لقد تحدث القرآن عن مفردة الغيب في قوله تعالى:"الَّذِينَ يُؤْمِنُونَ بِالْغَيْبِ"، فهذا هو "الغيب"؛ أساس اليقين الإسلامي بما وراء الشهادة مما جعله الإسلام أصل الدين، فأركان الإيمان الستة منضوية تحت مسمى واحد هو الإيمان بالغيب؛ وجعل الله سبحانه وتعالى أول خاصية للمؤمنين هي إيمانهم بالغيب فهم لا يقتصرون بنظرهم على المادة المجردة, ولا يحجبون أبصارهم عن قراءة عالم الغيب من خلال عالم الشهادة، "وَفِي أَنْفُسِكُمْ أَفَلا تُبْصِرُونَ"، " وَفِي السَّمَاءِ رِزْقُكُمْ وَمَا تُوعَدُونَ"، فذكر سبحانه وتعالى ارتباط الغيب بالشهادة، فعالم الغيب مركز الإيمان، وبرهانه في عالم الشهادة مركز العمل؛ فالمسلمون يقرّون ويعترفون بما وراء الحس والمشهود؛ يؤمنون بالله وأسمائه وصفاته وبالملائكة والكتاب والنبيين والدار الآخرة والجنة والنار والحساب والصراط والميزان... وغير ذلك بتفاصيله التي ذكرت في كتاب الله, أو ذكرها النبي صلى الله عليه وسلم في الأخبار الصحيحة عنه.
ومن ذلك الإيمان بالجن, وهو جزء من الإيمان بالغيب قال تعالى: "قُلْ أُوحِيَ إِلَيَّ أَنَّهُ اسْتَمَعَ نَفَرٌ مِنَ الْجِنِّ فَقَالُوا إِنَّا سَمِعْنَا قُرْآناً عَجَباً"[الجـن:1] وقال سبحانه :" وَإِذْ صَرَفْنَا إِلَيْكَ نَفَراً مِنَ الْجِنِّ يَسْتَمِعُونَ الْقُرْآنَ"[الأحقاف:29]، فهذا من قطعيات الإيمان, من حيث وجودهم وتكليفهم ومسؤوليتهم ومحاسبتهم ومخاطبة الرسل لهم, وأن منهم المؤمن والكافر, وهذا قدر من الإيمان لا يحتاج إلى بحث عن أدلة مادية, فالعقل البشري ما زال قاصراً, حتى عند الأمم الغربية التي ما استطاعت أن تصل إلى النهضة والحضارة إلا بعد إيمانها بقصور العقل البشري ونقصه، وعدم إمكانية الاتكاء عليه بصورة كاملة، وإلا فالروح وهي في جسم الإنسان لم يستطع أحد أن يحدد ماهيتها, أو مكانها، يقول الله جل وعلا: "وَيَسْأَلونَكَ عَنِ الرُّوحِ قُلِ الرُّوحُ مِنْ أَمْرِ رَبِّي"[الإسراء:85]، حتى الكهرباء التي نجد أثرها خلال الإنجازات الضخمة الهائلة يظل الحديث عن ماهيتها، وعن الطاقة وماهيتها أمراً لا يزال العقل يتقاصر دونه, وإن كان بإمكانه مع البحث والجد أن يصل إلى ما لم يضرب الله حوله سياج المنع والاختصاص.
إن الإيمان بالغيب يمنح الحياة البشرية انفساحا في الذات والعقل, وبغيره تصبح الحياة كئيبة مغلقة, والإنسان مهما كان اعتقاده يكتنفه شعور بالحاجة إلى ربه وخالقه, خاصة وقت الضيق والشدة، يقول الله سبحانه وتعالى: "فَإِذَا رَكِبُوا فِي الْفُلْكِ دَعَوُا اللَّهَ مُخْلِصِينَ لَهُ الدِّينَ فَلَمَّا نَجَّاهُمْ إِلَى الْبَرِّ إِذَا هُمْ يُشْرِكُونَ"[العنكبوت:65]. وفيما عدا قضايا الغيب الصحيحة يعطي الإسلام للإنسان مساحات واسعة لإعمال العقل, ويحفزه إلى التفكير العلمي, وإخضاع ما يتعاطاه مع الكون للقياس المعرفي والعلمي، حتى عندما يدعي الإنسان قضية من الغيب يطالبه الإسلام فيها بالدليل, يقول الله تعالى: "قُلْ هَاتُوا بُرْهَانَكُمْ إِنْ كُنْتُمْ صَادِقِينَ"[البقرة:111]، وهنا يكمن محك الفرق بين الغيب والخرافة، فالغيب فوق العقل, والأسطورة والخرافة تحت العقل.
