لقد كان الإمساك عن الطعام والشراب معروفاً عند العرب في الجاهلية، فقد كانوا يصومون يوم عاشوراء، ففي الصحيح عَنْ عَائِشَةَ - رضي الله عنها - قَالَتْ: كَانَ يَوْمُ عَاشُورَاءَ تَصُومُهُ قُرَيْشٌ فِي الْجَاهِلِيَّةِ، وَكَانَ النَّبِي - صلى الله عليه وسلم - يَصُومُهُ، فَلَمَّا قَدِمَ الْمَدِينَةَ صَامَهُ وَأَمَرَ بِصِيَامِهِ ، فَلَمَّا نَزَلَ رَمَضَانُ كَانَ رَمَضَانُ الْفَرِيضَةَ،،،،، وَتُرِكَ عَاشُورَاءُ، فَكَانَ مَنْ شَاءَ صَامَهُ، وَمَنْ شَاءَ لَمْ يَصُمْهُ.
ولا يسمى صياماً إذا امتنع عن بعض الأطعمة أو الأشربة أو عن النساء فقط، كما كان موجوداً عند بعض العرب، يقول قائلهم:
[center]
[table cellSpacing=0 cellPadding=0 width=450 align=center border=0][tr][td vAlign=bottom width="45%"][font='Times New Roman']وَإِن شِئتِ حَرَّمتُ النِساءُ سِواكُمُ [/font][/td][font='Times New Roman']
[td width="10%"][/td][/font]
[td width="45%"][font='Times New Roman']
وَإِن شِئتِ لَم أَطعَم نُقاخاً وَلا بَردا[/font] [/td][/tr][/table][/center]
أو كما يفعله من يسمون بالنباتيين أو أصحاب الحمية، أو كما هو الحال عند بعض أهل الكتاب.
والصيام والصوم مصدران يدلان على الإمساك والركود، قال الله تعالى: {فَقُولِي إِنِّي نَذَرْتُ لِلرَّحْمَنِ صَوْمًا فَلَنْ أُكَلِّمَ الْيَوْمَ إِنسِيًّا} (26)سورة مريم.
وهو هنا الإمساك عن الكلام.
[center]
[table cellSpacing=0 cellPadding=0 width=450 align=center border=0][tr][td vAlign=bottom width="45%"][font='Times New Roman']خَيلٌ صِيامٌ وَخَيلٌ غَيرُ صائِمَةٍ[/font] [/td][font='Times New Roman']
[td width="10%"][/td][/font]
[td width="45%"][font='Times New Roman']
تَحتَ العَجاجِ وَأُخرى تَعلُكُ اللُجُما [/font][/td][/tr][/table][/center]
وحين فرض الله الصيام على نبيه أنزل عليه قوله سبحانه: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ كُتِبَ عَلَيْكُمُ الصِّيَامُ كَمَا كُتِبَ عَلَى الَّذِينَ مِن قَبْلِكُمْ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ أَيَّامًا مَّعْدُودَاتٍ فَمَن كَانَ مِنكُم مَّرِيضًا أَوْ عَلَى سَفَرٍ فَعِدَّةٌ مِّنْ أَيَّامٍ أُخَرَ وَعَلَى الَّذِينَ يُطِيقُونَهُ فِدْيَةٌ طَعَامُ مِسْكِينٍ فَمَن تَطَوَّعَ خَيْرًا فَهُوَ خَيْرٌ لَّهُ وَأَن تَصُومُواْ خَيْرٌ لَّكُمْ إِن كُنتُمْ تَعْلَمُونَ} (183-184)سورة البقرة.
