التطرف من أكثر الألفاظ إلحاحاً على ألسن الكتاب والمثقفين والإعلاميين والساسة في هذا الوقت, خاصةً بعد أحداث نيويورك وتداعياتها, وهي كلمة مولدة غير أصلية.
وعند ابن فارس: أن الطاء والراء والفاء أصلان؛ فالأول يدل على حد الشيء وطرفه, والثاني يدل على حركته فيه، وتطرف الشيء صار طرفاً.
ومصطلح التطرف في عصرنا الحاضر أصبح فضفاضاً واسعاً, يدخل فيه ما قرب وما بعد, حيث إن المفهوم لمصطلح ما في أي لغة هو عبارة عن ظلال تلقيها عليه تجارب اجتماعية، ومحكّات إنسانية، وحوادث طويلة؛ تؤدي في النهاية إلى وظائف ومعارف مخصوصة لهذا المصطلح في محيط بيئته, سواء أقرها المجتمع أو لم يقرها.
ومتاهة المصطلحات سبب وطيد للتباعد في المواقف، وتحول الحوار إلى نوع من الصراخ في قوم لا يسمعون، إذ إن التطرف هو محاولة للتعريف بحسب الموقع الذي يشغله المرء.
فأنت إذا افترضت نفسك تعبيراً عن الوسط، الذي هو رمز الاعتدال والتوازن والفضيلة، وهو مقام يتفق الجميع على نشدانه وتطلبه، فالفضيلة وسط بين رذيلتين، كما كان يقول أرسطو, وهو الحسنة بين السيئتين, وهذا ما قرره علماء الإسلام؛ كالغزالي وابن تيمية وابن القيم وغيرهم، وهو أحد معاني الأمة الوسط في القرآن الكريم يقول سبحانه وتعالى : "وَكَذَلِكَ جَعَلْنَاكُمْ أُمَّةً وَسَطاً"[البقرة:143]، قال ابن عباس: جعلكم أمةً عُدولا. وقال علي: خير الناس هذا النمط الأوسط، يلحق بهم التالي، ويرجع إليهم الغالي.
إنك إذا افترضت نفسك ممثلاً لهذه القيمة الراقية " الوسطية " فأنت تحدد مواقع الآخرين تبعاً لذلك، فهذا يمين، وهذا يسار، وذاك يمين اليمين، وذاك يسار اليسار، وهذا متطرف، وهذا غير متطرف.
ولنا أن نعتبر هذا امتداداً للمبالغة في رؤية الذات، وتقدير قيمتها، واعتبارها ميزاناً للحكم والتقدير، وربما محاولة لرسم منهج تفكير الآخرين دون ترك الخيار لهم.
إن من الأشخاص من يوجد في نسيج تكوينهم العقلي والنفسي مبدأ التوازن والاعتدال، وهذه قيمة شريفة، ونعمة غالية، ولقد كان العلماء يجعلون الفضيلة العليا هي فضيلة العدالة التي تتمثل في التوافق والانسجام بين قوى النفس عن طريق العقل، فلا تبغي إحداها على الأخرى، فيكون ثمت توازن بين قانون العقل وحركة النفس.
وبإزاء هؤلاء جبل آخرون على نوع من الحدة المتمثلة في تفوق صفة من صفات النفس على غيرها، كصفة الغضب، أو صفة الشهوة، ويفتقد التوازن داخل نظام العقل وحركة النفس، فأحياناً يكون العقل ذا سلطة مستبدة على النفس، وأحياناً العكس، وفقدان التوازن هنا مؤهل لصنع أنظمة غير وسطية في مناهج التفكير والتربية، بل والعلم والمعرفة.
وهذا التكوين الفطري ذو علاقة وطيدة بنوع الاختيار العلمي والعملي الذي ينحو إليه المرء في غالب الأحيان، ما لم يقاومه ما هو أبلغ تأثيراً، وأعظم وقعاً.
ونتيجة لهذا فإنك تجد اختيارات الإنسان وآراءه، وأنماط سلوكه وحياته متجانسة؛ لأنها تخرج من مشكاة واحدة.