إن الإسلام يؤمن بالغيب الذي قد لا يعرفه العقل, لكن لا يوجد فيه ما ينكره العقل، وذلك ما قاله الإمام ابن تيمية في تلخيص بديع، [إن الإسلام يقرّ بمحارات العقول - أي بما تعجز عقول الناس عن معرفته وتحار فيه عقولهم- ولا يقرّ بمحالات العقول-أي بما تعلم العقول بطلانه وترفضه- والعقل لا ينكر الغيب، بل هو يدرك ضرورته للإنسان في دنياه وآخرته].
والصديق الأول أبو بكر رضي الله عنه قيل له: إن صاحبك يزعم أنه ذهب إلى بيت المقدس, ثم عرج إلى السماء, ثم رجع إلى بيته قبل أن يبرد فراشه, فقال: لئن كان قاله لقد صدق.
فعلق التصديق به على ثبوت الخبر, وهذا دليل على أن الأخبار الغيبية لا تتلقى إلا بخبر يقين من رب العالمين، بواسطة الأنبياء والمرسلين.
ولقد خلط المسلمون بين الأمرين؛ فأصبحت العقلية الإسلامية كأنها تهوى الخرافة، وتأنس بالأسطورة, فإذا جاءتها فكرة نيرة, أو خبر صحيح, أو رواية صادقة, وقفت وترددت وأطالت الجدل, وإذا ما لاحت لها الأسطورة أو الخرافة أو القصة المكذوبة طارت بها وتضلعت منها؛ حتى يتردد فيها بعض الناضجين والمثقفين، وإن كنت لا تعدم ذلك أيضاً في أمم الغرب, وما نبوءات ( نوسترادموس ) اليهودي الشهير عنا ببعيد, فقرابة ستين ألف موقع إلكتروني يتحدث عنه وعن نبوءاته، بينما العقلاء هناك بمنأى عن هذا.
وإنك لتسأل أين نور الإسلام من هذا ؟!
لَعَمرُكَ ما تَدري الضَوارِبُ بِالحَصى*** وَلا زاجِراتُ الطَيرِ ما اللَهُ صانِعُ
وإذا كان التحرز في قبول الأخبار متعيناً فإن طرد هذا المنهج العلمي، وإخضاع الإيمان الغيبي له أمر شديد الخطورة، والدين يخشى عليه من نصف متدين، كما أن العلم يخشى عليه من نصف عالم, وربما يكون الدافع لإطلاق المنهج العلمي في كل شيء حتى في الغيبيات هو النقص والضعف، أو الانهزامية في حياتنا ومناهجنا وتربيتنا لأنفسنا ولأولادنا.
والمفترض أن تكون هناك جرأة في إثبات القطعيات الغيبية, وأنها جزء من حياتنا البشرية, فلا توجد أمة ولا شعب ولا حضارة ولا تاريخ إلا والغيبيات تشكل جزءاً من نسيجها وبنية عقلها.
وفي الصحيح أن رَجُلا مِنْ أَهْلِ الْبَادِيَةِ جَاءَ إلى النبي صلى الله عليه وسلم؛ فَقَالَ: يَا مُحَمَّدُ أَتَانَا رَسُولُكَ, فَزَعَمَ لَنَا أَنَّكَ تَزْعُمُ أَنَّ اللَّهَ أَرْسَلَكَ! فقَالَ صلى الله عليه وسلم: ( صَدَقَ ). قَالَ: فَمَنْ خَلَقَ السَّمَاءَ؟ قَالَ: (اللَّهُ ).. والرجل يطلب الدليل ويتحرى ويجتهد, ولا يعاتبه النبي صلى الله عليه وسلم على ذلك, فالإسلام يربي أتباعه على تلك المعاني السامية، والعقلية المستنيرة.