فقوله تعالى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ} خطاب للمؤمنين، وغير المؤمن بحاجة إلى خطاب آخر؛ فيخاطب بالإيمان بالله وبالرسل وبالقرآن؛ فإن آمن أُمر بتكاليف هذا الخطاب، ولذا غالباً ما ورد خطاب: {يَا أَيُّهَا النَّاسُ} في العهد المكي، وخطاب: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ} في العهد المدني، وإن كان يرد أحياناً من هذا وهذا، وقوله عزَّ وجلَّ: {كُتِبَ عَلَيْكُمُ} هذا اللفظ من إعجاز القرآن، فلأول وهلة يعلم منها قارئ الآية أن الصيام فرض على هذه الأمة، بخلاف التوراة والإنجيل، فرغم أن الله عزَّ وجلَّ كتب عليهم الصيام إلا أنك لا ترى ذلك في كتبهم بصيغة الإلزام والأمر، إنما هو مدح وثناء فقط له ولأهله، ولا تجد تصريحاً بالإلزام، ولعل ذلك مما حرّف في كتبهم.
و(الصيام) هو الإمساك عن المفطرات، في وقت مخصوص، من شخص مخصوص مع النيّة.
وقوله تعالى: {عَلَى الَّذِينَ مِن قَبْلِكُمْ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ} يصح أن يشمل ظاهر الآية كل من سبقنا من آدم إلى عيسى عليهما السلام، وليس اليهود والنصارى فقط، وأن كل من سبقنا كانوا يصومون، لكن لا يلزم أن يكون صومهم هو نفس صومنا الشرعي بمعنى الإمساك عن مخصوص في وقت مخصوص، ولا أن يكون فرض عليهم شهر رمضان، وإنما المقصود فرض عليهم أصل الصيام، لا صفته.
قوله عزَّ وجلَّ :{لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ}، التقوى تبدأ بالإيمان والإسلام فمن آمن وأسلم فقد اتقى الكفر، واتقى عذاب الله، فإذا صام فقد حقق ركناً من أركان الإسلام، وحقق قدراً من التقوى ولو كان في صومه بعض التخريق والخلل كما في الصحيح: (الصِّيَامُ جُنَّةٌ). وفي بعض ألفاظه: (مَا لَمْ يَخْرِقْهَا)، وهذا عند النسائي وغيره.
ونقرأ في هذه الآية فوائد منها:
الأولى: {كُتِبَ عَلَيْكُمُ} أي: فرض عليكم الصيام، وهذه الآية أصل في وجوب صيام رمضان، وقد أجمع أهل العلم كافة على أنه يجب على كل مسلم أن يصوم شهر رمضان، ومن أنكر وجوبه أو جحده فهو مرتد، إلا أن يكون جاهلاً، أو حديث عهد بالإسلام.
وَالأَصْلُ فِي وُجُوبِهِ الْكِتَابُ وَالسُّنَّةُ وَالْإِجْمَاعُ: أَمَّا الْكِتَابُ فَقَوْلُ اللَّهِ تَعَالَى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ كُتِبَ عَلَيْكُمُ الصِّيَامُ كَمَا كُتِبَ عَلَى الَّذِينَ مِن قَبْلِكُمْ} إلَى قَوْلِهِ: {فَمَن شَهِدَ مِنكُمُ الشَّهْرَ فَلْيَصُمْهُ}، وَأَمَّا السُّنَّةُ فَقَوْلُ النَّبِيِّ- صلى الله عليه وسلم- في الحديث المتفق عليه من حديث ابن عمر رضي الله عنهما: (بُنِيَ الْإِسْلَامُ عَلَى خَمْسٍ). فذَكَرَ مِنْهَا صَوْمَ رَمَضَانَ.
الثانية: أن الصيام كتب على الذين من قبلنا من الأمم السابقة.
الثالثة: أن من أسرار الصيام وآثاره: التربية على التقوى، فإن الله عزَّ وجلَّ لم يشرع العبادة لنتعذب بها، أو يصيبنا منها الحرج والمشقة بالامتناع عما نشتهي، ولكن لحكمة التربية على مراقبة الله عزَّ وجلَّ في السر والعلن، والصبر على ذلك، وأن نترك الشيء لأجله سبحانه، حتى لو كان محبوباً مشتهى في النفوس.
