مفهوم الحرية ، يمكن أن يعني حسبما سبق : طلاقة الإرادة البشرية من القسر ، أو من هيمنة سلطةٍ عليها سواءً كانت سلطة خارجية ، أو كانت سلطة داخلية ؛ فالسلطة الخارجية قد تكون سلطة سياسية ؛ تُكمم الأفواه ، أو تملي على الناس ما يجب أن يقولوا ، و قد تكون سلطة دينية تحتكر فهم النص أو قراءته ، و تصادر حق الآخرين في ذلك ، و قد تكون سلطة اجتماعية تفرض على الأفراد الانصياع لأوامرها و قراراتها .
و نعبر عن هذه السلطات بأنها خارجية ؛ لأنها من خارج الذات ، ومع ذلك فإن هذه السلطات في الأصل لابد منها ؛ فلا يتخيل وجود مجتمع بدون سلطة سياسية كما قال الأفوه الأودي : [center]
[table cellSpacing=0 cellPadding=0 width=450 align=center border=0][tr][td vAlign=bottom width="45%"][font='Times New Roman']لا يَصلُحُ النَّاسُ فَوضَى لا سَراة لَهم[/font] [/td][font='Times New Roman']
[td width="10%"] [/td][/font]
[td width="45%"][font='Times New Roman']
ولا سَـــرَاة إذا جُــهالُــــهم سَـــادوا[/font] [/td][/tr][/table][/center]
[justify]وكذلك مجتمع بدون هوية ، بدون دين ، بدون قاعدة لا معنى لكونه مجتمعاً ، أي مجتمع بشري لا بدّ أن يكون لديه مجموعة من الأعراف والعلاقات و الروابط ؛ المؤثرة في الضبط الاجتماعي والاستقرار الإنساني ؛ لكن المحذور أن يتحول هذا الدور إلى نوع من التسلط ، أو العدوان على حقوق الآخرين ، وهنا لابد أن نستخدم كلمة التوازن ، في معرفة الضابط بين القدْر المشروع من هذه المراقبة أو السلطة ، و بين القدْر الذي يتعدى حده ليكون عدواناً على إرادة الآخرين وحرياتهم .
هناك النوع الآخر من السلطات ، وهو ما يمكن أن نعبر عنه بالسلطة الذاتية وهو أن لدى الإنسان مجموعة من: الطباع ، و الأخلاق ، والركائز الجبلّية ؛ التي تؤثر في نظرته للأمور ، و قراراته ؛ كأن يكون شجاعاً ، أو متهوراً ، أو ضعيفاً متردداً ، أوحاداً ، أو ليّناً إلى غير ذلك من الخصال والطبائع المركبة في بني الإنسان ، والتي تؤثر في إرادتهم ، و تؤثر في قراراتهم ، وتؤثر في أحكامهم ، وحتى في اختياراتهم الشرعية أحياناً .
إضافة إلى العوامل البيئية ، و النفسية ، و التاريخية ، و المصلحّية ، و نستطيع أن نقول تأسيساً على هذه المسألة: أن ثمت ما يمكن أن يسمى بمرجعية الحرية على سبيل التجوز في المصطلح لا غير و تتمثل في أربعة أشياء:
[color=blue]أولاً:[/color]المرجعية النصيّة أو الشرعية، أي سلطة النص الشرعي على المؤمنين .
[color=blue]ثانياً: [/color]المرجعية العلمية ونعني بها العلماء المعبرين عن الشريعة ؛ كما سماهم ابن القيم - رحمه الله- في كتابه : إعلام الموقعين عن رب العالمين.
[color=blue]ثالثاً: [/color]السلطة السياسية.
[color=blue]رابعاً: [/color]السلطة الاجتماعية.
ففيما يتعلق بالنص ، وهو القضية الأولى ؛ فإن لكل حضارة في الدنيا أياً كانت مرجعية ً مقدسة لديها ، لا يمكن المساس بها ، قد تكون مستمدةً من قيم ، أو دين ، وقد تكون الحضارة مادية تقدس اللذة أو العقل ، أو المادة ، أو المصلحة ، أو غير ذلك .
فلا يمكن أن توجد حضارة إلا ولها مرجعية دينية ، أو ثقافية.