ورغم ذلك تروج بين الناس إلى اليوم قصة رجل يدعي الشيخ أحمد حامل مفاتيح الحجرة النبوية, وأنه رأى النبي صلى الله عليه وسلم، وأنه قال له: إن سبعين ألفاً ماتوا على غير الإسلام, وإن النساء تبرجن, وأنه من وزّع هذه الورقة سيربح في تجارته, ومن لم يفعل خسر دنياه, وأن الذي لا يؤمن بها يكفر!! إلى أباطيل وترهات لا يقضي منها العقل السليم عجباً, على أنه لم يوجد يوماً من الدهر رجل يدعي أحمد حامل مفاتيح الحجرة ولا غيره، وقد تكلم عن هذه القصة محمد رشيد رضا, وذكر أنها موجودة منذ عام 1280 هـ, وهي إلى يومنا توزع وتروج، وقد وصلني أكثر من ثلاثين رسالة, يسألون عن صحتها, وهو سؤال مقتضاه إعادة لجواب مكرور، وقد تكلم عن هذه القصة الشيخ ابن باز والشيخ ابن عثيمين رحمهما الله, والشيخ صالح الفوزان, وغيرهم رداً وتفنيداً، ومع ذلك تظل باقية، تُعادونا مرة بعد أخرى!
أضف إلى ذلك قصة الفتاة المريضة مع زينب, وحديث عقوبة تارك الصلاة بخمس عشرة عقوبة، وأخبار الجن، والأساطير المختلفة التي تحيط بهم، والتي تعمر المجالس العامة والخاصة.
وثمت فرق بين أن تؤمن بوجود الجن وأنه من قطعيات الإيمان بدلالة القرآن والسنة, وأن يتحول ذلك إلى أسطورة ضخمة، وتهاويل ومخاوف ورعب للكبار وللصغار الذين يتربون على هذه الثقافة؛ حتى يخيل لبعضهم أن الجني يتربص به في المداخل والمنحنيات وفي الأزقة المظلمة، وأن كوكبة من الجن تلاحقه وتتحين الفرصة لتنقض عليه!
مع أن الأدلة الصحيحة تدل على أن الجن أضعف من الإنس, وأقل رتبة منه, وأنهم هم مَن يخافون الإنس، وليس العكس, بما يجعل المسلم ينأى عن هذه المبالغات, والتي تؤدي إلى تضخيم قضية دخول الجني في الإنس، وتحولها إلى كابوس مرعب سلط على رقاب الناس، فلا تعدم سماعاً أن راقياً يقول لمصاب: إن عائلة من الجن تسكن بداخلك, وأن آخر صعق مريضاً بالكهرباء لإخراج الجني فمات المصاب, واعتذر الراقي بأن الجني خرج، لكنه قتل صاحبه قبل خروجه.
على المسلم أن يحصن الإنسان نفسه بالأذكار الشرعية صباحاً ومساءً، عند الخلاء والنوم والخروج والدخول.. فملازمة الذكر مطلب شرعي, وهي حصن من الشيطان، يقول الله جل وعلا: "وَإِمَّا يَنْزَغَنَّكَ مِنَ الشَّيْطَانِ نَزْغٌ فَاسْتَعِذْ بِاللَّهِ إِنَّهُ سَمِيعٌ عَلِيمٌ"(الأعراف:200)، وفي قصة أيوب عليه السلام، "أَنِّي مَسَّنِيَ الشَّيْطَانُ بِنُصْبٍ وَعَذَابٍ"(صّ: من الآية41)، فقد عبّر عنه عليه الصلاة والسلام بالمس, لكنه ليس كما يتصوره الناس بمبالغاتهم وثقافتهم الخاصة, وبتأمل السنة تجد أن هذا لم يرد إلا نادراً في سيرة طويلة ضخمة, والناس كانوا في جاهلية جهلاء, وفيهم الكافر والمنافق والمشرك، وحديث العهد بالإسلام، ومع ذلك فالتلبس حالة نادرة! بينما الناس اليوم في خير وإيمان وذكر وصلاة وقرآن, ومع ذلك انتشر هذا الأمر بشكل ملفت؛ حتى إن من الناس من يرجع الأمراض الفتاكة المعروفة إلى جن يعبث بالخلايا والأعضاء الجسدية, وحتى الأمراض النفسية المشهورة، كالاكتئاب والانفصام هي عند بعضهم جن فحسب؛ إلى أن أصبح الجن في بعض التصورات خلف كل معاناة.
لا بأس أن يرقي الإنسان نفسه, ففي قصة اللديغ – كما في الصحيح - الذي قرأت عليه الفاتحة أنه قام كأنما نشط من عقال، لكن هذا لون وتحول ذلك إلى تجارة، وحل لكل المعضلات، ومبالغة في توحيد السبب في حالة غريبة من الهروب من مشكلاتنا، وإلقائها على طرف مجهول غائب- لون آخر .
