[justify]والفائدة الثامنة التي نقرأها في آية الصوم: التدرج في التشريع.
وهذا من خصائص شريعة الإسلام في المأمورات كالصلاة، والمنهيات كالخمر، فالصلاة كانت في بادئ الأمر ركعتين ركعتين، فزيدت في الحضر، وبقيت في السفر، كما في الصحيحين عَنْ عَائِشَةَ أم الْمُؤْمِنِينَ قَالَتْ: (فَرَضَ اللَّهُ الصَّلاَةَ حِينَ فَرَضَهَا رَكْعَتَيْنِ رَكْعَتَيْنِ فِي الْحَضَرِ وَالسَّفَرِ، فَأُقِرَّتْ صَلاَةُ السَّفَرِ، وَزِيدَ فِي صَلاَةِ الْحَضَرِ). والخمر لم يحرمها الله - عز وجل - دفعة واحدة؛ بل على ثلاث مراحل.
وفي آية الصوم معنى عجيب لمن تأمله، فالله - عز وجل - خاطبهم بالإيمان، يقول سبحانه:{يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ}، وهذا فيه نوع من إثارة الإيمان لديهم، وتشجيعهم وحثهم على السماع والتنفيذ، ثم الإشارة إلى الكتاب أنه كُتب عليهم، وهذا فيه حث لهم؛ لأنه لو كان هذا الأمر مسنوناً أو مستحباً فربما فرط فيه بعض الناس، فقول ربنا سبحانه: {كُتِبَ}يعلم المستمع أن الكاتب هو الله الخالق، فيحثهم هذا على التطبيق، ثم يقول: {كَمَا كُتِبَ عَلَى الَّذِينَ مِن قَبْلِكُمْ}أي: هذا أمر لم تنفردوا به عن غيركم، ثم يُبين سبحانه وتعالى أنهم هم المقصودون، وأن المصلحة لهم {لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ}، ثم يؤكد سبحانه أن الأمر لا يتجاوز أياماً معدودات، وهي جموع قلة، أي: ثلاثة أيام في الأصل، أو ثلاثين يوماً على مذهب الجمهور، وقد تقل عن ذلك، فهي أيام معدودة، ومع أنها أيام معدودة إلا أن فيها ألواناً من الرخص، ففي أول الإسلام على القول بانه كان هناك رخصة لمن لا يريد الصيام أن يفتدي، وحتى بعد ذلك لا زالت الرخصة قائمة إلى اليوم لمن كان مريضاً أو على سفر أن يفطر، ويصوم عدة من أيام أخر، ثم يعقب سبحانه ذلك كله بقوله: {يُرِيدُ اللّهُ بِكُمُ الْيُسْرَ وَلاَ يُرِيدُ بِكُمُ الْعُسْرَ}.
ففي الآية الكريمة ألوان من التدرج مع الناس، وفي هذا درس كبير للدعاة، فما دام الله سبحانه وتعالى، وهو يأمر عباده ويكلفهم بشعيرة هي ركن من أركان الإسلام، ومع ذلك في هذه الآية ما يزيد على اثني عشر درباً من دروب التدرج، والترغيب، والتحضيض، والتحبيب والتهوين على العباد؛ فكذلك الداعية ينبغي أن يحرص على تسويق دعوته إلى الناس بالحسنى، وأن يتدرج إليهم، ويحرص على هدايتهم من أقرب الطرق، وأسهل الأبواب والأسباب.