فالتربية على الأخلاق الحميدة لا تخلو من حمل المرء نفسه على مخالفة شهوات كثيرة، ففي مخالفتها تعب يقتضي الصبر عليه، حتى تصير مكارم الأخلاق ملكة لمن راض نفسه عليها، وما أروع قول القائل:
[center]
[table cellSpacing=0 cellPadding=0 width=450 align=center border=0][tr][td vAlign=bottom width="45%"][font='Times New Roman']إذا المرء لم يترك طعاماً يحبه[/font] [/td][font='Times New Roman']
[td width="10%"][/td][/font]
[td width="45%"][font='Times New Roman']
ولم ينه قلباً غاوياً حيث يمما[/font] [/td][/tr]
[tr][td vAlign=bottom width="45%"][font='Times New Roman']
فيوشك أن تلفى له الدهر سبة [/font][/td][font='Times New Roman']
[td width="10%"][/td][/font]
[td width="45%"][font='Times New Roman']
إذا ذكرت أمثالها تملأ الفما [/font][/td][/tr][/table][/center]
[justify]فمن امتنع عن مشتهى نفسه من أكل وشرب وغيره مما أحلّه الله طاعة لربه، وقُربة له وتعبداً، حريٌ به أن يتولّد في قلبه نفور وابتعاد عما هو محرم في الأصل، وإلا فما معنى أن يترك الصائم ما طاب مما أحله الله من طعام وشراب وغيره، ثم هو يقع في غيبة ونميمة وسوء ظن، وعقوق وشتم وسب، وغير ذلك مما حرَّّمه الله في رمضان وغيره، وفي الصحيح: (مَنْ لَمْ يَدَعْ قَوْلَ الزُّورِ وَالْعَمَلَ بِهِ فَلَيْسَ لِلَّهِ حَاجَةٌ فِي أَنْ يَدَعَ طَعَامَهُ وَشَرَابَهُ).
الرابعة: من تأمل سورة البقرة وجد سياقاً طويلاً، وآيات فسيحة تتحدث عن اليهود، وأحياناً عن النصارى؛ فتذكر جدل اليهود وتلاعبهم، وتلومهم وعنادهم، وقتلهم أنبياءهم، واختلافهم عليهم، وهذا أول مَقْدم رسول الله - صلى الله عليه وسلم - المدينة، ثم يذكر الله عزَّ وجلَّ في وسط ذلك كله: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ كُتِبَ عَلَيْكُمُ الصِّيَامُ كَمَا كُتِبَ عَلَى الَّذِينَ مِن قَبْلِكُمْ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ}، فما سر ذلك، مع أن المسلمين لم يكونوا في حالة ارتياح أو أنس، مع من كانوا قبلهم؟
الظاهر والله أعلم هو تربية المسلمين على الفرز والفصل والعدل في التعامل يقول الله تعالى: {وَلاَ يَجْرِمَنَّكُمْ شَنَآنُ قَوْمٍ عَلَى أَلاَّ تَعْدِلُواْ اعْدِلُواْ هُوَ أَقْرَبُ لِلتَّقْوَى} (8)سورة المائدة. ويقول سبحانه: {وَلاَ تَزِرُ وَازِرَةٌ وِزْرَ أُخْرَى}(15) سورة الإسراء، ويقول - صلى الله عليه وسلم -: (أَمَا إِنَّهُ قَدْ صَدَقَكَ وَهُوَ كَذُوبٌ)، وأن المسلم أولى باتباع الحق من غيره، وأن من كره أحداً فلا يجحد ما عنده من خير وفضل، وهذا كقوله سبحانه: {فَلاَ جُنَاحَ عَلَيْهِ أَن يَطَّوَّفَ بِهِمَا}(158) سورة البقرة. فالطواف إما ركن أو واجب، وقد كانوا في الجاهلية يطوفون عند الصفا والمروة، ويهلّلون لأصنامهم؛ فتحرَّج المسلمون أن يفعلوا ذلك، وتوقفوا فيه، فذكر الله سبحانه أنه لا جناح عليهم في ذلك، وإن كان موجوداً في الجاهلية، إلا أنه من آثار الأنبياء.