وأخشى أن يستبد بنا الأمر إلى أن نحمّل الجن مسؤولية فشلنا السياسي والاقتصادي والعسكري بعدما حملناهم مسؤوليات الارتباك الاجتماعي بما لم يوجد عند أحد من أمم الأرض.
ولقد سمعت شخصاً في مجلس يتحدث عن جيوش جرارة من الجن تغزو عاصمة خليجية، وتحيط بها من كل جانب، وتسعى للإطباق عليها، والحضور يفغرون أفواههم ما بين مصدق ومستغرب، لكن من ذا يستدرك على الشيخ؟!
ومن ذلك الإيمان بالجن, وهو جزء من الإيمان بالغيب قال تعالى: "قُلْ أُوحِيَ إِلَيَّ أَنَّهُ اسْتَمَعَ نَفَرٌ مِنَ الْجِنِّ فَقَالُوا إِنَّا سَمِعْنَا قُرْآناً عَجَباً"[الجـن:1] وقال سبحانه :" وَإِذْ صَرَفْنَا إِلَيْكَ نَفَراً مِنَ الْجِنِّ يَسْتَمِعُونَ الْقُرْآنَ"[الأحقاف:29]، فهذا من قطعيات الإيمان, من حيث وجودهم وتكليفهم ومسؤوليتهم ومحاسبتهم ومخاطبة الرسل لهم, وأن منهم المؤمن والكافر, وهذا قدر من الإيمان لا يحتاج إلى بحث عن أدلة مادية, فالعقل البشري ما زال قاصراً, حتى عند الأمم الغربية التي ما استطاعت أن تصل إلى النهضة والحضارة إلا بعد إيمانها بقصور العقل البشري ونقصه، وعدم إمكانية الاتكاء عليه بصورة كاملة، وإلا فالروح وهي في جسم الإنسان لم يستطع أحد أن يحدد ماهيتها, أو مكانها، يقول الله جل وعلا: "وَيَسْأَلونَكَ عَنِ الرُّوحِ قُلِ الرُّوحُ مِنْ أَمْرِ رَبِّي"[الإسراء:85]، حتى الكهرباء التي نجد أثرها خلال الإنجازات الضخمة الهائلة يظل الحديث عن ماهيتها، وعن الطاقة وماهيتها أمراً لا يزال العقل يتقاصر دونه, وإن كان بإمكانه مع البحث والجد أن يصل إلى ما لم يضرب الله حوله سياج المنع والاختصاص.
إن الإيمان بالغيب يمنح الحياة البشرية انفساحا في الذات والعقل, وبغيره تصبح الحياة كئيبة مغلقة, والإنسان مهما كان اعتقاده يكتنفه شعور بالحاجة إلى ربه وخالقه, خاصة وقت الضيق والشدة، يقول الله سبحانه وتعالى: "فَإِذَا رَكِبُوا فِي الْفُلْكِ دَعَوُا اللَّهَ مُخْلِصِينَ لَهُ الدِّينَ فَلَمَّا نَجَّاهُمْ إِلَى الْبَرِّ إِذَا هُمْ يُشْرِكُونَ"[العنكبوت:65]. وفيما عدا قضايا الغيب الصحيحة يعطي الإسلام للإنسان مساحات واسعة لإعمال العقل, ويحفزه إلى التفكير العلمي, وإخضاع ما يتعاطاه مع الكون للقياس المعرفي والعلمي، حتى عندما يدعي الإنسان قضية من الغيب يطالبه الإسلام فيها بالدليل, يقول الله تعالى: "قُلْ هَاتُوا بُرْهَانَكُمْ إِنْ كُنْتُمْ صَادِقِينَ"[البقرة:111]، وهنا يكمن محك الفرق بين الغيب والخرافة، فالغيب فوق العقل, والأسطورة والخرافة تحت العقل.
إن الإسلام يؤمن بالغيب الذي قد لا يعرفه العقل, لكن لا يوجد فيه ما ينكره العقل، وذلك ما قاله الإمام ابن تيمية في تلخيص بديع، [إن الإسلام يقرّ بمحارات العقول - أي بما تعجز عقول الناس عن معرفته وتحار فيه عقولهم- ولا يقرّ بمحالات العقول-أي بما تعلم العقول بطلانه وترفضه- والعقل لا ينكر الغيب، بل هو يدرك ضرورته للإنسان في دنياه وآخرته].
