ربما كانت كلمة (( التطرف )) من أكثر الألفاظ إلحاحاً على ألسن الكتبة والإعلاميين والساسة في هذا الوقت ، ولعل أحداث نيويورك وتداعياتها دفعتها دفعاً إلى مقدمة المصطلحات الدارجة التي تعبر عن بعض مكنونات النفس وتغني عن تطويل وسرد عريض ، وهي كلمة مولدة غير أصيلة ، ويفترض أنها تعني عند من يطلقها وقوف الإنسان في طرف بعيد عن مركز الوسط .
ومتاهة المصطلحات سبب وطيد للتباعد في المواقف ، وتحول الحوار إلى نوع من الصراخ في قوم لا يسمعون ، إذ إن التطرف هو محاولة للتعريف بحسب الموقع الذي يشغله المرء .
فأنت إذا افترضت نفسك تعبيراً عن الوسط ، الذي هو رمز الاعتدال والتوازن والفضيلة ، وهو مقام يتفق الجميع على نشدانه وتطلبه ، فالفضيلة وسط بين رذيلتين ، كما كان يقول أرسطو ، وقرر هذا علماء الإسلام كالغزالي وابن تيمية وابن القيم وغيرهم ، وهو أحد معاني الأمة الوسط في القرآن الكريم يقول سبحانه وتعالى : ( وكذلك جعلناكم أمة وسطاً ) .
إذا افترضت نفسك ممثلاً لهذه القيمة الراقية " الوسطية " فأنت تحدد مواقع الآخرين تبعاً لذلك ، فهذا يمين ، وهذا يسار ، وذاك يمين اليمين ، وذاك يسار اليسار ، وهذا متطرف ، وهذا غير متطرف .
ولنا أن نعتبر هذا امتداداً للمبالغة في رؤية الذات وتقدير قيمتها واعتبارها ميزاناً للحكم والتقدير ، وربما محاولة لرسم منهج تفكير الآخرين دون ترك الخيار لهم .
إن من الأشخاص من يوجد في نسيج تكوينهم العقلي والنفسي مبدأ التوازن والاعتدال ، وهذه قيمة شريفة ، ونعمة غالية ، ولقد كان العلماء يجعلون الفضيلة العليا هي فضيلة العدالة التي تتمثل في التوافق والانسجام بين قوى النفس عن طريق العقل ، فلا تبغي إحداها على الأخرى ، فيكون ثمت توازن بين قانون العقل وحركة النفس .
وبإزاء هؤلاء جبل آخرون على نوع من الحدة المتمثلة في تفوق صفة من صفات النفس على غيرها ، كصفة الغضب ، أو صفة الشهوة ، ويفتقد التوازن داخل نظام العقل وحركة النفس ، فأحياناً يكون العقل ذا سلطة مستبدة على النفس ، وأحياناً العكس ، وفقدان التوازن هنا مؤهل لصنع أنظمة غير وسطة في مناهج التفكير والتربية ، بل والعلم والمعرفة .
وهذا التكوين الفطري ذو علاقة وطيدة بنوع الاختيار العلمي والعملي الذي ينحو إليه المرء في غالب الأحيان ، ما لم يقاومه ما هو أبلغ تأثيراً ، وأعظم وقعاً .
ونتيجة لهذا فإنك تجد اختيارات الإنسان وآراءه ، وأنماط سلوكه وحياته متجانسة ؛ لأنها تخرج من مشكاة واحدة .
ولحسن الحظ فإن غالب الناس هم في دائرة الوسط والعدل من حيث نظام التعامل الحياتي في أصل تكوينهم ، ودائرة الوسط ليست صيغة واحدة ، لكنها إطار عام يحتوي طبقات عريضة من الناس .
ويبقى أن هذه الوسطية الفطرية التي يتحلى بها أكثر الناس ليست سوى مؤهل بقبول الحق والتأثر به والتسليم له ، فهي نوع استعداد لا يفيد ما لم تنطبع عليه آثار الهداية الربانية .