وسيرة الرسول - صلى الله عليه وسلم - وهديه أكمل هدي، وسنته أعظم سنه، جعل الله سبحانه وتعالى فيها خاصية يشعر معها الإنسان بقرب تناولها وتطبيقها، ففي الصحيح عن أَنَس بن مَالِكٍ - رضي الله عنه - قال: جَاءَ ثَلاَثَةُ رَهْطٍ إلى بُيُوتِ أَزْوَاجِ النَّبِي - صلى الله عليه وسلم - يَسْأَلُونَ عَنْ عِبَادَةِ النَّبِي - صلى الله عليه وسلم - فَلَمَّا أُخْبِرُوا كَأَنَّهُمْ تَقَالُّوهَا فَقَالُوا: وَأَيْنَ نَحْنُ مِنَ النَّبِي - صلى الله عليه وسلم - قَدْ غُفِرَ لَهُ مَا تَقَدَّمَ مِنْ ذَنْبِهِ وَمَا تَأَخَّرَ؟
قَالَ أَحَدُهُمْ: أَمَّا أَنَا فَإِنِّي أُصَلِّي اللَّيْلَ أَبَدًا. وَقَالَ آخَرُ: أَنَا أَصُومُ الدَّهْرَ وَلاَ أُفْطِرُ. وَقَالَ آخَرُ: أَنَا أَعْتَزِلُ النِّسَاءَ فَلاَ أَتَزَوَّجُ أَبَدًا. فَجَاءَ رَسُولُ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم - فَقَالَ: (أَنْتُمُ الَّذِينَ قُلْتُمْ كَذَا وَكَذَا أَمَا وَاللَّهِ إِنِّي لأَخْشَاكُمْ لِلَّهِ وَأَتْقَاكُمْ لَهُ، لَكِنِّي أَصُومُ وَأُفْطِرُ، وَأُصَلِّي وَأَرْقُدُ وَأَتَزَوَّجُ النِّسَاءَ، فَمَنْ رَغِبَ عَنْ سُنَّتِي فَلَيْسَ مِنِّي).
نعم وُجد عند السلف رحمهم الله أشياء ليست خارجة عن السنة، ولا هي من اتباع السنة، ولكنهم قد يأخذون أنفسهم بالجد في بعض الأمور؛ فيكون عند أحدهم جانب من القوة في شعيرة معينة في السلوك والزهد والإعراض عن الدنيا، أو العلم والتحصيل، أو الإنفاق أو الجهاد؛ فإذا نظرت إلى سيرة واحد منهم خُيل لك أنك لا تستطيع اللحاق به، لكن إذا نظرت إلى سيرة سيدهم وإمامهم وقدوتهم محمد - صلى الله عليه وسلم - شعرت أنها في المتناول، قريبة المأخذ، ممكنة الاتباع، وهذا درس كبير للداعية في تقريب الأمر إلى الناس وتسهيله عليهم، سواء كان أمر دعوة، أو أمر تعليم، أو أمر إصلاح أو خير، وليس من المصلحة للناس أن نشعرهم وهم يُقبلون على وجه من وجوه الخير أنهم داخلون في باب صعب، يعز عليهم المضي فيه، بل هون عليهم الأمر، وسهله لهم، وإذا دخلوا فيه وجدوا العون من الله تبارك.
التاسعة: الفرق الشاسع والبون العظيم بين أمة محمد - صلى الله عليه وسلم - وبين بني إسرائيل، فبنو إسرائيل في قوله تعالى: {وَإِذْ قَالَ مُوسَى لِقَوْمِهِ إِنَّ اللّهَ يَأْمُرُكُمْ أَنْ تَذْبَحُواْ بَقَرَةً قَالُواْ أَتَتَّخِذُنَا هُزُواً قَالَ أَعُوذُ بِاللّهِ أَنْ أَكُونَ مِنَ الْجَاهِلِينَ} (البقرة - 67).
لم يأتمروا بأمر الله مباشرة؛ بل شددوا فشدد الله عليهم، بينما الصحابة - رضي الله عنهم - عندما قال الله - عز وجل -: {كُتِبَ عَلَيْكُمُ الصِّيَامُ} صاموا حسب وسعهم وفهمهم واستطاعتهم، ولم يترددوا.
العاشرة: قوله - عز وجل -: {أياما مَّعْدُودَاتٍ}.
فيها ثلاثة أقوال:
أحدها: أنها ثلاثة أيام من كل شهر.
والثاني: أنها ثلاثة أيام من كل شهر، ويوم عاشوراء.
والثالث: أنها شهر رمضان، وهو الأصح، وتكون الآية محكمة في هذا القول، وفي القولين قبله تكون منسوخة.