ومثله صوم المسلمين لعاشوراء، فاليهود كانوا يصومونه ويعظمونه، فقد ثبت في الصحيح أنه لما قَدِمَ النَّبِي - صلى الله عليه وسلم - الْمَدِينَةَ رَأَى الْيَهُودَ تَصُومُ يَوْمَ عَاشُورَاءَ، فَقَالَ: (مَا هَذَا؟). قَالُوا: هَذَا يَوْمٌ صَالِحٌ، هَذَا يَوْمٌ نَجَّى اللَّهُ بَنِي إِسْرَائِيلَ مِنْ عَدُوِّهِمْ، فَصَامَهُ مُوسَى. قَالَ: (فَأَنَا أَحَقُّ بِمُوسَى مِنْكُمْ). فَصَامَهُ وَأَمَرَ بِصِيَامِهِ.
الخامسة: في قوله عزَّ وجلَّ : {كَمَا كُتِبَ عَلَى الَّذِينَ مِن قَبْلِكُمْ}، فيه تعظيم وبيان لأهمية شعيرة الصيام، فإن الله عزَّ وجلَّ لا يشرع شيئاً لجميع الأنبياء والرسل والأمم السابقة إلا ويكون عظيماً ومهماً؛ ولهذا اتفق جميع الرسل والأنبياء على الدين العام، وإن اختلفت تفاصيل الشرائع وفي الصحيحين: (الأَنْبِيَاءُ إِخْوَةٌ لِعَلاَّتٍ، أُمَّهَاتُهُمْ شَتَّى، وَدِينُهُمْ وَاحِدٌ)، ومن هذا الدين العام: الصوم، فيشعر المسلم أنه يؤدي شعيرةً عظيمة، اتفق عليها جميع الأنبياء.
السادسة: أن المسلم إذا علم أنه لم يُخصَّ بهذه الشعيرة وحده وأن الأنبياء كلهم صاموا، والأمم من قبله صامت كان ذلك عزاءً وتسلية له، وتقوية لقلبه على الصيام الذي أمر به كما أمر به من كان قبله من الأمم.
السابعة: في قوله: {كُتِبَ عَلَيْكُمُ الصِّيَامُ} الصيام الشرعي معروف، لكنه في هذه الآية غير محدد بزمن ولا عدد؛ ولهذا نقل عن معاذ وقتادة وغيرهما من السلف: أن الصيام كان في أول الإسلام مطلقاً غير محدد.
وقيل: ثلاثة أيام من كل شهر، وقد تقدَّم أنهم كانوا قبل الإسلام يصومون عاشوراء، فلعل ذلك كان المرحلة الأولى من الصيام. [/justify]
ولا يسمى صياماً إذا امتنع عن بعض الأطعمة أو الأشربة أو عن النساء فقط، كما كان موجوداً عند بعض العرب، يقول قائلهم:
[center]
[table cellSpacing=0 cellPadding=0 width=450 align=center border=0][tr][td vAlign=bottom width="45%"][font='Times New Roman']وَإِن شِئتِ حَرَّمتُ النِساءُ سِواكُمُ [/font][/td][font='Times New Roman']
[td width="10%"][/td][/font]
[td width="45%"][font='Times New Roman']
وَإِن شِئتِ لَم أَطعَم نُقاخاً وَلا بَردا[/font] [/td][/tr][/table][/center]
أو كما يفعله من يسمون بالنباتيين أو أصحاب الحمية، أو كما هو الحال عند بعض أهل الكتاب.
والصيام والصوم مصدران يدلان على الإمساك والركود، قال الله تعالى: {فَقُولِي إِنِّي نَذَرْتُ لِلرَّحْمَنِ صَوْمًا فَلَنْ أُكَلِّمَ الْيَوْمَ إِنسِيًّا} (26)سورة مريم.
وهو هنا الإمساك عن الكلام.