ولهذا جاء في الكتاب والسنة تشبيه الوحي بالمطر ، وتشبيه النفس القابلة للهدى بالأرض الطيبة ، وأخص من ذلك تشبيه القلب الخاشع بالأرض الحية ، والقلب الغافل بالأرض الميتة ، قال الله جل شأنه : ( ألم يأن للذين آمنوا أن تخشع قلوبهم لذكر الله وما نزل من الحق ولا يكونوا كالذين أوتوا الكتاب من قبل فطال عليهم الأمد فقست قلوبهم وكثير منهم فاسقون ) .
ثم عقب بقوله : ( اعلموا أن الله يحي الأرض بعد موتها قد بينا لكم الآيات لعلكم تعقلون ).
قال ابن كثير في تفسيره : فيه إشارة إلى أن الله تعالى يلين القلوب بعد قسوتها ، ويهدي الحيارى بعد ضلتها ، ويفرج الكروب بعد شدتها ...
وفي البخاري (77) ومسلم (4232) وأحمد (18752) من حديث أبي موسى الأشعري رضي الله عنه عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال : ( مثل مابعثني الله به من الهدى والعلم كمثل الغيث الكثير أصاب أرضاً ، فكان منها نقية قبلت الماء ، فأنبتت الكلأ والعشب الكثير ، وكان منها أجادب أمسكت الماء ، فنفع الله بها الناس ، فشربوا منها وسقوا وزرعوا ، وأصاب منها طائفة أخرى إنما هي قيعان لاتمسك ماءً ولاتنبت كلأً ، فذلك مثل من فقه في دين الله ، ونفعه مابعثني الله به فعلم وعلم ، ومثل من لم يرفع بذلك رأساً ، ولم يقبل هدى الله الذي أرسلت به ) .
فيتحصل من هذا المعنى أن الاعتدال يقوم على ركنين :
الأول : الاتباع الصادق لما جاء عن الله ورسوله ، وتحكيم الوحي في كل شاردة وواردة ، وصغيرة وكبيرة .
الثاني : قابلية المحل لذلك ، بكون المرء مستعداً لذلك في تكوينه وجبلته .
فالوحي هو النور ، والمحل القابل لذلك هو كالمشكاة التي ينبعث منها النور ، ولذا قال الله سبحانه وتعالى : ( مثل نوره كمشكاة فيها مصباح ...) على أحد الوجوه في تفسير الآية الكريمة ( انظر : ابن كثير 3/290)
والوحي هو المطر ، والمحل القابل هو الأرض الطيبة المستعدة كما في النصوص الأخرى .
وبهذا يكون المعيار هو الوحي الرباني من الكتاب والسنة ، والناطق بهذه الحجة هم أهل الاعتدال من حملة الشريعة في كل زمان ومكان ، وهذا المعنى ظاهر في الحديث المرسل من طرق : ( يحمل هذا العلم من كل خلف عدوله ، ينفون عنه تأويل الجاهلين ، وانتحال المبطلين ، وتحريف الغالين ) وانظر التمهيد ( 1/59) .
فهذا النص ومثله كثير ، يكشف أن المهتدين بنور الكتاب والسنة من أهل العدل والإنصاف والتوسط هم الجادّة التي يرد إليها من نفر عنها .
والغلو بكل صوره وأشكاله هو الاستثناء الذي يعزز القاعدة ويؤكدها .
ولهذا حذر النبي صلى الله عليه وسلم من الغلو ، كما في حديث ابن عباس رضي الله عنهما عند النسائي (3007) وغيره أن النبي صلى الله عليه وسلم قال : ( بمثل هؤلاء فارموا ـ يعني حصى الجمار ـ وإياكم والغلو في الدين ؛ فإنما أهلك من كان قبلكم الغلو في الدين ) .
وكان الصحابة رضي الله عنهم هم الوسط العدول الشهداء على الناس ، والذين يرد إليهم من غلا وأفرط ، أو جفا وفرط .