ولحسن الحظ فإن غالب الناس هم في دائرة الوسط والعدل من حيث نظام التعامل الحياتي في أصل تكوينهم، ودائرة الوسط ليست صيغة واحدة، لكنها إطار عام يحتوي طبقات عريضة من الناس.
ويبقى أن هذه الوسطية الفطرية التي يتحلى بها أكثر الناس ليست سوى مؤهل بقبول الحق، والتأثر به، والتسليم له، فهي نوع استعداد لا يفيد ما لم تنطبع عليه آثار الهداية الربانية.
ولهذا جاء في الكتاب والسنة تشبيه الوحي بالمطر، وتشبيه النفس القابلة للهدى بالأرض الطيبة، وأخص من ذلك تشبيه القلب الخاشع بالأرض الحية، والقلب الغافل بالأرض الميتة، قال الله جل شأنه: "أَلَمْ يَأْنِ لِلَّذِينَ آمَنُوا أَنْ تَخْشَعَ قُلُوبُهُمْ لِذِكْرِ اللَّهِ وَمَا نَزَلَ مِنَ الْحَقِّ وَلا يَكُونُوا كَالَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ مِنْ قَبْلُ فَطَالَ عَلَيْهِمُ الْأَمَدُ فَقَسَتْ قُلُوبُهُمْ وَكَثِيرٌ مِنْهُمْ فَاسِقُونَ"[الحديد:16]، ثم عقب بقوله: "اعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ يُحْيِي الْأَرْضَ بَعْدَ مَوْتِهَا قَدْ بَيَّنَّا لَكُمُ الْآياتِ لَعَلَّكُمْ تَعْقِلُونَ"[الحديد:17]، قال ابن كثير في تفسيره: فيه إشارة إلى أن الله تعالى يلين القلوب بعد قسوتها، ويهدي الحيارى بعد ضلتها، ويفرج الكروب بعد شدتها..
وفي البخاري ومسلم وأحمد من حديث أَبِى مُوسَى الأشعري رضي الله عنه عَنِ النبي صلى الله عليه وسلم قَالَ: (مَثَلُ مَا بعثني اللَّهُ بِهِ مِنَ الْهُدَى وَالْعِلْمِ كَمَثَلِ الْغَيْثِ الْكَثِيرِ أَصَابَ أَرْضاً، فَكَانَ مِنْهَا نَقِيَّةٌ قَبِلَتِ الْمَاءَ، فَأَنْبَتَتِ الْكَلأَ وَالْعُشْبَ الْكَثِيرَ، وَكَانَتْ مِنْهَا أَجَادِبُ أَمْسَكَتِ الْمَاءَ، فَنَفَعَ اللَّهُ بِهَا النَّاسَ، فَشَرِبُوا وَسَقَوْا وَزَرَعُوا، وَأَصَابَتْ مِنْهَا طَائِفَةً أُخْرَى، إِنَّمَا هي قِيعَانٌ لاَ تُمْسِكُ مَاءً، وَلاَ تُنْبِتُ كَلأً، فَذَلِكَ مَثَلُ مَنْ فَقِهَ في دِينِ اللَّهِ وَنَفَعَهُ مَا بعثني اللَّهُ بِهِ، فَعَلِمَ وَعَلَّمَ، وَمَثَلُ مَنْ لَمْ يَرْفَعْ بِذَلِكَ رَأْساً، وَلَمْ يَقْبَلْ هُدَى اللَّهِ الذي أُرْسِلْتُ بِهِ)، فيتحصل من هذا المعنى أن الاعتدال يقوم على ركنين:
الأول: الاتباع الصادق لما جاء عن الله ورسوله، وتحكيم الوحي في كل شاردة وواردة، وصغيرة وكبيرة.
الثاني: قابلية المحل لذلك، بكون المرء مستعداً لذلك في تكوينه وجبلته، فالوحي هو النور، والمحل القابل لذلك هو كالمشكاة التي ينبعث منها النور، ولذا قال الله سبحانه وتعالى: " مَثَلُ نُورِهِ كَمِشْكَاةٍ فِيهَا مِصْبَاحٌ"[النور:35] على أحد الوجوه في تفسير الآية الكريمة ، والوحي هو المطر، والمحل القابل هو الأرض الطيبة المستعدة كما في النصوص الأخرى.