[center]
[table cellSpacing=0 cellPadding=0 width=450 align=center border=0][tr][td vAlign=bottom width="45%"][font='Times New Roman']خَيلٌ صِيامٌ وَخَيلٌ غَيرُ صائِمَةٍ[/font] [/td][font='Times New Roman']
[td width="10%"][/td][/font]
[td width="45%"][font='Times New Roman']
تَحتَ العَجاجِ وَأُخرى تَعلُكُ اللُجُما [/font][/td][/tr][/table][/center]
وحين فرض الله الصيام على نبيه أنزل عليه قوله سبحانه: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ كُتِبَ عَلَيْكُمُ الصِّيَامُ كَمَا كُتِبَ عَلَى الَّذِينَ مِن قَبْلِكُمْ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ أَيَّامًا مَّعْدُودَاتٍ فَمَن كَانَ مِنكُم مَّرِيضًا أَوْ عَلَى سَفَرٍ فَعِدَّةٌ مِّنْ أَيَّامٍ أُخَرَ وَعَلَى الَّذِينَ يُطِيقُونَهُ فِدْيَةٌ طَعَامُ مِسْكِينٍ فَمَن تَطَوَّعَ خَيْرًا فَهُوَ خَيْرٌ لَّهُ وَأَن تَصُومُواْ خَيْرٌ لَّكُمْ إِن كُنتُمْ تَعْلَمُونَ} (183-184)سورة البقرة.
فقوله تعالى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ} خطاب للمؤمنين، وغير المؤمن بحاجة إلى خطاب آخر؛ فيخاطب بالإيمان بالله وبالرسل وبالقرآن؛ فإن آمن أُمر بتكاليف هذا الخطاب، ولذا غالباً ما ورد خطاب: {يَا أَيُّهَا النَّاسُ} في العهد المكي، وخطاب: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ} في العهد المدني، وإن كان يرد أحياناً من هذا وهذا، وقوله عزَّ وجلَّ: {كُتِبَ عَلَيْكُمُ} هذا اللفظ من إعجاز القرآن، فلأول وهلة يعلم منها قارئ الآية أن الصيام فرض على هذه الأمة، بخلاف التوراة والإنجيل، فرغم أن الله عزَّ وجلَّ كتب عليهم الصيام إلا أنك لا ترى ذلك في كتبهم بصيغة الإلزام والأمر، إنما هو مدح وثناء فقط له ولأهله، ولا تجد تصريحاً بالإلزام، ولعل ذلك مما حرّف في كتبهم.
و(الصيام) هو الإمساك عن المفطرات، في وقت مخصوص، من شخص مخصوص مع النيّة.
وقوله تعالى: {عَلَى الَّذِينَ مِن قَبْلِكُمْ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ} يصح أن يشمل ظاهر الآية كل من سبقنا من آدم إلى عيسى عليهما السلام، وليس اليهود والنصارى فقط، وأن كل من سبقنا كانوا يصومون، لكن لا يلزم أن يكون صومهم هو نفس صومنا الشرعي بمعنى الإمساك عن مخصوص في وقت مخصوص، ولا أن يكون فرض عليهم شهر رمضان، وإنما المقصود فرض عليهم أصل الصيام، لا صفته.
قوله عزَّ وجلَّ :{لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ}، التقوى تبدأ بالإيمان والإسلام فمن آمن وأسلم فقد اتقى الكفر، واتقى عذاب الله، فإذا صام فقد حقق ركناً من أركان الإسلام، وحقق قدراً من التقوى ولو كان في صومه بعض التخريق والخلل كما في الصحيح: (الصِّيَامُ جُنَّةٌ). وفي بعض ألفاظه: (مَا لَمْ يَخْرِقْهَا)، وهذا عند النسائي وغيره.
ونقرأ في هذه الآية فوائد منها:
الأولى: {كُتِبَ عَلَيْكُمُ} أي: فرض عليكم الصيام، وهذه الآية أصل في وجوب صيام رمضان، وقد أجمع أهل العلم كافة على أنه يجب على كل مسلم أن يصوم شهر رمضان، ومن أنكر وجوبه أو جحده فهو مرتد، إلا أن يكون جاهلاً، أو حديث عهد بالإسلام.