والتطرف في الإطار الإسلامي هو تعبير عن فهم منحرف ، أو تطبيق منحرف للتعليمات الشرعية ، وإن كان قد يتكئ على حجج شرعية ، أو ينطلق من غيرة دينية ، كما في أول وأقسى نموذج في التاريخ الإسلامي ، وهو نموذج الخوارج ، الذين لم يقنعوا بمستوى فهم وتطبيق الصحابة حتى انشقوا عن نسيج الأمة ، ووجهوا سهامهم إلى نحورها ، بل كان أصلهم يمت إلى صاحب النفس المريضة الذي اعترض على النبي صلى الله عليه وسلم في عدله ، وخاطبه قائلاً : اعدل يامحمد ! فكانت تلك نواة الشريحة التي تصطفي نفسها ، وتستشعر صدقها وطهارتها وإخلاصها ، وتزن الآخرين بالجور أو الحيدة عن الصراط السوي .
لكن من الخطأ أن يتم تقديم هذا الأنموذج دائماً على أنه صورة التطرف ، حتى يقع في نفوس الكثيرين أن التطرف بضاعة إسلامية ، بينما يتم التغافل والتجاهل للتطرف اليهودي ، والذي تمثله أحزاب وجماعات رسمية وكبيرة تتبجح بغلوها ، ولا تستحي من الجهر بمطالباتها الصارمة إزاء خصومها ، دع عنك الغلو المرسّم المبرمج الذي أصبح جزءاً من السياسة اليهودية ، وغدا قاسماً مشتركاً لدى جميع الأطراف .
ومثله التطرف المسيحي الممثل في الجماعات والمنظمات الكثيرة في الولايات المتحدة ، والتي تجاوز عددها المائة ، ويقدر أتباعها بعشرات الملايين .
ولقد كانت الأحداث الأخيرة فرصةً لهؤلاء ليكشفوا مكنوناتهم ضد الإسلام والمسلمين ، وكان منهم من يطالب بسحق كل ما هو إسلامي ، ومنهم من يطالب بتدمير مقدسات المسلمين ، وتعالت أصوات رسمية تتهم الإسلام ذاته ، وتعتبره ديناً سيئاً وشريراً !
والتوجه الرسمي الآن الذي يقيم للمسلمين والعرب ديكتاتورية خاصة داخل الولايات المتحدة الأمريكية ويستثنيهم من النظام العام ، ويبخل عليهم بالحقوق التي يتملكها كل من سواهم ... هذا التوجه هو نفسه ضرب من التطرف المقيت ، كما أن إسراف الحلفاء في غطرسة القوة ، وتجاهلهم لأبسط حقوق الإنسانية ، وعدوانهم على شعب أفغانستان ، واستهانتهم بالدماء وحقوق الإنسان ، لهو صورة صارخة من التطرف البغيض ، لكنه تطرف القوي الباطش الذي لا يحتاج إلى برهان على ما يفعل والله المستعان . [center]
[table cellSpacing=0 cellPadding=0 width="100%" align=center border=0][tr][td vAlign=bottom width="45%"][font='Times New Roman']فنحن في غابة الأشرار منطقها[/font] [/td][font='Times New Roman']
[td width="10%"] [/td][/font]
[td width="45%"][font='Times New Roman']
من كان ذا قوة فلـــــيلق تمكينا[/font] [/td][/tr][/table][/center]
وهناك التطرف العلماني في العالم الإسلامي الذي يصر على نقل التجربة الغربية ، بل على استنساخ المجتمعات الغربية في ديار الإسلام ، ويزيد على ذلك اقتباس الجانب الدموي المتعسف من التجربة الشيوعية لملاحقة المتدينين ومحاصرتهم ، إعلامياً ووظيفياً واجتماعياً وسياسياً .
إن دائرة ردود الأفعال لا تنتهي ، والتطرف يولد التطرف ، ولعل أفضل بيئة لتشجيع الفكر المنحرف هي البيئة التي تحرم الناس من حقوقهم الفطرية والشرعية ، وتصادر هم ، وتحرمهم من فرصة الهدوء النفسي والاستقرار العاطفي ، وتمتحنهم في أنفسهم وأديانهم وأهليهم وأموالهم .