وفي المرجعية النصية ، فإن هوية هذه الأمة هي الإسلام ، والدين هو أهم المسلمات ، وهو اختيار أفراد الأمة ومجتمعاتها ، وحتى اختيار أقلياتها .
فإن الشعوب المفتوحة ، التي دخلت في الإسلام كالبربر أو الشعوب الأفريقية ، أو شعوب مصر ، أو الشام ، أو غيرها ذابت في الإسلام ، وتقبلته ، وآمنت به ، وحملت رسالته ، وجاهدت في سبيله.
إننا لا نعرف في تاريخ الإسلام أبداً أن شعباً ، أو حتى فرداً دخل في الإسلام بالقسر والإكراه ، وفي النص القرآني الكريم يقول الله - تعالى-: ( لا إِكْرَاهَ فِي الدِّينِ ) (البقرة: من الآية256) ، فلم يُكرَه أحدٌ على الدخول في الإسلام ، بل إن من مُسلمات الدين أنه لو دخل أحدٌ في الإسلام بواسطة الضغط والإكراه فإن إسلامه لا يكون صحيحاً عند الله ؛ لأنه حينئذٍ مُكرَه ، والمكره لا تتعلق به الأحكام الشرعية ، ولهذا يقول الله سبحانه وتعالى: ( مَنْ كَفَرَ بِاللَّهِ مِنْ بَعْدِ إِيمَانِهِ إِلَّا مَنْ أُكْرِهَ وَقَلْبُهُ مُطْمَئِنٌّ بِالْإيمَانِ وَلَكِنْ مَنْ شَرَحَ بِالْكُفْرِ صَدْراً فَعَلَيْهِمْ غَضَبٌ مِنَ اللَّهِ وَلَهُمْ عَذَابٌ عَظِيمٌ ) (النحل:106) .
وهذه قضية لا توجد في تاريخ الأمم الأخرى ؛ ففي أسبانيا لما سقطت في يد النصارى أقاموا محاكم التفتيش للمسلمين ، ووجدت ظاهرة ( العرب المورسكيين) الذين كانوا يضطرون إلى تغيير دينهم من باب الخوف ، وتغيير أسمائهم ، ويستخْفون ويتعرضون لألوان من المصادرة والقتل والسجن ، بينما في التاريخ الإسلامي كله لم توجد مثل هذه الظاهرة ، وهذه قضية مهمة جداً تحسب لعظمة هذا الدين وعدالته ومناسبته للشعوب كلها.
فالمقصود أن دين الإسلام هو دين لكل شرائح الأمة : للعرب ، والأكراد ، والبربر ، والعجم ، والفرس ، دين لجميع الشعوب التي ذابت و تماهت و أصبحت جزءاً من الأمة الجديدة ( الأمة المسلمة ) فالدين هو المرجعية الأصلية و الهوية الأساسية لهذه الأمة.
إن الأصول في المرجعية الإسلامية الشرعية ثابتة ، و الفروع فيها اجتهادية متغيرة ، إن النص ثابت وهو القران الكريم ، و صحيح السنة الثابتة عن الرسول صلى الله عليه وسلم ، لكن التفسير محتملٌ ، ليس له قداسة النص إلا أن يكون تفسيراً قطعياً لا يحتمل الوجوه والتأويلات.
إن الشريعة ثابتة ، لكن الفقه اجتهادي ، ولذا كان للشافعي قولان ، و غيّر تلاميذ ابي حنيفة ثلثي مذهب إمامهم ، و تعددت الروايات عن الإمام أحمد في المسألة الواحدة ، ولم يكونوا يخرجون بذلك عن كلمة عمر الشهيرة [ ذاك على ما قضينا ، و هذا على ما نقضي ] وقوله لأبي موسى : [ ولا يمنعنك قضاء قضيته بالأمس ثم هديت فيه إلى رشدك أن تراجع الحق، فإن الحق قديم ] ، وجاء رجل للإمام أحمد بكتاب قال : سميته اختلاف العلماء ، فقال له الإمام أحمد لا تسمه اختلاف العلماء ، سمه : كتاب السعة .
فالمرجعية الشرعية ثابتة ، سواء تمثلت في النص المطلق ، أو تمثلت في القطعيات التي بُنيت على النص كقطعيات الاجتهاد ، التي توارثتها الأمة خلفاً عن سلف ، و لم يوجد حولها داخل الأمة و خاصةً علمائها و فقهائها و قرائها أي خلاف أو تعكير أو شغب .