وَالأَصْلُ فِي وُجُوبِهِ الْكِتَابُ وَالسُّنَّةُ وَالْإِجْمَاعُ: أَمَّا الْكِتَابُ فَقَوْلُ اللَّهِ تَعَالَى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ كُتِبَ عَلَيْكُمُ الصِّيَامُ كَمَا كُتِبَ عَلَى الَّذِينَ مِن قَبْلِكُمْ} إلَى قَوْلِهِ: {فَمَن شَهِدَ مِنكُمُ الشَّهْرَ فَلْيَصُمْهُ}، وَأَمَّا السُّنَّةُ فَقَوْلُ النَّبِيِّ- صلى الله عليه وسلم- في الحديث المتفق عليه من حديث ابن عمر رضي الله عنهما: (بُنِيَ الْإِسْلَامُ عَلَى خَمْسٍ). فذَكَرَ مِنْهَا صَوْمَ رَمَضَانَ.
الثانية: أن الصيام كتب على الذين من قبلنا من الأمم السابقة.
الثالثة: أن من أسرار الصيام وآثاره: التربية على التقوى، فإن الله عزَّ وجلَّ لم يشرع العبادة لنتعذب بها، أو يصيبنا منها الحرج والمشقة بالامتناع عما نشتهي، ولكن لحكمة التربية على مراقبة الله عزَّ وجلَّ في السر والعلن، والصبر على ذلك، وأن نترك الشيء لأجله سبحانه، حتى لو كان محبوباً مشتهى في النفوس.
فالتربية على الأخلاق الحميدة لا تخلو من حمل المرء نفسه على مخالفة شهوات كثيرة، ففي مخالفتها تعب يقتضي الصبر عليه، حتى تصير مكارم الأخلاق ملكة لمن راض نفسه عليها، وما أروع قول القائل:
[center]
[table cellSpacing=0 cellPadding=0 width=450 align=center border=0][tr][td vAlign=bottom width="45%"][font='Times New Roman']إذا المرء لم يترك طعاماً يحبه[/font] [/td][font='Times New Roman']
[td width="10%"][/td][/font]
[td width="45%"][font='Times New Roman']
ولم ينه قلباً غاوياً حيث يمما[/font] [/td][/tr]
[tr][td vAlign=bottom width="45%"][font='Times New Roman']
فيوشك أن تلفى له الدهر سبة [/font][/td][font='Times New Roman']
[td width="10%"][/td][/font]
[td width="45%"][font='Times New Roman']
إذا ذكرت أمثالها تملأ الفما [/font][/td][/tr][/table][/center]
[justify]فمن امتنع عن مشتهى نفسه من أكل وشرب وغيره مما أحلّه الله طاعة لربه، وقُربة له وتعبداً، حريٌ به أن يتولّد في قلبه نفور وابتعاد عما هو محرم في الأصل، وإلا فما معنى أن يترك الصائم ما طاب مما أحله الله من طعام وشراب وغيره، ثم هو يقع في غيبة ونميمة وسوء ظن، وعقوق وشتم وسب، وغير ذلك مما حرَّّمه الله في رمضان وغيره، وفي الصحيح: (مَنْ لَمْ يَدَعْ قَوْلَ الزُّورِ وَالْعَمَلَ بِهِ فَلَيْسَ لِلَّهِ حَاجَةٌ فِي أَنْ يَدَعَ طَعَامَهُ وَشَرَابَهُ).