إن التطرف الذي هو ( تجاوز عدل الشرائع السماوية والفطر الآدمية ) هو أزمة بحق ، وتاريخ الحضارات كلها يكشف عن نماذج كثيرة لهذا التطرف ، وتعد رسالة الإسلام الأنموذج الأول والأمثل لمعالجة هذا الانحراف ، لكن مع هذا كله فلسنا هنا بصدد أن نعيش ردود أفعال ونتبادل مع الغرب والعالم الأوصاف ، إن هذه معركة ربما تكون غير ملحة ، وقد لاتصنع شيئاً لصالحنا ، لكن المهم أن ندرك أهمية بناء الوعي في أفراد الأمة ؛ لنعرف مواقع التطرف الخارجة عن الإطار الإسلامي ، ولعل من حسن الفهم هنا أن ندرك أن الغرب يمارس صناعة التطرف ، ويصدرها ، وقد تكون بعض الأطراف مستهلكاً لشيء من هذا ، لكن لابد أن ندرك أن الأزمة ليست في التطرف يوم يكون حالة تعرض لدى بعض الفئات ، لكن يصبح الأمن العالمي مهدداً حقيقةً حينما يكون التطرف قانوناً له شرعيته كما ترسم ذلك دوائر سياسية ومؤسسات متنفذة في الأوساط الغربية قد يتجاوز تأثيرها إلى دوائر شتى ، ولعل الأنموذج اليهودي هو المرشح عالمياً لهذا لو أعطيت الشعوب حرية الموقف والتعبير .
إننا هنا أمام ضرورة توسيع مساحة التفكير ، وألا نسمح للغرب أن يرسم مفهوم التطرف ، وأن نعي أن التطرف يتجاوز دائرة القانونية ليتحول إلى رسالة حضارية تٌطَالَب عقولٌ في العالم كله وليس في الغرب أو الشرق أن تستوعبه كحضارة راقية.
هنا ندرك أن الغرب يعيش أزمة ، وأن كنا نعيش شيئاً منها ، فيجب أن نكون مستعدين لتجاوز مشكلتنا .
وتجاوزها يتم عبر الحفاوة بالاعتدال وترسيمه ، وإشاعة المفاهيم الشرعية الصحيحة التي تنهي حالة الاضطراب والتناقض .
ومتاهة المصطلحات سبب وطيد للتباعد في المواقف ، وتحول الحوار إلى نوع من الصراخ في قوم لا يسمعون ، إذ إن التطرف هو محاولة للتعريف بحسب الموقع الذي يشغله المرء .
فأنت إذا افترضت نفسك تعبيراً عن الوسط ، الذي هو رمز الاعتدال والتوازن والفضيلة ، وهو مقام يتفق الجميع على نشدانه وتطلبه ، فالفضيلة وسط بين رذيلتين ، كما كان يقول أرسطو ، وقرر هذا علماء الإسلام كالغزالي وابن تيمية وابن القيم وغيرهم ، وهو أحد معاني الأمة الوسط في القرآن الكريم يقول سبحانه وتعالى : ( وكذلك جعلناكم أمة وسطاً ) .
إذا افترضت نفسك ممثلاً لهذه القيمة الراقية " الوسطية " فأنت تحدد مواقع الآخرين تبعاً لذلك ، فهذا يمين ، وهذا يسار ، وذاك يمين اليمين ، وذاك يسار اليسار ، وهذا متطرف ، وهذا غير متطرف .
ولنا أن نعتبر هذا امتداداً للمبالغة في رؤية الذات وتقدير قيمتها واعتبارها ميزاناً للحكم والتقدير ، وربما محاولة لرسم منهج تفكير الآخرين دون ترك الخيار لهم .
إن من الأشخاص من يوجد في نسيج تكوينهم العقلي والنفسي مبدأ التوازن والاعتدال ، وهذه قيمة شريفة ، ونعمة غالية ، ولقد كان العلماء يجعلون الفضيلة العليا هي فضيلة العدالة التي تتمثل في التوافق والانسجام بين قوى النفس عن طريق العقل ، فلا تبغي إحداها على الأخرى ، فيكون ثمت توازن بين قانون العقل وحركة النفس .