أما المؤسسات التي تعالج ، و تنتج الحلول والبرامج من هذه النصوص ؛ فإنها تخضع للاجتهاد وليس لها القداسة ، و ليست نقيضاً للتفكير، أو البحث العلمي ، أو التطبيق الفني ، أو الإبداع الأدبي ؛ و لكنها لا تجعل هذه الآليات المتحدث عنها أهدافاً ، و إنما تجعلها وسائل لهدفٍ أسمى وهو الرقي بالأمة وتحقيق ربانيتها والتزامها ومصلحتها .
إننا نجد اليوم من يتحدث عن [الإبداع الأدبي] وكأنه نقيض لمسلمات الدين ، و يعتدي على مُسلّمات الأمة بالرواية التي تخاطب الغرائز أو تصور المجتمع على أنه مجموعة من الانحرافات والشذوذات والأخلاق الفاسدة كما نجد في رواية [ الخبز الحافي ] أو [ وليمة لأعشاب البحر] أو[ آيات شيطانية ] التي تجعل من مقدس الأمة مادة للسّخرية أو العبث .
ما معني الإبداع الأدبي إذا انفصل عن الأمة ، ولم يصب في مصلحتها أو بنائها أوتحقيق أهدافها ، بل انشق عليها ، و خرج عن نظامها و قانونها !!
كما أن المُسلّمات القطعية القائمة في هذه الأمة ؛ ليست محل جدل و اجتهاد ، و لا يمكن إنتاج ثوابت جديدة ؛ لتحقن في وريد الأمة ودمها ووجدانها .
بل المفترض في الثوابت أنها معلومة بالضرورة ولا يجوز لأحد أن يعبث بها أو يجعل ثمت هالة وحالة من الغموض ، و التردد ، و الشك حولها ، و أي نقله حضارية للأمة يفترض أن تبدأ بتجديد الثوابت لئلا يتحول الأمر إلى صراع داخلي .
إن الثوابت هي القيم والمبادئ التي يقوم عليها وجود الأمة ، و تنطلق منها حياتها العلمية والعملية والأدبية ؛ فهي أساس النظام السياسي ، وهي منطلق المناهج التعليمية ، وهي روح الخطة الإعلامية ، وهي سر اجتماع هذه الأمة ، وسر شخصياتها وأفرادها و طوائفها و شيعها و أحزابها .
إن وجود فردٍ أو أفراد لا يؤمنون بهذه المرجعية ولا يؤمنون بهوية الأمة ليس مستغرباً ؛ فإننا نجد أنه حتى في زمن النبي صلى الله عليه وسلم كان هناك المنافقون أفراداً ، أو مجموعاتٍ محدودة معزولة ، ضعيفة التأثير على مجرى الأحداث ، وكانوا يعاملون ظاهراً على أنهم أفراد من ضمن هذه الأمة ، لكن فرقٌ بين هذا وبين أن يتحول الشك في القيم والمبادئ والثوابت إلى قاعدة عامة ، و إلى خطاب عام ، و إلى حوار لا ينتهي على مرأى و مسمع من أفراد الأمة .
لو أن إنساناً كان يرفض العمل لوجود أزمة نفسية أو مشكلة أو ضعف أو تحدٍ معين فيرفض العمل ، أو يرفض الدراسة ، أو يرفض الزواج أو حتى قل يرفض الحياة و يشرع في الانتحار ؛ فإن هذه تظل حالاتٍ محدودة التأثير ، لكن لو صارت هذه الحالات مبدءاً عاماً للأمة ، ورفض الناس كلهم العمل أو الدراسة أو الزواج ، أو قام الناس بحفلةٍ جماعية لعملية انتحار شاملة ، لكان هذا كارثة مدمرة للأمة ، فإنه لا قيمة للأمة بدون حياتها ، بدون رباط الزوجية ، بدون العمل ، بدون التفكير ، بدون العلم ، بدون الدراسة .