الفائدة الحادية عشرة: قال الله - عز وجل -: {فَمَن كَانَ مِنكُم مرِيضًا أو عَلَى سَفَرٍ فَعِدَّةٌ منْ أيام أُخَرَ}فغاير بين {مرِيضًا}و{عَلَى سَفَرٍ}ولم يقل سبحانه: مريضاً أو مسافرا، ولم يقل جل جلاله: فمن كان منكم عنده مرض أو على سفر، والظاهر والله أعلم أن مريضاً يقصد به المريض الفعلي، لأن المرض هو: كل ما خرج به الإنسان عن حد الصحة من علة، وهذا يدخل فيه أقل شيء، حتى وجع الإصبع أو الصداع أو الزكام، فيوصف صاحبه بأنه مريض، بيد أن مثل هذه الأمراض لا تبيح الفطر عند جمهور العلماء، ومنهم الأئمة الأربعة، فلا يفطر إلا من أثّر الصوم على صحته، وأخَّر برءه وشِفاءه، أما من كان مرضه خفيفاً فلا يفطر.
أما السفر فقوله تعالى: {عَلَى سَفَرٍ}يعني: أي سفر، شريطة أن يطلق عليه اسم سفر، حتى لو كان بالطائرة، وفيه ترف وراحة وأنس فله أن يتمتع برخصة الفطر.
الثانية عشرة: قوله جل وعلا: {فَعِدَّةٌ مِّنْ أيام أُخَرَ} لم يقل سبحانه: فصيام من أيام أخر؛ ليدل على أن من أفطر أياماً من رمضان فإنه يقضي أياماً بعددها فقط، فعدة أي: بعدد ما أفطر، وقول بعضهم من أفطر يوماً فإنه يصوم عشرة أيام باطل لا أصل له، ويؤخذ منها أنه لا يلزم التتابع في القضاء، فإن الله - عز وجل - قد طلب منا شيئاً واحداً، وهو أن تكون أيام القضاء بعدد أيام الفطر، ولم يذكر شرطاً آخر، وهو مذهب الجمهور وهو الصحيح.
الثالثة عشرة: {فَعِدَّةٌ مِّنْ أيام أُخَرَ}هذه نكرة، فلو صام في أي شهر لقضى ما عليه، ولا يلزم أن يقضيها ضرورة بعد رمضان، وفي الصحيحين عن عَائِشَةَ - رضي الله عنها - قالت: كَانَ يَكُونُ عَلَي الصَّوْمُ مِنْ رَمَضَانَ، فَمَا أستطيع أَنْ أَقْضِي إِلاَّ فِي شَعْبَانَ. قَالَ يَحْيَى الشُّغْلُ مِنَ النَّبِيِ أو بِالنَّبِي - صلى الله عليه وسلم -.
الرابعة عشرة: {وَأَن تَصُومُواْ خَيْرٌ لَّكُمْ إِن كُنتُمْ تَعْلَمُونَ}لم يقل سبحانه والصيام خير لكم، وإنما عبر بالفعل المضارع مع أن المصدرية. والظاهر أن المعنى واحد من حيث الأصل، لكن يظل اللفظ القرآني له رونقه وإعجازه، مما لا يتوافر لأسلوب غيره، فالفعل المضارع يدل على التجدد والحدوث، بخلاف الاسم فهو أكثر جموداً {وَأَن تَصُومُواْ} تذكير لهم بمعنى الصيام، وتذكير بالنية فيه، وقصد الصيام وإرادته، ولهذا قال بعض العلماء: إن الصيام هو النية وقد ورد مرفوعاً: (الصيام لا رياء فيه)، أي الصيام الحقيقي؛ لأن حقيقة الصوم: أنه سر بين العبد وربه.