وبإزاء هؤلاء جبل آخرون على نوع من الحدة المتمثلة في تفوق صفة من صفات النفس على غيرها ، كصفة الغضب ، أو صفة الشهوة ، ويفتقد التوازن داخل نظام العقل وحركة النفس ، فأحياناً يكون العقل ذا سلطة مستبدة على النفس ، وأحياناً العكس ، وفقدان التوازن هنا مؤهل لصنع أنظمة غير وسطة في مناهج التفكير والتربية ، بل والعلم والمعرفة .
وهذا التكوين الفطري ذو علاقة وطيدة بنوع الاختيار العلمي والعملي الذي ينحو إليه المرء في غالب الأحيان ، ما لم يقاومه ما هو أبلغ تأثيراً ، وأعظم وقعاً .
ونتيجة لهذا فإنك تجد اختيارات الإنسان وآراءه ، وأنماط سلوكه وحياته متجانسة ؛ لأنها تخرج من مشكاة واحدة .
ولحسن الحظ فإن غالب الناس هم في دائرة الوسط والعدل من حيث نظام التعامل الحياتي في أصل تكوينهم ، ودائرة الوسط ليست صيغة واحدة ، لكنها إطار عام يحتوي طبقات عريضة من الناس .
ويبقى أن هذه الوسطية الفطرية التي يتحلى بها أكثر الناس ليست سوى مؤهل بقبول الحق والتأثر به والتسليم له ، فهي نوع استعداد لا يفيد ما لم تنطبع عليه آثار الهداية الربانية .
ولهذا جاء في الكتاب والسنة تشبيه الوحي بالمطر ، وتشبيه النفس القابلة للهدى بالأرض الطيبة ، وأخص من ذلك تشبيه القلب الخاشع بالأرض الحية ، والقلب الغافل بالأرض الميتة ، قال الله جل شأنه : ( ألم يأن للذين آمنوا أن تخشع قلوبهم لذكر الله وما نزل من الحق ولا يكونوا كالذين أوتوا الكتاب من قبل فطال عليهم الأمد فقست قلوبهم وكثير منهم فاسقون ) .
ثم عقب بقوله : ( اعلموا أن الله يحي الأرض بعد موتها قد بينا لكم الآيات لعلكم تعقلون ).
قال ابن كثير في تفسيره : فيه إشارة إلى أن الله تعالى يلين القلوب بعد قسوتها ، ويهدي الحيارى بعد ضلتها ، ويفرج الكروب بعد شدتها ...
وفي البخاري (77) ومسلم (4232) وأحمد (18752) من حديث أبي موسى الأشعري رضي الله عنه عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال : ( مثل مابعثني الله به من الهدى والعلم كمثل الغيث الكثير أصاب أرضاً ، فكان منها نقية قبلت الماء ، فأنبتت الكلأ والعشب الكثير ، وكان منها أجادب أمسكت الماء ، فنفع الله بها الناس ، فشربوا منها وسقوا وزرعوا ، وأصاب منها طائفة أخرى إنما هي قيعان لاتمسك ماءً ولاتنبت كلأً ، فذلك مثل من فقه في دين الله ، ونفعه مابعثني الله به فعلم وعلم ، ومثل من لم يرفع بذلك رأساً ، ولم يقبل هدى الله الذي أرسلت به ) .
فيتحصل من هذا المعنى أن الاعتدال يقوم على ركنين :
الأول : الاتباع الصادق لما جاء عن الله ورسوله ، وتحكيم الوحي في كل شاردة وواردة ، وصغيرة وكبيرة .
الثاني : قابلية المحل لذلك ، بكون المرء مستعداً لذلك في تكوينه وجبلته .