والصديق الأول أبو بكر رضي الله عنه قيل له: إن صاحبك يزعم أنه ذهب إلى بيت المقدس, ثم عرج إلى السماء, ثم رجع إلى بيته قبل أن يبرد فراشه, فقال: لئن كان قاله لقد صدق.
فعلق التصديق به على ثبوت الخبر, وهذا دليل على أن الأخبار الغيبية لا تتلقى إلا بخبر يقين من رب العالمين، بواسطة الأنبياء والمرسلين.
ولقد خلط المسلمون بين الأمرين؛ فأصبحت العقلية الإسلامية كأنها تهوى الخرافة، وتأنس بالأسطورة, فإذا جاءتها فكرة نيرة, أو خبر صحيح, أو رواية صادقة, وقفت وترددت وأطالت الجدل, وإذا ما لاحت لها الأسطورة أو الخرافة أو القصة المكذوبة طارت بها وتضلعت منها؛ حتى يتردد فيها بعض الناضجين والمثقفين، وإن كنت لا تعدم ذلك أيضاً في أمم الغرب, وما نبوءات ( نوسترادموس ) اليهودي الشهير عنا ببعيد, فقرابة ستين ألف موقع إلكتروني يتحدث عنه وعن نبوءاته، بينما العقلاء هناك بمنأى عن هذا.
وإنك لتسأل أين نور الإسلام من هذا ؟!
لَعَمرُكَ ما تَدري الضَوارِبُ بِالحَصى*** وَلا زاجِراتُ الطَيرِ ما اللَهُ صانِعُ
وإذا كان التحرز في قبول الأخبار متعيناً فإن طرد هذا المنهج العلمي، وإخضاع الإيمان الغيبي له أمر شديد الخطورة، والدين يخشى عليه من نصف متدين، كما أن العلم يخشى عليه من نصف عالم, وربما يكون الدافع لإطلاق المنهج العلمي في كل شيء حتى في الغيبيات هو النقص والضعف، أو الانهزامية في حياتنا ومناهجنا وتربيتنا لأنفسنا ولأولادنا.
والمفترض أن تكون هناك جرأة في إثبات القطعيات الغيبية, وأنها جزء من حياتنا البشرية, فلا توجد أمة ولا شعب ولا حضارة ولا تاريخ إلا والغيبيات تشكل جزءاً من نسيجها وبنية عقلها.
وفي الصحيح أن رَجُلا مِنْ أَهْلِ الْبَادِيَةِ جَاءَ إلى النبي صلى الله عليه وسلم؛ فَقَالَ: يَا مُحَمَّدُ أَتَانَا رَسُولُكَ, فَزَعَمَ لَنَا أَنَّكَ تَزْعُمُ أَنَّ اللَّهَ أَرْسَلَكَ! فقَالَ صلى الله عليه وسلم: ( صَدَقَ ). قَالَ: فَمَنْ خَلَقَ السَّمَاءَ؟ قَالَ: (اللَّهُ ).. والرجل يطلب الدليل ويتحرى ويجتهد, ولا يعاتبه النبي صلى الله عليه وسلم على ذلك, فالإسلام يربي أتباعه على تلك المعاني السامية، والعقلية المستنيرة.
ورغم ذلك تروج بين الناس إلى اليوم قصة رجل يدعي الشيخ أحمد حامل مفاتيح الحجرة النبوية, وأنه رأى النبي صلى الله عليه وسلم، وأنه قال له: إن سبعين ألفاً ماتوا على غير الإسلام, وإن النساء تبرجن, وأنه من وزّع هذه الورقة سيربح في تجارته, ومن لم يفعل خسر دنياه, وأن الذي لا يؤمن بها يكفر!! إلى أباطيل وترهات لا يقضي منها العقل السليم عجباً, على أنه لم يوجد يوماً من الدهر رجل يدعي أحمد حامل مفاتيح الحجرة ولا غيره، وقد تكلم عن هذه القصة محمد رشيد رضا, وذكر أنها موجودة منذ عام 1280 هـ, وهي إلى يومنا توزع وتروج، وقد وصلني أكثر من ثلاثين رسالة, يسألون عن صحتها, وهو سؤال مقتضاه إعادة لجواب مكرور، وقد تكلم عن هذه القصة الشيخ ابن باز والشيخ ابن عثيمين رحمهما الله, والشيخ صالح الفوزان, وغيرهم رداً وتفنيداً، ومع ذلك تظل باقية، تُعادونا مرة بعد أخرى!