الخامسة عشرة: كيف يجمع بين قول الله تعالى: {وَأَن تَصُومُواْ خَيْرٌ لَّكُمْ}وبين الحديث المتفق عليه: (الصَّوْم لي، وَأَنَا أَجْزِي بِهِ). فظاهر الآية أن الصوم للعبد، وفي الحديث الصوم لله؟
فيقال: خير لكم أي لتقواكم: {لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ}، فمقصود الصوم تحقيق التقوى في النفوس والقلوب، فالصوم من جهة هو فعل العبد، وأثر الصوم وثمرته وفائدته يرجع للعبد، في تحقيق الثواب، والتربية على الصبر، وتحقيق الإخلاص، وأما نسبة الصوم إلى الله سبحانه وتعالى فباعتبار الإخلاص لله - عز وجل -، وأن الصوم لا يقع شرعياً إلا خالصاً له سبحانه وتعالى.[/justify]
وهذا من خصائص شريعة الإسلام في المأمورات كالصلاة، والمنهيات كالخمر، فالصلاة كانت في بادئ الأمر ركعتين ركعتين، فزيدت في الحضر، وبقيت في السفر، كما في الصحيحين عَنْ عَائِشَةَ أم الْمُؤْمِنِينَ قَالَتْ: (فَرَضَ اللَّهُ الصَّلاَةَ حِينَ فَرَضَهَا رَكْعَتَيْنِ رَكْعَتَيْنِ فِي الْحَضَرِ وَالسَّفَرِ، فَأُقِرَّتْ صَلاَةُ السَّفَرِ، وَزِيدَ فِي صَلاَةِ الْحَضَرِ). والخمر لم يحرمها الله - عز وجل - دفعة واحدة؛ بل على ثلاث مراحل.
وفي آية الصوم معنى عجيب لمن تأمله، فالله - عز وجل - خاطبهم بالإيمان، يقول سبحانه:{يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ}، وهذا فيه نوع من إثارة الإيمان لديهم، وتشجيعهم وحثهم على السماع والتنفيذ، ثم الإشارة إلى الكتاب أنه كُتب عليهم، وهذا فيه حث لهم؛ لأنه لو كان هذا الأمر مسنوناً أو مستحباً فربما فرط فيه بعض الناس، فقول ربنا سبحانه: {كُتِبَ}يعلم المستمع أن الكاتب هو الله الخالق، فيحثهم هذا على التطبيق، ثم يقول: {كَمَا كُتِبَ عَلَى الَّذِينَ مِن قَبْلِكُمْ}أي: هذا أمر لم تنفردوا به عن غيركم، ثم يُبين سبحانه وتعالى أنهم هم المقصودون، وأن المصلحة لهم {لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ}، ثم يؤكد سبحانه أن الأمر لا يتجاوز أياماً معدودات، وهي جموع قلة، أي: ثلاثة أيام في الأصل، أو ثلاثين يوماً على مذهب الجمهور، وقد تقل عن ذلك، فهي أيام معدودة، ومع أنها أيام معدودة إلا أن فيها ألواناً من الرخص، ففي أول الإسلام على القول بانه كان هناك رخصة لمن لا يريد الصيام أن يفتدي، وحتى بعد ذلك لا زالت الرخصة قائمة إلى اليوم لمن كان مريضاً أو على سفر أن يفطر، ويصوم عدة من أيام أخر، ثم يعقب سبحانه ذلك كله بقوله: {يُرِيدُ اللّهُ بِكُمُ الْيُسْرَ وَلاَ يُرِيدُ بِكُمُ الْعُسْرَ}.
ففي الآية الكريمة ألوان من التدرج مع الناس، وفي هذا درس كبير للدعاة، فما دام الله سبحانه وتعالى، وهو يأمر عباده ويكلفهم بشعيرة هي ركن من أركان الإسلام، ومع ذلك في هذه الآية ما يزيد على اثني عشر درباً من دروب التدرج، والترغيب، والتحضيض، والتحبيب والتهوين على العباد؛ فكذلك الداعية ينبغي أن يحرص على تسويق دعوته إلى الناس بالحسنى، وأن يتدرج إليهم، ويحرص على هدايتهم من أقرب الطرق، وأسهل الأبواب والأسباب.