فالوحي هو النور ، والمحل القابل لذلك هو كالمشكاة التي ينبعث منها النور ، ولذا قال الله سبحانه وتعالى : ( مثل نوره كمشكاة فيها مصباح ...) على أحد الوجوه في تفسير الآية الكريمة ( انظر : ابن كثير 3/290)
والوحي هو المطر ، والمحل القابل هو الأرض الطيبة المستعدة كما في النصوص الأخرى .
وبهذا يكون المعيار هو الوحي الرباني من الكتاب والسنة ، والناطق بهذه الحجة هم أهل الاعتدال من حملة الشريعة في كل زمان ومكان ، وهذا المعنى ظاهر في الحديث المرسل من طرق : ( يحمل هذا العلم من كل خلف عدوله ، ينفون عنه تأويل الجاهلين ، وانتحال المبطلين ، وتحريف الغالين ) وانظر التمهيد ( 1/59) .
فهذا النص ومثله كثير ، يكشف أن المهتدين بنور الكتاب والسنة من أهل العدل والإنصاف والتوسط هم الجادّة التي يرد إليها من نفر عنها .
والغلو بكل صوره وأشكاله هو الاستثناء الذي يعزز القاعدة ويؤكدها .
ولهذا حذر النبي صلى الله عليه وسلم من الغلو ، كما في حديث ابن عباس رضي الله عنهما عند النسائي (3007) وغيره أن النبي صلى الله عليه وسلم قال : ( بمثل هؤلاء فارموا ـ يعني حصى الجمار ـ وإياكم والغلو في الدين ؛ فإنما أهلك من كان قبلكم الغلو في الدين ) .
وكان الصحابة رضي الله عنهم هم الوسط العدول الشهداء على الناس ، والذين يرد إليهم من غلا وأفرط ، أو جفا وفرط .
والتطرف في الإطار الإسلامي هو تعبير عن فهم منحرف ، أو تطبيق منحرف للتعليمات الشرعية ، وإن كان قد يتكئ على حجج شرعية ، أو ينطلق من غيرة دينية ، كما في أول وأقسى نموذج في التاريخ الإسلامي ، وهو نموذج الخوارج ، الذين لم يقنعوا بمستوى فهم وتطبيق الصحابة حتى انشقوا عن نسيج الأمة ، ووجهوا سهامهم إلى نحورها ، بل كان أصلهم يمت إلى صاحب النفس المريضة الذي اعترض على النبي صلى الله عليه وسلم في عدله ، وخاطبه قائلاً : اعدل يامحمد ! فكانت تلك نواة الشريحة التي تصطفي نفسها ، وتستشعر صدقها وطهارتها وإخلاصها ، وتزن الآخرين بالجور أو الحيدة عن الصراط السوي .
لكن من الخطأ أن يتم تقديم هذا الأنموذج دائماً على أنه صورة التطرف ، حتى يقع في نفوس الكثيرين أن التطرف بضاعة إسلامية ، بينما يتم التغافل والتجاهل للتطرف اليهودي ، والذي تمثله أحزاب وجماعات رسمية وكبيرة تتبجح بغلوها ، ولا تستحي من الجهر بمطالباتها الصارمة إزاء خصومها ، دع عنك الغلو المرسّم المبرمج الذي أصبح جزءاً من السياسة اليهودية ، وغدا قاسماً مشتركاً لدى جميع الأطراف .
ومثله التطرف المسيحي الممثل في الجماعات والمنظمات الكثيرة في الولايات المتحدة ، والتي تجاوز عددها المائة ، ويقدر أتباعها بعشرات الملايين .
ولقد كانت الأحداث الأخيرة فرصةً لهؤلاء ليكشفوا مكنوناتهم ضد الإسلام والمسلمين ، وكان منهم من يطالب بسحق كل ما هو إسلامي ، ومنهم من يطالب بتدمير مقدسات المسلمين ، وتعالت أصوات رسمية تتهم الإسلام ذاته ، وتعتبره ديناً سيئاً وشريراً !
