف مماثل بهوانه على الناس وتملك العدو منه، قائلاً "اللهم أنْتَ أَرْحَمُ الرَّاحِمِينَ، أَنْتَ ربُّ المُسْتَضْعَفِينَ، وأَنْتَ رَبِّي، إِلَى مَنْ تَكِلُنِي؟ إِلَى بَعِيدٍ يَتَجَهَّمُنِي، أَمْ إَلَى عَدُوٍّ مَلَّكْتَهُ أَمْرِي؟ إِنْ لَمْ يَكُنْ بِكَ غَضَبٌ عَلَيَّ فَلا أُبَالِي، غَيْرَ أنَّ عَافِيَتَكَ أَوْسَعُ لِي، أَعُوذُ بِنُورِ وَجْهِكَ الكَرِيمِ".
ـــــــــــ
كاتب مصري
إن المرء ليذهل حقا من مقدار التنكيل والترويع والسحق والتدمير الواقع على أهل غزة، كما يذهل من مقدار شيفونية وسادية قوات الاحتلال، وقدرتها على سفك الدماء وارتكاب كل هذه الانتهاكات والجرائم الإنسانية.
لكن الدهشة الأكبر تنبع حقيقة من ذلك الإباء والشموخ المشهود لشعب غزة، ومن تجاوزه لصدمة الرعب التى حاول "الرصاص المصبوب" تحقيقها، ومن قدرته على الصمود والتحمل والتحدي رغم نقص وانتقاص كل شيء من حوله، بدءاً من الماء والغذاء والدواء وحتى الأكفان وثلاجات حفظ الموتى.
بل إن المرء ليعجب أكثر وأكثر من تلاحم صفوف ذلك الشعب، ومن البطولات المتحققة على أرضه وبواسطة أبنائه العزل، رغم كل عوامل الشتات من حوله.
عمار أبو عاصي شاب نحيف (18 عاماً لا أكثر) من خان يونس، يجسد أحد هذه البطولات. لم يأبه عمار، ولم يرتعد أمام هدير الطائرات المتربصة بإخوانه من رجال المقاومة، ولا بحركة الآليات المدرعة المتأهبة لدك حصون أولئك الرجال، فأقدم مثل عشرات غيره من الصبية والشباب، في مشهد أصبح معتاداً، على إشعال بعض إطارات السيارات بغرض خلق سحابة من الدخان، تعمي عيون العدو، وتحول بينه وبين قنص أولئك المقاتلين الشرفاء، بيد أنه تم استهدافه -كما يحكي مراسل الجزيرة نت أحمد فياض- بقذيفة غادرة أدت في النهاية إلى جرحه ومن ثم بتر ساقيه.
لا يمكن أن نستوعب أيضاً ثبات تلك الأم الثكلى في أطفالها الخمسة، سميرة بو عسكر، حينما تقرر بعزة وجلد أن أولادها وروحها فداء للوطن، وأن العدو مهما فعل لن يستطع قهر إرادة غزة أو تركيع أهلها. ولا استيعاب كذلك مشهد ذلك المواطن الغزاوي المكلوم في أبنائه وعشيرته، حينما علق بإباء أمام كاميرات التصوير، بأن إسرائيل مهما فعلت لن تنال من الشعب الفلسطيني، وأنها لن تستطيع سوى القضاء على الحجارة، ولا أكثر.
"
أثبت الشعب الفلسطيني إيمانه بالقدر، وبقناعة أفراده بحكامه وقياداته، إذ لم نر أو نسمع من أي من المنكوبين ممن أظهرتهم أو استضافتهم شاشات التلفزيون، تبرمه من الابتلاء الواقع أو تبرمه من سياسات حماس، رغم أن هذا أمر متوقع في مثل هذه المواقف
"
نقطة أخرى لا أستطيع تجاهلها عند الحديث عن التلاحم الشعبي في غزة وصبر وجلد أهلها، وهي تتعلق بإيمان ذلك الشعب بالقدر، وبقناعة أفراده بحكامه وقياداته، إذ لم نر أو نسمع من أي من المنكوبين ممن أظهرتهم أو استضافتهم شاشات التلفزيون، تبرمه من الابتلاء الواقع أو تبرمه من سياسات حماس، رغم أن هذا أمر متوقع في مثل هذه المواقف.
ناهيك عن صور التلاحم الأخرى، من تقاسم كسر الخبز القليلة المتاحة، واستضافة أسر كثيرة، رغم ما تعانيه من ضيق وعوز، للعائلات المنكوبة، وغير ذلك من صور التلاحم الرائعة والشائعة بين أهل غزة.
لسنا هنا في مجال استعراض أو تقييم بطولات رجال المقاومة المسلحين، سواء من حماس أو الجهاد أو غيرها، لأن المخفي منها أكثر من المعلوم، ولأن تركيزنا منصب أساسا على المواقف البطولية لشعب غزة الأعزل، لكننا لا نستطيع مع ذلك إغفال الإشارة إلى تلك النقلة النوعية الحادثة في أسلوب المقاومة وفي تكتيكات العمليات المنفذة، وآخرها نجاح كتائب القسام بعتادها البسيط، في اليوم الرابع عشر من المحرقة، في قنص 12 جنديا إسرائيليا، دفعة واحدة، من خلال كمين محكم نصب لهم في بيت لاهيا.