وسيرة الرسول - صلى الله عليه وسلم - وهديه أكمل هدي، وسنته أعظم سنه، جعل الله سبحانه وتعالى فيها خاصية يشعر معها الإنسان بقرب تناولها وتطبيقها، ففي الصحيح عن أَنَس بن مَالِكٍ - رضي الله عنه - قال: جَاءَ ثَلاَثَةُ رَهْطٍ إلى بُيُوتِ أَزْوَاجِ النَّبِي - صلى الله عليه وسلم - يَسْأَلُونَ عَنْ عِبَادَةِ النَّبِي - صلى الله عليه وسلم - فَلَمَّا أُخْبِرُوا كَأَنَّهُمْ تَقَالُّوهَا فَقَالُوا: وَأَيْنَ نَحْنُ مِنَ النَّبِي - صلى الله عليه وسلم - قَدْ غُفِرَ لَهُ مَا تَقَدَّمَ مِنْ ذَنْبِهِ وَمَا تَأَخَّرَ؟
قَالَ أَحَدُهُمْ: أَمَّا أَنَا فَإِنِّي أُصَلِّي اللَّيْلَ أَبَدًا. وَقَالَ آخَرُ: أَنَا أَصُومُ الدَّهْرَ وَلاَ أُفْطِرُ. وَقَالَ آخَرُ: أَنَا أَعْتَزِلُ النِّسَاءَ فَلاَ أَتَزَوَّجُ أَبَدًا. فَجَاءَ رَسُولُ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم - فَقَالَ: (أَنْتُمُ الَّذِينَ قُلْتُمْ كَذَا وَكَذَا أَمَا وَاللَّهِ إِنِّي لأَخْشَاكُمْ لِلَّهِ وَأَتْقَاكُمْ لَهُ، لَكِنِّي أَصُومُ وَأُفْطِرُ، وَأُصَلِّي وَأَرْقُدُ وَأَتَزَوَّجُ النِّسَاءَ، فَمَنْ رَغِبَ عَنْ سُنَّتِي فَلَيْسَ مِنِّي).
نعم وُجد عند السلف رحمهم الله أشياء ليست خارجة عن السنة، ولا هي من اتباع السنة، ولكنهم قد يأخذون أنفسهم بالجد في بعض الأمور؛ فيكون عند أحدهم جانب من القوة في شعيرة معينة في السلوك والزهد والإعراض عن الدنيا، أو العلم والتحصيل، أو الإنفاق أو الجهاد؛ فإذا نظرت إلى سيرة واحد منهم خُيل لك أنك لا تستطيع اللحاق به، لكن إذا نظرت إلى سيرة سيدهم وإمامهم وقدوتهم محمد - صلى الله عليه وسلم - شعرت أنها في المتناول، قريبة المأخذ، ممكنة الاتباع، وهذا درس كبير للداعية في تقريب الأمر إلى الناس وتسهيله عليهم، سواء كان أمر دعوة، أو أمر تعليم، أو أمر إصلاح أو خير، وليس من المصلحة للناس أن نشعرهم وهم يُقبلون على وجه من وجوه الخير أنهم داخلون في باب صعب، يعز عليهم المضي فيه، بل هون عليهم الأمر، وسهله لهم، وإذا دخلوا فيه وجدوا العون من الله تبارك.
التاسعة: الفرق الشاسع والبون العظيم بين أمة محمد - صلى الله عليه وسلم - وبين بني إسرائيل، فبنو إسرائيل في قوله تعالى: {وَإِذْ قَالَ مُوسَى لِقَوْمِهِ إِنَّ اللّهَ يَأْمُرُكُمْ أَنْ تَذْبَحُواْ بَقَرَةً قَالُواْ أَتَتَّخِذُنَا هُزُواً قَالَ أَعُوذُ بِاللّهِ أَنْ أَكُونَ مِنَ الْجَاهِلِينَ} (البقرة - 67).
لم يأتمروا بأمر الله مباشرة؛ بل شددوا فشدد الله عليهم، بينما الصحابة - رضي الله عنهم - عندما قال الله - عز وجل -: {كُتِبَ عَلَيْكُمُ الصِّيَامُ} صاموا حسب وسعهم وفهمهم واستطاعتهم، ولم يترددوا.
العاشرة: قوله - عز وجل -: {أياما مَّعْدُودَاتٍ}.
فيها ثلاثة أقوال:
أحدها: أنها ثلاثة أيام من كل شهر.
والثاني: أنها ثلاثة أيام من كل شهر، ويوم عاشوراء.
والثالث: أنها شهر رمضان، وهو الأصح، وتكون الآية محكمة في هذا القول، وفي القولين قبله تكون منسوخة.
