لو اعترض على أحدنا وهو يقوم بعمل ما، وعوتب بأن هذا هروب من القدر؛ لأجاب بعفوية:
أعوذ بالله!
ومن يفر من القدر؟!
لكن الخليفة العظيم عمر سبك لنا لفظًا متقنًا بديعًا يؤكد أن من أخلص جنانه فصح لسانه، فحين اعترض عليه بعض الصحابة وهو يرجع بالناس من الشام خشية الطاعون، واعتبروه فراراً من القدر؛ أجاب: " نعم ! "
وهذه مفاجأة تكسر الهيبة الوهمية عند من صنع السؤال وظنه إجهازًا وقضاءً على مبدأ الهروب والتوقي ومدافعة أسباب الشر بأسباب الخير.. ثم أردف رضي الله عنه: "نفِرُّ من قدر الله إلى قدر الله "؛ ليرسم بذلك فعل الإنسان وأنه ليس الاستسلام لما يظنه قدراً ، بل مدافعة الشر بالخير ، والعجز بالقوة، والجهل بالعلم، والفقر بالغنى، والمرض بالصحة، والمعصية بالطاعة، والتخلف بأسباب الرقي والتقدم.
والقدر حق، والإيمان به واجب، ولكن الشأن في حسن الفهم؛ لئلا يتحول القدر إلى جبرية لا مخلص منها، أو إلغاء لدور الإنسان ومسؤوليته في الخير والشر.
فإن معظم الباحثين الغربيين والقُرَّاء عن الإسلام من غير أهله يُعييهم فهم القدر على وجهه؛ فيرسمونهُ على أنه استسلام للأخطاء، وتهربٌ من الاعتراف بالمسؤولية عنها كليًّا أو جزئيًّا، وقد يظنون أن ما أصاب المسلمين من نكسات حضارية هو بسبب الإيمان بهذا الركن.
ولا غرابة في هذا إذا علمنا أن كثيرًا من عوام المسلمين ينساقون مع هذا الفهم ويتحججون بالقدر على وجه التنصل من المسؤوليات والتبعات.
وقد قرأت بياناً لبعض العلماء والأئمة وصف فيه ما جرى من مقتلة عند الجمرة هذا العام ( 1424هـ ) بأنه "قضاء وقدر"!
وهذا معنىً فاضلٌُ شريفٌ، والتذكير به حسن لتسلية المصاب ومعالجة الحزن، وقد قال تعالى: (مَا أَصَابَ مِنْ مُصِيبَةٍ إِلَّا بِإِذْنِ اللَّهِ وَمَنْ يُؤْمِنْ بِاللَّهِ يَهْدِ قَلْبَهُ).
قال بعض السلف: هو العبد تصيبه المصيبة فيعلم أنها من عند الله فيرضى ويُسلِّم..
وهذا لا يتنافى قط مع البحث عن أسباب المصيبة والسعي الجاد لتلافي تكرارها والشجاعة التامّة في تحمل كل طرف لمسؤوليته أيًّا كان مقدارها وحجمها.
فعلى الجهات الإدارية مسؤوليتها، وعلى جهات الفتوى والتوعية مسؤوليتها، وعلى الحملات مسؤوليتها، وعلى البلدان التي جاؤوا منها مسؤوليتها، وعلى الحاج نفسه مسؤوليته أيضاً.
والحزن على هؤلاء المسلمين يوجب علينا ألا ننشغل بتدافع المسؤولية عن تحملها بجدارة واقتدار.
إن من القدر أن يحتل اليهود فلسطين؛ ومنه أيضاً أن نجاهدهم.
ومن القدر أن تتفشّى الخرافة بين المسلمين؛ ومنه أن نقاومها بالعلم والمعرفة الصحيحة.
ومن القدر أن يوجد التطرف والعنف والإرهاب والتفجيرات؛ ولكن من القدر أيضاً أن نقاوم كل هذه السلبيات ونجاهدها وننتصر عليها بإذن الله.
إن الحج مدرسة عريقة للعناية بحقوق الإنسان فردًا أو جماعة (جَعَلَ اللَّهُ الْكَعْبَةَ الْبَيْتَ الْحَرَامَ قِيَاماً لِلنَّاس)، (.. وَالْمَسْجِدِ الْحَرَامِ الَّذِي جَعَلْنَاهُ لِلنَّاسِ).
وقد تضمنت خطبة الوداع النبوية التأكيد على أصول الحقوق الإنسانية من الدماء والأموال والأعراض وغيرها؛ فهل نقبل أن تتحول هذه الشعيرة الربانية إلى فرصة لإهدار هذه الحقوق بسبب الجهل، أو فقدان الوعي أو سوء التنظيم أو الانهماك في مخاوف متوقعة بدلاً من مخاوف واقعة أو ضيق النظرة الفقهية التي قد تحتاط للواجب أو السنة وتهدر الركن ؟
لقد دافعنا فوضى السكن بمنى والإيقاد والحرائق ببناء الخيام؛ فأصبحت منى أكبر مدينة خيام في العالم.
فلنبتكر (مبكرًا ومن الآن) من وسائل تسهيل الدفع والرمي والنـزول إلى مكة والطواف والنظام والنظافة وصناعة الوعي وتقسيم المسؤوليات ما يضاعف من يسر هذا النُّسك وروحانيته، ويُقدم الصورة الجميلة التي نحب أن ترانا الشعوب عليها وهي تتابع مظاهر اجتماعنا في الحج على الشاشات الفضائية.
إن مشهد المصلين في الحرم بنظامه الفذّ واتساعه وتناسق حركاته لهو صورة أخّاذة تملأ جوانح المسلم حبورًا وفرحة وتحبب هذا الدين إلى الناس.