أضف إلى ذلك قصة الفتاة المريضة مع زينب, وحديث عقوبة تارك الصلاة بخمس عشرة عقوبة، وأخبار الجن، والأساطير المختلفة التي تحيط بهم، والتي تعمر المجالس العامة والخاصة.
وثمت فرق بين أن تؤمن بوجود الجن وأنه من قطعيات الإيمان بدلالة القرآن والسنة, وأن يتحول ذلك إلى أسطورة ضخمة، وتهاويل ومخاوف ورعب للكبار وللصغار الذين يتربون على هذه الثقافة؛ حتى يخيل لبعضهم أن الجني يتربص به في المداخل والمنحنيات وفي الأزقة المظلمة، وأن كوكبة من الجن تلاحقه وتتحين الفرصة لتنقض عليه!
مع أن الأدلة الصحيحة تدل على أن الجن أضعف من الإنس, وأقل رتبة منه, وأنهم هم مَن يخافون الإنس، وليس العكس, بما يجعل المسلم ينأى عن هذه المبالغات, والتي تؤدي إلى تضخيم قضية دخول الجني في الإنس، وتحولها إلى كابوس مرعب سلط على رقاب الناس، فلا تعدم سماعاً أن راقياً يقول لمصاب: إن عائلة من الجن تسكن بداخلك, وأن آخر صعق مريضاً بالكهرباء لإخراج الجني فمات المصاب, واعتذر الراقي بأن الجني خرج، لكنه قتل صاحبه قبل خروجه.
على المسلم أن يحصن الإنسان نفسه بالأذكار الشرعية صباحاً ومساءً، عند الخلاء والنوم والخروج والدخول.. فملازمة الذكر مطلب شرعي, وهي حصن من الشيطان، يقول الله جل وعلا: "وَإِمَّا يَنْزَغَنَّكَ مِنَ الشَّيْطَانِ نَزْغٌ فَاسْتَعِذْ بِاللَّهِ إِنَّهُ سَمِيعٌ عَلِيمٌ"(الأعراف:200)، وفي قصة أيوب عليه السلام، "أَنِّي مَسَّنِيَ الشَّيْطَانُ بِنُصْبٍ وَعَذَابٍ"(صّ: من الآية41)، فقد عبّر عنه عليه الصلاة والسلام بالمس, لكنه ليس كما يتصوره الناس بمبالغاتهم وثقافتهم الخاصة, وبتأمل السنة تجد أن هذا لم يرد إلا نادراً في سيرة طويلة ضخمة, والناس كانوا في جاهلية جهلاء, وفيهم الكافر والمنافق والمشرك، وحديث العهد بالإسلام، ومع ذلك فالتلبس حالة نادرة! بينما الناس اليوم في خير وإيمان وذكر وصلاة وقرآن, ومع ذلك انتشر هذا الأمر بشكل ملفت؛ حتى إن من الناس من يرجع الأمراض الفتاكة المعروفة إلى جن يعبث بالخلايا والأعضاء الجسدية, وحتى الأمراض النفسية المشهورة، كالاكتئاب والانفصام هي عند بعضهم جن فحسب؛ إلى أن أصبح الجن في بعض التصورات خلف كل معاناة.
لا بأس أن يرقي الإنسان نفسه, ففي قصة اللديغ – كما في الصحيح - الذي قرأت عليه الفاتحة أنه قام كأنما نشط من عقال، لكن هذا لون وتحول ذلك إلى تجارة، وحل لكل المعضلات، ومبالغة في توحيد السبب في حالة غريبة من الهروب من مشكلاتنا، وإلقائها على طرف مجهول غائب- لون آخر .
وأخشى أن يستبد بنا الأمر إلى أن نحمّل الجن مسؤولية فشلنا السياسي والاقتصادي والعسكري بعدما حملناهم مسؤوليات الارتباك الاجتماعي بما لم يوجد عند أحد من أمم الأرض.
ولقد سمعت شخصاً في مجلس يتحدث عن جيوش جرارة من الجن تغزو عاصمة خليجية، وتحيط بها من كل جانب، وتسعى للإطباق عليها، والحضور يفغرون أفواههم ما بين مصدق ومستغرب، لكن من ذا يستدرك على الشيخ؟!