وبهذا يكون المعيار هو الوحي الرباني من الكتاب والسنة، والناطق بهذه الحجة هم أهل الاعتدال من حملة الشريعة في كل زمان ومكان، وهذا المعنى ظاهر في الحديث المرسل من طرق: ( يحمل هذا العلم من كل خلف عدوله، ينفون عنه تأويل الجاهلين، وانتحال المبطلين، وتحريف الغالين)، فهذا النص ومثله كثير، يكشف أن المهتدين بنور الكتاب والسنة من أهل العدل والإنصاف والتوسط هم الجادّة التي يرد إليها من نفر عنها، وهكذا في سورة الفاتحة " الْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ (2) الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ (3) مَالِكِ يَوْمِ الدِّينِ (4) إِيَّاكَ نَعْبُدُ وَإِيَّاكَ نَسْتَعِينُ (5) اهْدِنَا الصِّرَاطَ الْمُسْتَقِيمَ (6) صِرَاطَ الَّذِينَ أَنْعَمْتَ عَلَيْهِمْ غَيْرِ الْمَغْضُوبِ عَلَيْهِمْ وَلَا الضَّالِّينَ (7)"، فذكر الجادة الوسط المستقيمة وذكر ما يخالفها ذات اليمين وذات الشمال من المغضوب عليهم والضالين, وفيه إشارة إلى أهمية قيام القدوة العملية الحياتية لهذه الوسطية وأن لا تكون قيمة نظرية فحسب.
والغلو بكل صوره وأشكاله هو الاستثناء الذي يعزز القاعدة ويؤكدها.
ولهذا حذر النبي صلى الله عليه وسلم من الغلو، كما في حديث ابن عباس رضي الله عنهما أن النبي صلى الله عليه وسلم قال : (أَمْثَالَ هَؤُلاَءِ فَارْمُوا ) ـ يعني حصى الجمار ـ. ( يَا أَيُّهَا النَّاسُ إِيَّاكُمْ وَالْغُلُوَّ في الدِّينِ فَإِنَّمَا أَهْلَكَ مَنْ كَانَ قَبْلَكُمُ الْغُلُوُّ في الدِّينِ )، كما عند النسائي وأحمد وغيرهما
وعند ابن فارس: أن الطاء والراء والفاء أصلان؛ فالأول يدل على حد الشيء وطرفه, والثاني يدل على حركته فيه، وتطرف الشيء صار طرفاً.
ومصطلح التطرف في عصرنا الحاضر أصبح فضفاضاً واسعاً, يدخل فيه ما قرب وما بعد, حيث إن المفهوم لمصطلح ما في أي لغة هو عبارة عن ظلال تلقيها عليه تجارب اجتماعية، ومحكّات إنسانية، وحوادث طويلة؛ تؤدي في النهاية إلى وظائف ومعارف مخصوصة لهذا المصطلح في محيط بيئته, سواء أقرها المجتمع أو لم يقرها.
ومتاهة المصطلحات سبب وطيد للتباعد في المواقف، وتحول الحوار إلى نوع من الصراخ في قوم لا يسمعون، إذ إن التطرف هو محاولة للتعريف بحسب الموقع الذي يشغله المرء.
فأنت إذا افترضت نفسك تعبيراً عن الوسط، الذي هو رمز الاعتدال والتوازن والفضيلة، وهو مقام يتفق الجميع على نشدانه وتطلبه، فالفضيلة وسط بين رذيلتين، كما كان يقول أرسطو, وهو الحسنة بين السيئتين, وهذا ما قرره علماء الإسلام؛ كالغزالي وابن تيمية وابن القيم وغيرهم، وهو أحد معاني الأمة الوسط في القرآن الكريم يقول سبحانه وتعالى : "وَكَذَلِكَ جَعَلْنَاكُمْ أُمَّةً وَسَطاً"[البقرة:143]، قال ابن عباس: جعلكم أمةً عُدولا. وقال علي: خير الناس هذا النمط الأوسط، يلحق بهم التالي، ويرجع إليهم الغالي.