والتوجه الرسمي الآن الذي يقيم للمسلمين والعرب ديكتاتورية خاصة داخل الولايات المتحدة الأمريكية ويستثنيهم من النظام العام ، ويبخل عليهم بالحقوق التي يتملكها كل من سواهم ... هذا التوجه هو نفسه ضرب من التطرف المقيت ، كما أن إسراف الحلفاء في غطرسة القوة ، وتجاهلهم لأبسط حقوق الإنسانية ، وعدوانهم على شعب أفغانستان ، واستهانتهم بالدماء وحقوق الإنسان ، لهو صورة صارخة من التطرف البغيض ، لكنه تطرف القوي الباطش الذي لا يحتاج إلى برهان على ما يفعل والله المستعان . [center]
[table cellSpacing=0 cellPadding=0 width="100%" align=center border=0][tr][td vAlign=bottom width="45%"][font='Times New Roman']فنحن في غابة الأشرار منطقها[/font] [/td][font='Times New Roman']
[td width="10%"] [/td][/font]
[td width="45%"][font='Times New Roman']
من كان ذا قوة فلـــــيلق تمكينا[/font] [/td][/tr][/table][/center]
وهناك التطرف العلماني في العالم الإسلامي الذي يصر على نقل التجربة الغربية ، بل على استنساخ المجتمعات الغربية في ديار الإسلام ، ويزيد على ذلك اقتباس الجانب الدموي المتعسف من التجربة الشيوعية لملاحقة المتدينين ومحاصرتهم ، إعلامياً ووظيفياً واجتماعياً وسياسياً .
إن دائرة ردود الأفعال لا تنتهي ، والتطرف يولد التطرف ، ولعل أفضل بيئة لتشجيع الفكر المنحرف هي البيئة التي تحرم الناس من حقوقهم الفطرية والشرعية ، وتصادر هم ، وتحرمهم من فرصة الهدوء النفسي والاستقرار العاطفي ، وتمتحنهم في أنفسهم وأديانهم وأهليهم وأموالهم .
إن التطرف الذي هو ( تجاوز عدل الشرائع السماوية والفطر الآدمية ) هو أزمة بحق ، وتاريخ الحضارات كلها يكشف عن نماذج كثيرة لهذا التطرف ، وتعد رسالة الإسلام الأنموذج الأول والأمثل لمعالجة هذا الانحراف ، لكن مع هذا كله فلسنا هنا بصدد أن نعيش ردود أفعال ونتبادل مع الغرب والعالم الأوصاف ، إن هذه معركة ربما تكون غير ملحة ، وقد لاتصنع شيئاً لصالحنا ، لكن المهم أن ندرك أهمية بناء الوعي في أفراد الأمة ؛ لنعرف مواقع التطرف الخارجة عن الإطار الإسلامي ، ولعل من حسن الفهم هنا أن ندرك أن الغرب يمارس صناعة التطرف ، ويصدرها ، وقد تكون بعض الأطراف مستهلكاً لشيء من هذا ، لكن لابد أن ندرك أن الأزمة ليست في التطرف يوم يكون حالة تعرض لدى بعض الفئات ، لكن يصبح الأمن العالمي مهدداً حقيقةً حينما يكون التطرف قانوناً له شرعيته كما ترسم ذلك دوائر سياسية ومؤسسات متنفذة في الأوساط الغربية قد يتجاوز تأثيرها إلى دوائر شتى ، ولعل الأنموذج اليهودي هو المرشح عالمياً لهذا لو أعطيت الشعوب حرية الموقف والتعبير .
إننا هنا أمام ضرورة توسيع مساحة التفكير ، وألا نسمح للغرب أن يرسم مفهوم التطرف ، وأن نعي أن التطرف يتجاوز دائرة القانونية ليتحول إلى رسالة حضارية تٌطَالَب عقولٌ في العالم كله وليس في الغرب أو الشرق أن تستوعبه كحضارة راقية.
هنا ندرك أن الغرب يعيش أزمة ، وأن كنا نعيش شيئاً منها ، فيجب أن نكون مستعدين لتجاوز مشكلتنا .
وتجاوزها يتم عبر الحفاوة بالاعتدال وترسيمه ، وإشاعة المفاهيم الشرعية الصحيحة التي تنهي حالة الاضطراب والتناقض .