فلتكن مناسكنا وشعائرنا ومشاعرنا كلها كذلك.
والله الموفق .
أعوذ بالله!
ومن يفر من القدر؟!
لكن الخليفة العظيم عمر سبك لنا لفظًا متقنًا بديعًا يؤكد أن من أخلص جنانه فصح لسانه، فحين اعترض عليه بعض الصحابة وهو يرجع بالناس من الشام خشية الطاعون، واعتبروه فراراً من القدر؛ أجاب: " نعم ! "
وهذه مفاجأة تكسر الهيبة الوهمية عند من صنع السؤال وظنه إجهازًا وقضاءً على مبدأ الهروب والتوقي ومدافعة أسباب الشر بأسباب الخير.. ثم أردف رضي الله عنه: "نفِرُّ من قدر الله إلى قدر الله "؛ ليرسم بذلك فعل الإنسان وأنه ليس الاستسلام لما يظنه قدراً ، بل مدافعة الشر بالخير ، والعجز بالقوة، والجهل بالعلم، والفقر بالغنى، والمرض بالصحة، والمعصية بالطاعة، والتخلف بأسباب الرقي والتقدم.
والقدر حق، والإيمان به واجب، ولكن الشأن في حسن الفهم؛ لئلا يتحول القدر إلى جبرية لا مخلص منها، أو إلغاء لدور الإنسان ومسؤوليته في الخير والشر.
فإن معظم الباحثين الغربيين والقُرَّاء عن الإسلام من غير أهله يُعييهم فهم القدر على وجهه؛ فيرسمونهُ على أنه استسلام للأخطاء، وتهربٌ من الاعتراف بالمسؤولية عنها كليًّا أو جزئيًّا، وقد يظنون أن ما أصاب المسلمين من نكسات حضارية هو بسبب الإيمان بهذا الركن.
ولا غرابة في هذا إذا علمنا أن كثيرًا من عوام المسلمين ينساقون مع هذا الفهم ويتحججون بالقدر على وجه التنصل من المسؤوليات والتبعات.
وقد قرأت بياناً لبعض العلماء والأئمة وصف فيه ما جرى من مقتلة عند الجمرة هذا العام ( 1424هـ ) بأنه "قضاء وقدر"!
وهذا معنىً فاضلٌُ شريفٌ، والتذكير به حسن لتسلية المصاب ومعالجة الحزن، وقد قال تعالى: (مَا أَصَابَ مِنْ مُصِيبَةٍ إِلَّا بِإِذْنِ اللَّهِ وَمَنْ يُؤْمِنْ بِاللَّهِ يَهْدِ قَلْبَهُ).
قال بعض السلف: هو العبد تصيبه المصيبة فيعلم أنها من عند الله فيرضى ويُسلِّم..
وهذا لا يتنافى قط مع البحث عن أسباب المصيبة والسعي الجاد لتلافي تكرارها والشجاعة التامّة في تحمل كل طرف لمسؤوليته أيًّا كان مقدارها وحجمها.
فعلى الجهات الإدارية مسؤوليتها، وعلى جهات الفتوى والتوعية مسؤوليتها، وعلى الحملات مسؤوليتها، وعلى البلدان التي جاؤوا منها مسؤوليتها، وعلى الحاج نفسه مسؤوليته أيضاً.
والحزن على هؤلاء المسلمين يوجب علينا ألا ننشغل بتدافع المسؤولية عن تحملها بجدارة واقتدار.
إن من القدر أن يحتل اليهود فلسطين؛ ومنه أيضاً أن نجاهدهم.
ومن القدر أن تتفشّى الخرافة بين المسلمين؛ ومنه أن نقاومها بالعلم والمعرفة الصحيحة.
ومن القدر أن يوجد التطرف والعنف والإرهاب والتفجيرات؛ ولكن من القدر أيضاً أن نقاوم كل هذه السلبيات ونجاهدها وننتصر عليها بإذن الله.
إن الحج مدرسة عريقة للعناية بحقوق الإنسان فردًا أو جماعة (جَعَلَ اللَّهُ الْكَعْبَةَ الْبَيْتَ الْحَرَامَ قِيَاماً لِلنَّاس)، (.. وَالْمَسْجِدِ الْحَرَامِ الَّذِي جَعَلْنَاهُ لِلنَّاسِ).
وقد تضمنت خطبة الوداع النبوية التأكيد على أصول الحقوق الإنسانية من الدماء والأموال والأعراض وغيرها؛ فهل نقبل أن تتحول هذه الشعيرة الربانية إلى فرصة لإهدار هذه الحقوق بسبب الجهل، أو فقدان الوعي أو سوء التنظيم أو الانهماك في مخاوف متوقعة بدلاً من مخاوف واقعة أو ضيق النظرة الفقهية التي قد تحتاط للواجب أو السنة وتهدر الركن ؟
لقد دافعنا فوضى السكن بمنى والإيقاد والحرائق ببناء الخيام؛ فأصبحت منى أكبر مدينة خيام في العالم.
فلنبتكر (مبكرًا ومن الآن) من وسائل تسهيل الدفع والرمي والنـزول إلى مكة والطواف والنظام والنظافة وصناعة الوعي وتقسيم المسؤوليات ما يضاعف من يسر هذا النُّسك وروحانيته، ويُقدم الصورة الجميلة التي نحب أن ترانا الشعوب عليها وهي تتابع مظاهر اجتماعنا في الحج على الشاشات الفضائية.
إن مشهد المصلين في الحرم بنظامه الفذّ واتساعه وتناسق حركاته لهو صورة أخّاذة تملأ جوانح المسلم حبورًا وفرحة وتحبب هذا الدين إلى الناس.
فلتكن مناسكنا وشعائرنا ومشاعرنا كلها كذلك.
والله الموفق .