كي لا تُنسى المحرقة
أخشى ما أخشاه أن تضعف ذاكرة الأمة مجدداً، لتنسى أو تتناسى عظم الجرائم والانتهاكات المرتكبة بحق غزة، والتي لا تمثل حرب الإبادة الجماعية الدائرة ولا المحرقة المشتعلة فيها وفي أهلها حاليا سوى إحدى حلقاتها المستعرة والمتواصلة.
ستنتهي هذه الحرب من دون شك، إن عاجلا أو آجلاً، كمثل الاعتداءات والانتهاكات الواقعة علينا سابقاً، كما سيعاد يوما ما بناء وتعبيد الأبنية والطرق المهدمة، بحيث لا يبدو ظاهراً من أثر الجرائم المرتكبة شيء.
"
يجب ألا نكون أقل فطنة أو دهاء من قتلتنا الذين سوقوا كثيراً لمعتقلات الجيتو وللهولوكوست، محققين من وراء ذلك مكاسب تاريخية وإستراتيجية ومادية عديدة
"
وسوف يستمر أيضاً نمط الحياة والإحساس العربي كأن شيئاً لم يكن، على الأغلب على نفس تبلده وغفلته الحالية، وهذا هو أبشع أنواع الظلم للنفس وللأجيال القادمة. لذا فليس أقل من العمل على تأريخ كل ما حدث وكل جرائم العدو، لا افتراضيا أو إلكترونيا فقط، بل عمليا وميدانيا من خلال جمع كل الشهادات والوثائق والصور المتاحة أمامنا، وليكن في متحف مستقل، يعرض ويوثق كل الجرائم الصهيونية المرتكبة. إسرائيل تبث لقطات لغاراتها على غزة على موقع "اليوتيوب" الشهير، في محاولة لتوجيه رسالة دعائية عن قدرة جيشها على سحق كل من يحاول تدميرها. لماذا لا نفعل شيئاً مشابهاً، وإن كان بطريقة موثقة ومنظمة؟
أعتقد أنه آن الأوان لأن نبحث تفعيل هذا الأمر، فما أقدم عليه العدو هذه المرة، أبشع كثيراً مما يحكى ومما تعرض له اليهود أنفسهم من قبل، بمحارق الهولوكوست النازية (بفرض حدوث ذلك فعلاً).
يجب ألا نكون أقل فطنة أو دهاء من قتلتنا الذين سوقوا كثيراً لمعتقلات الجيتو وللهولوكوست، محققين من وراء ذلك مكاسب تاريخية وإستراتيجية ومادية عديدة.
ليس هناك شك في أن دماء وأسماء ضحايانا من الشرفاء والأبرياء، أشرف وأعز كثيراً من تلك الدماء الممقوتة. لذا أكرر وأقول بأنه ليس أقل من تذكير العالم بما ارتكب بحقها، وليس أقل من تخليد عبق دمائها الطاهرة.
النصرة الواجبة
بعيداً عن فكرة توثيق جرائم المحرقة، لسنا بحاجة للقول بأن نصرة شعب غزة وفلسطين واجبة، بل تعد فرض عين في مثل هذا الظرف، الذي فاقت وحشية العدو الإسرائيلي فيه كل وصف.
وهذا لن يتأتى إلا بالجهاد سواء بالنفس أو المال أو الجهد، فإن لم يكن فبأضعف الإيمان، وهو الدعاء لأهل غزة ومد لهم يد العون، وحث الحكومات على اتخاذ موقف أكثر إيجابية، تجاه غزة وتجاه القضية عموماً. بيد أنه يجب ألا تتوقف جهودنا أبدا عند مجرد الدعاء أو مصمصة الشفاه أو ذرف الدمع. هذا جيد، لكن غزة محتاجة الآن ولا شك لكل عمل ثاقب وفاعل.
فإن لم يكن بمقدور أي منا هذا، فلا بأس حينئذ من تذكير الأخوة في غزة وفلسطين بدعاء المصطفى (صلى الله عليه وسلم) المعروف، حينما شعر في موقف مماثل بهوانه على الناس وتملك العدو منه، قائلاً "اللهم أنْتَ أَرْحَمُ الرَّاحِمِينَ، أَنْتَ ربُّ المُسْتَضْعَفِينَ، وأَنْتَ رَبِّي، إِلَى مَنْ تَكِلُنِي؟ إِلَى بَعِيدٍ يَتَجَهَّمُنِي، أَمْ إَلَى عَدُوٍّ مَلَّكْتَهُ أَمْرِي؟ إِنْ لَمْ يَكُنْ بِكَ غَضَبٌ عَلَيَّ فَلا أُبَالِي، غَيْرَ أنَّ عَافِيَتَكَ أَوْسَعُ لِي، أَعُوذُ بِنُورِ وَجْهِكَ الكَرِيمِ".
ـــــــــــ
كاتب مصري