الفائدة الحادية عشرة: قال الله - عز وجل -: {فَمَن كَانَ مِنكُم مرِيضًا أو عَلَى سَفَرٍ فَعِدَّةٌ منْ أيام أُخَرَ}فغاير بين {مرِيضًا}و{عَلَى سَفَرٍ}ولم يقل سبحانه: مريضاً أو مسافرا، ولم يقل جل جلاله: فمن كان منكم عنده مرض أو على سفر، والظاهر والله أعلم أن مريضاً يقصد به المريض الفعلي، لأن المرض هو: كل ما خرج به الإنسان عن حد الصحة من علة، وهذا يدخل فيه أقل شيء، حتى وجع الإصبع أو الصداع أو الزكام، فيوصف صاحبه بأنه مريض، بيد أن مثل هذه الأمراض لا تبيح الفطر عند جمهور العلماء، ومنهم الأئمة الأربعة، فلا يفطر إلا من أثّر الصوم على صحته، وأخَّر برءه وشِفاءه، أما من كان مرضه خفيفاً فلا يفطر.
أما السفر فقوله تعالى: {عَلَى سَفَرٍ}يعني: أي سفر، شريطة أن يطلق عليه اسم سفر، حتى لو كان بالطائرة، وفيه ترف وراحة وأنس فله أن يتمتع برخصة الفطر.
الثانية عشرة: قوله جل وعلا: {فَعِدَّةٌ مِّنْ أيام أُخَرَ} لم يقل سبحانه: فصيام من أيام أخر؛ ليدل على أن من أفطر أياماً من رمضان فإنه يقضي أياماً بعددها فقط، فعدة أي: بعدد ما أفطر، وقول بعضهم من أفطر يوماً فإنه يصوم عشرة أيام باطل لا أصل له، ويؤخذ منها أنه لا يلزم التتابع في القضاء، فإن الله - عز وجل - قد طلب منا شيئاً واحداً، وهو أن تكون أيام القضاء بعدد أيام الفطر، ولم يذكر شرطاً آخر، وهو مذهب الجمهور وهو الصحيح.
الثالثة عشرة: {فَعِدَّةٌ مِّنْ أيام أُخَرَ}هذه نكرة، فلو صام في أي شهر لقضى ما عليه، ولا يلزم أن يقضيها ضرورة بعد رمضان، وفي الصحيحين عن عَائِشَةَ - رضي الله عنها - قالت: كَانَ يَكُونُ عَلَي الصَّوْمُ مِنْ رَمَضَانَ، فَمَا أستطيع أَنْ أَقْضِي إِلاَّ فِي شَعْبَانَ. قَالَ يَحْيَى الشُّغْلُ مِنَ النَّبِيِ أو بِالنَّبِي - صلى الله عليه وسلم -.
الرابعة عشرة: {وَأَن تَصُومُواْ خَيْرٌ لَّكُمْ إِن كُنتُمْ تَعْلَمُونَ}لم يقل سبحانه والصيام خير لكم، وإنما عبر بالفعل المضارع مع أن المصدرية. والظاهر أن المعنى واحد من حيث الأصل، لكن يظل اللفظ القرآني له رونقه وإعجازه، مما لا يتوافر لأسلوب غيره، فالفعل المضارع يدل على التجدد والحدوث، بخلاف الاسم فهو أكثر جموداً {وَأَن تَصُومُواْ} تذكير لهم بمعنى الصيام، وتذكير بالنية فيه، وقصد الصيام وإرادته، ولهذا قال بعض العلماء: إن الصيام هو النية وقد ورد مرفوعاً: (الصيام لا رياء فيه)، أي الصيام الحقيقي؛ لأن حقيقة الصوم: أنه سر بين العبد وربه.
الخامسة عشرة: كيف يجمع بين قول الله تعالى: {وَأَن تَصُومُواْ خَيْرٌ لَّكُمْ}وبين الحديث المتفق عليه: (الصَّوْم لي، وَأَنَا أَجْزِي بِهِ). فظاهر الآية أن الصوم للعبد، وفي الحديث الصوم لله؟
فيقال: خير لكم أي لتقواكم: {لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ}، فمقصود الصوم تحقيق التقوى في النفوس والقلوب، فالصوم من جهة هو فعل العبد، وأثر الصوم وثمرته وفائدته يرجع للعبد، في تحقيق الثواب، والتربية على الصبر، وتحقيق الإخلاص، وأما نسبة الصوم إلى الله سبحانه وتعالى فباعتبار الإخلاص لله - عز وجل -، وأن الصوم لا يقع شرعياً إلا خالصاً له سبحانه وتعالى.[/justify]