[color=red]السلطة الثانية: [/color]هي سلطة المجتمع ، و لا شك أن للمجتمع سلطةً لا يمكن تجاوزها من خلال مجموع العادات و الأعراف و المجريات التي تقع فيه ، ونجد أن النبي صلى الله عليه وسلم أصّل ذلك ، وأحال إليه في بعض المواضع ؛ فإنه ترك بناء الكعبة رعاية لحال الناس وشفقة عليهم ، و منع من قتل المنافقين لئلا يتحدث الناس أن محمداً يقتل أصحابه ، ومرر بعض الأشياء المرجوحة ؛ لأنها أصبحت راجحة بالنظر إلى مصلحةٍ اجتماعية عامة تتحقق للأمة من خلالها .
لكن هنا لابد من التوازن ؛ فإنه لا يعني بحالٍ من الأحوال أن يتم تجاهل كثير من المصالح الشرعية المعتبرة رعاية لحال الناس ، بحيث يكون المجتمع هو المرجعية في القضايا التي ليست من اختصاصه فليست اجتماعية بحتة ، وإنما قد تكون قضايا دينية ، أوقد تكون مصلحية لا يدرك هو أبعادها، أو قد يكون المجتمع منشقاً على نفسه ، وهنا يصبح ثمت مجال لاختيار الأفضل والأرقى وتبرز فرصة للتصحيح والاستدراك.
إن في المجتمع ما يسمى بالعادات و التقاليد ، وهي جزء من النّظام السائد في المجتمع و جزء من العرف القائم المحترم في الأصل ، فليس ما يسمى عادة أو تقليداً مذموماً بذاته أو محموداً ، بل منها ما هو صالح لأن يستمر ويدوم ؛ لأنه يبنى على مسلمات ثابتة و مستقرة ، وهذا كثير ، ومنها ما يحتاج إلى إزالة أو تعديل.
و نعبر عن هذه السلطات بأنها خارجية ؛ لأنها من خارج الذات ، ومع ذلك فإن هذه السلطات في الأصل لابد منها ؛ فلا يتخيل وجود مجتمع بدون سلطة سياسية كما قال الأفوه الأودي : [center]
[table cellSpacing=0 cellPadding=0 width=450 align=center border=0][tr][td vAlign=bottom width="45%"][font='Times New Roman']لا يَصلُحُ النَّاسُ فَوضَى لا سَراة لَهم[/font] [/td][font='Times New Roman']
[td width="10%"] [/td][/font]
[td width="45%"][font='Times New Roman']
ولا سَـــرَاة إذا جُــهالُــــهم سَـــادوا[/font] [/td][/tr][/table][/center]
[justify]وكذلك مجتمع بدون هوية ، بدون دين ، بدون قاعدة لا معنى لكونه مجتمعاً ، أي مجتمع بشري لا بدّ أن يكون لديه مجموعة من الأعراف والعلاقات و الروابط ؛ المؤثرة في الضبط الاجتماعي والاستقرار الإنساني ؛ لكن المحذور أن يتحول هذا الدور إلى نوع من التسلط ، أو العدوان على حقوق الآخرين ، وهنا لابد أن نستخدم كلمة التوازن ، في معرفة الضابط بين القدْر المشروع من هذه المراقبة أو السلطة ، و بين القدْر الذي يتعدى حده ليكون عدواناً على إرادة الآخرين وحرياتهم .
هناك النوع الآخر من السلطات ، وهو ما يمكن أن نعبر عنه بالسلطة الذاتية وهو أن لدى الإنسان مجموعة من: الطباع ، و الأخلاق ، والركائز الجبلّية ؛ التي تؤثر في نظرته للأمور ، و قراراته ؛ كأن يكون شجاعاً ، أو متهوراً ، أو ضعيفاً متردداً ، أوحاداً ، أو ليّناً إلى غير ذلك من الخصال والطبائع المركبة في بني الإنسان ، والتي تؤثر في إرادتهم ، و تؤثر في قراراتهم ، وتؤثر في أحكامهم ، وحتى في اختياراتهم الشرعية أحياناً .
إضافة إلى العوامل البيئية ، و النفسية ، و التاريخية ، و المصلحّية ، و نستطيع أن نقول تأسيساً على هذه المسألة: أن ثمت ما يمكن أن يسمى بمرجعية الحرية على سبيل التجوز في المصطلح لا غير و تتمثل في أربعة أشياء:
[color=blue]أولاً:[/color]المرجعية النصيّة أو الشرعية، أي سلطة النص الشرعي على المؤمنين .