الرابعة: من تأمل سورة البقرة وجد سياقاً طويلاً، وآيات فسيحة تتحدث عن اليهود، وأحياناً عن النصارى؛ فتذكر جدل اليهود وتلاعبهم، وتلومهم وعنادهم، وقتلهم أنبياءهم، واختلافهم عليهم، وهذا أول مَقْدم رسول الله - صلى الله عليه وسلم - المدينة، ثم يذكر الله عزَّ وجلَّ في وسط ذلك كله: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ كُتِبَ عَلَيْكُمُ الصِّيَامُ كَمَا كُتِبَ عَلَى الَّذِينَ مِن قَبْلِكُمْ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ}، فما سر ذلك، مع أن المسلمين لم يكونوا في حالة ارتياح أو أنس، مع من كانوا قبلهم؟
الظاهر والله أعلم هو تربية المسلمين على الفرز والفصل والعدل في التعامل يقول الله تعالى: {وَلاَ يَجْرِمَنَّكُمْ شَنَآنُ قَوْمٍ عَلَى أَلاَّ تَعْدِلُواْ اعْدِلُواْ هُوَ أَقْرَبُ لِلتَّقْوَى} (8)سورة المائدة. ويقول سبحانه: {وَلاَ تَزِرُ وَازِرَةٌ وِزْرَ أُخْرَى}(15) سورة الإسراء، ويقول - صلى الله عليه وسلم -: (أَمَا إِنَّهُ قَدْ صَدَقَكَ وَهُوَ كَذُوبٌ)، وأن المسلم أولى باتباع الحق من غيره، وأن من كره أحداً فلا يجحد ما عنده من خير وفضل، وهذا كقوله سبحانه: {فَلاَ جُنَاحَ عَلَيْهِ أَن يَطَّوَّفَ بِهِمَا}(158) سورة البقرة. فالطواف إما ركن أو واجب، وقد كانوا في الجاهلية يطوفون عند الصفا والمروة، ويهلّلون لأصنامهم؛ فتحرَّج المسلمون أن يفعلوا ذلك، وتوقفوا فيه، فذكر الله سبحانه أنه لا جناح عليهم في ذلك، وإن كان موجوداً في الجاهلية، إلا أنه من آثار الأنبياء.
ومثله صوم المسلمين لعاشوراء، فاليهود كانوا يصومونه ويعظمونه، فقد ثبت في الصحيح أنه لما قَدِمَ النَّبِي - صلى الله عليه وسلم - الْمَدِينَةَ رَأَى الْيَهُودَ تَصُومُ يَوْمَ عَاشُورَاءَ، فَقَالَ: (مَا هَذَا؟). قَالُوا: هَذَا يَوْمٌ صَالِحٌ، هَذَا يَوْمٌ نَجَّى اللَّهُ بَنِي إِسْرَائِيلَ مِنْ عَدُوِّهِمْ، فَصَامَهُ مُوسَى. قَالَ: (فَأَنَا أَحَقُّ بِمُوسَى مِنْكُمْ). فَصَامَهُ وَأَمَرَ بِصِيَامِهِ.
الخامسة: في قوله عزَّ وجلَّ : {كَمَا كُتِبَ عَلَى الَّذِينَ مِن قَبْلِكُمْ}، فيه تعظيم وبيان لأهمية شعيرة الصيام، فإن الله عزَّ وجلَّ لا يشرع شيئاً لجميع الأنبياء والرسل والأمم السابقة إلا ويكون عظيماً ومهماً؛ ولهذا اتفق جميع الرسل والأنبياء على الدين العام، وإن اختلفت تفاصيل الشرائع وفي الصحيحين: (الأَنْبِيَاءُ إِخْوَةٌ لِعَلاَّتٍ، أُمَّهَاتُهُمْ شَتَّى، وَدِينُهُمْ وَاحِدٌ)، ومن هذا الدين العام: الصوم، فيشعر المسلم أنه يؤدي شعيرةً عظيمة، اتفق عليها جميع الأنبياء.
السادسة: أن المسلم إذا علم أنه لم يُخصَّ بهذه الشعيرة وحده وأن الأنبياء كلهم صاموا، والأمم من قبله صامت كان ذلك عزاءً وتسلية له، وتقوية لقلبه على الصيام الذي أمر به كما أمر به من كان قبله من الأمم.
السابعة: في قوله: {كُتِبَ عَلَيْكُمُ الصِّيَامُ} الصيام الشرعي معروف، لكنه في هذه الآية غير محدد بزمن ولا عدد؛ ولهذا نقل عن معاذ وقتادة وغيرهما من السلف: أن الصيام كان في أول الإسلام مطلقاً غير محدد.
وقيل: ثلاثة أيام من كل شهر، وقد تقدَّم أنهم كانوا قبل الإسلام يصومون عاشوراء، فلعل ذلك كان المرحلة الأولى من الصيام. [/justify]