إنك إذا افترضت نفسك ممثلاً لهذه القيمة الراقية " الوسطية " فأنت تحدد مواقع الآخرين تبعاً لذلك، فهذا يمين، وهذا يسار، وذاك يمين اليمين، وذاك يسار اليسار، وهذا متطرف، وهذا غير متطرف.
ولنا أن نعتبر هذا امتداداً للمبالغة في رؤية الذات، وتقدير قيمتها، واعتبارها ميزاناً للحكم والتقدير، وربما محاولة لرسم منهج تفكير الآخرين دون ترك الخيار لهم.
إن من الأشخاص من يوجد في نسيج تكوينهم العقلي والنفسي مبدأ التوازن والاعتدال، وهذه قيمة شريفة، ونعمة غالية، ولقد كان العلماء يجعلون الفضيلة العليا هي فضيلة العدالة التي تتمثل في التوافق والانسجام بين قوى النفس عن طريق العقل، فلا تبغي إحداها على الأخرى، فيكون ثمت توازن بين قانون العقل وحركة النفس.
وبإزاء هؤلاء جبل آخرون على نوع من الحدة المتمثلة في تفوق صفة من صفات النفس على غيرها، كصفة الغضب، أو صفة الشهوة، ويفتقد التوازن داخل نظام العقل وحركة النفس، فأحياناً يكون العقل ذا سلطة مستبدة على النفس، وأحياناً العكس، وفقدان التوازن هنا مؤهل لصنع أنظمة غير وسطية في مناهج التفكير والتربية، بل والعلم والمعرفة.
وهذا التكوين الفطري ذو علاقة وطيدة بنوع الاختيار العلمي والعملي الذي ينحو إليه المرء في غالب الأحيان، ما لم يقاومه ما هو أبلغ تأثيراً، وأعظم وقعاً.
ونتيجة لهذا فإنك تجد اختيارات الإنسان وآراءه، وأنماط سلوكه وحياته متجانسة؛ لأنها تخرج من مشكاة واحدة.
ولحسن الحظ فإن غالب الناس هم في دائرة الوسط والعدل من حيث نظام التعامل الحياتي في أصل تكوينهم، ودائرة الوسط ليست صيغة واحدة، لكنها إطار عام يحتوي طبقات عريضة من الناس.
ويبقى أن هذه الوسطية الفطرية التي يتحلى بها أكثر الناس ليست سوى مؤهل بقبول الحق، والتأثر به، والتسليم له، فهي نوع استعداد لا يفيد ما لم تنطبع عليه آثار الهداية الربانية.
ولهذا جاء في الكتاب والسنة تشبيه الوحي بالمطر، وتشبيه النفس القابلة للهدى بالأرض الطيبة، وأخص من ذلك تشبيه القلب الخاشع بالأرض الحية، والقلب الغافل بالأرض الميتة، قال الله جل شأنه: "أَلَمْ يَأْنِ لِلَّذِينَ آمَنُوا أَنْ تَخْشَعَ قُلُوبُهُمْ لِذِكْرِ اللَّهِ وَمَا نَزَلَ مِنَ الْحَقِّ وَلا يَكُونُوا كَالَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ مِنْ قَبْلُ فَطَالَ عَلَيْهِمُ الْأَمَدُ فَقَسَتْ قُلُوبُهُمْ وَكَثِيرٌ مِنْهُمْ فَاسِقُونَ"[الحديد:16]، ثم عقب بقوله: "اعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ يُحْيِي الْأَرْضَ بَعْدَ مَوْتِهَا قَدْ بَيَّنَّا لَكُمُ الْآياتِ لَعَلَّكُمْ تَعْقِلُونَ"[الحديد:17]، قال ابن كثير في تفسيره: فيه إشارة إلى أن الله تعالى يلين القلوب بعد قسوتها، ويهدي الحيارى بعد ضلتها، ويفرج الكروب بعد شدتها..
وفي البخاري ومسلم وأحمد من حديث أَبِى مُوسَى الأشعري رضي الله عنه عَنِ النبي صلى الله عليه وسلم قَالَ: (مَثَلُ مَا بعثني اللَّهُ بِهِ مِنَ الْهُدَى وَالْعِلْمِ كَمَثَلِ الْغَيْثِ الْكَثِيرِ أَصَابَ أَرْضاً، فَكَانَ مِنْهَا نَقِيَّةٌ قَبِلَتِ الْمَاءَ، فَأَنْبَتَتِ الْكَلأَ وَالْعُشْبَ الْكَثِيرَ، وَكَانَتْ مِنْهَا أَجَادِبُ أَمْسَكَتِ الْمَاءَ، فَنَفَعَ اللَّهُ بِهَا النَّاسَ، فَشَرِبُوا وَسَقَوْا وَزَرَعُوا، وَأَصَابَتْ مِنْهَا طَائِفَةً أُخْرَى، إِنَّمَا هي قِيعَانٌ لاَ تُمْسِكُ مَاءً، وَلاَ تُنْبِتُ كَلأً، فَذَلِكَ مَثَلُ مَنْ فَقِهَ في دِينِ اللَّهِ وَنَفَعَهُ مَا بعثني اللَّهُ بِهِ، فَعَلِمَ وَعَلَّمَ، وَمَثَلُ مَنْ لَمْ يَرْفَعْ بِذَلِكَ رَأْساً، وَلَمْ يَقْبَلْ هُدَى اللَّهِ الذي أُرْسِلْتُ بِهِ)، فيتحصل من هذا المعنى أن الاعتدال يقوم على ركنين:
الأول: الاتباع الصادق لما جاء عن الله ورسوله، وتحكيم الوحي في كل شاردة وواردة، وصغيرة وكبيرة.
الثاني: قابلية المحل لذلك، بكون المرء مستعداً لذلك في تكوينه وجبلته، فالوحي هو النور، والمحل القابل لذلك هو كالمشكاة التي ينبعث منها النور، ولذا قال الله سبحانه وتعالى: " مَثَلُ نُورِهِ كَمِشْكَاةٍ فِيهَا مِصْبَاحٌ"[النور:35] على أحد الوجوه في تفسير الآية الكريمة ، والوحي هو المطر، والمحل القابل هو الأرض الطيبة المستعدة كما في النصوص الأخرى.
وبهذا يكون المعيار هو الوحي الرباني من الكتاب والسنة، والناطق بهذه الحجة هم أهل الاعتدال من حملة الشريعة في كل زمان ومكان، وهذا المعنى ظاهر في الحديث المرسل من طرق: ( يحمل هذا العلم من كل خلف عدوله، ينفون عنه تأويل الجاهلين، وانتحال المبطلين، وتحريف الغالين)، فهذا النص ومثله كثير، يكشف أن المهتدين بنور الكتاب والسنة من أهل العدل والإنصاف والتوسط هم الجادّة التي يرد إليها من نفر عنها، وهكذا في سورة الفاتحة " الْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ (2) الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ (3) مَالِكِ يَوْمِ الدِّينِ (4) إِيَّاكَ نَعْبُدُ وَإِيَّاكَ نَسْتَعِينُ (5) اهْدِنَا الصِّرَاطَ الْمُسْتَقِيمَ (6) صِرَاطَ الَّذِينَ أَنْعَمْتَ عَلَيْهِمْ غَيْرِ الْمَغْضُوبِ عَلَيْهِمْ وَلَا الضَّالِّينَ (7)"، فذكر الجادة الوسط المستقيمة وذكر ما يخالفها ذات اليمين وذات الشمال من المغضوب عليهم والضالين, وفيه إشارة إلى أهمية قيام القدوة العملية الحياتية لهذه الوسطية وأن لا تكون قيمة نظرية فحسب.
والغلو بكل صوره وأشكاله هو الاستثناء الذي يعزز القاعدة ويؤكدها.
ولهذا حذر النبي صلى الله عليه وسلم من الغلو، كما في حديث ابن عباس رضي الله عنهما أن النبي صلى الله عليه وسلم قال : (أَمْثَالَ هَؤُلاَءِ فَارْمُوا ) ـ يعني حصى الجمار ـ. ( يَا أَيُّهَا النَّاسُ إِيَّاكُمْ وَالْغُلُوَّ في الدِّينِ فَإِنَّمَا أَهْلَكَ مَنْ كَانَ قَبْلَكُمُ الْغُلُوُّ في الدِّينِ )، كما عند النسائي وأحمد وغيرهما