[color=blue]ثانياً: [/color]المرجعية العلمية ونعني بها العلماء المعبرين عن الشريعة ؛ كما سماهم ابن القيم - رحمه الله- في كتابه : إعلام الموقعين عن رب العالمين.
[color=blue]ثالثاً: [/color]السلطة السياسية.
[color=blue]رابعاً: [/color]السلطة الاجتماعية.
ففيما يتعلق بالنص ، وهو القضية الأولى ؛ فإن لكل حضارة في الدنيا أياً كانت مرجعية ً مقدسة لديها ، لا يمكن المساس بها ، قد تكون مستمدةً من قيم ، أو دين ، وقد تكون الحضارة مادية تقدس اللذة أو العقل ، أو المادة ، أو المصلحة ، أو غير ذلك .
فلا يمكن أن توجد حضارة إلا ولها مرجعية دينية ، أو ثقافية.
وفي المرجعية النصية ، فإن هوية هذه الأمة هي الإسلام ، والدين هو أهم المسلمات ، وهو اختيار أفراد الأمة ومجتمعاتها ، وحتى اختيار أقلياتها .
فإن الشعوب المفتوحة ، التي دخلت في الإسلام كالبربر أو الشعوب الأفريقية ، أو شعوب مصر ، أو الشام ، أو غيرها ذابت في الإسلام ، وتقبلته ، وآمنت به ، وحملت رسالته ، وجاهدت في سبيله.
إننا لا نعرف في تاريخ الإسلام أبداً أن شعباً ، أو حتى فرداً دخل في الإسلام بالقسر والإكراه ، وفي النص القرآني الكريم يقول الله - تعالى-: ( لا إِكْرَاهَ فِي الدِّينِ ) (البقرة: من الآية256) ، فلم يُكرَه أحدٌ على الدخول في الإسلام ، بل إن من مُسلمات الدين أنه لو دخل أحدٌ في الإسلام بواسطة الضغط والإكراه فإن إسلامه لا يكون صحيحاً عند الله ؛ لأنه حينئذٍ مُكرَه ، والمكره لا تتعلق به الأحكام الشرعية ، ولهذا يقول الله سبحانه وتعالى: ( مَنْ كَفَرَ بِاللَّهِ مِنْ بَعْدِ إِيمَانِهِ إِلَّا مَنْ أُكْرِهَ وَقَلْبُهُ مُطْمَئِنٌّ بِالْإيمَانِ وَلَكِنْ مَنْ شَرَحَ بِالْكُفْرِ صَدْراً فَعَلَيْهِمْ غَضَبٌ مِنَ اللَّهِ وَلَهُمْ عَذَابٌ عَظِيمٌ ) (النحل:106) .
وهذه قضية لا توجد في تاريخ الأمم الأخرى ؛ ففي أسبانيا لما سقطت في يد النصارى أقاموا محاكم التفتيش للمسلمين ، ووجدت ظاهرة ( العرب المورسكيين) الذين كانوا يضطرون إلى تغيير دينهم من باب الخوف ، وتغيير أسمائهم ، ويستخْفون ويتعرضون لألوان من المصادرة والقتل والسجن ، بينما في التاريخ الإسلامي كله لم توجد مثل هذه الظاهرة ، وهذه قضية مهمة جداً تحسب لعظمة هذا الدين وعدالته ومناسبته للشعوب كلها.
فالمقصود أن دين الإسلام هو دين لكل شرائح الأمة : للعرب ، والأكراد ، والبربر ، والعجم ، والفرس ، دين لجميع الشعوب التي ذابت و تماهت و أصبحت جزءاً من الأمة الجديدة ( الأمة المسلمة ) فالدين هو المرجعية الأصلية و الهوية الأساسية لهذه الأمة.
إن الأصول في المرجعية الإسلامية الشرعية ثابتة ، و الفروع فيها اجتهادية متغيرة ، إن النص ثابت وهو القران الكريم ، و صحيح السنة الثابتة عن الرسول صلى الله عليه وسلم ، لكن التفسير محتملٌ ، ليس له قداسة النص إلا أن يكون تفسيراً قطعياً لا يحتمل الوجوه والتأويلات.
إن الشريعة ثابتة ، لكن الفقه اجتهادي ، ولذا كان للشافعي قولان ، و غيّر تلاميذ ابي حنيفة ثلثي مذهب إمامهم ، و تعددت الروايات عن الإمام أحمد في المسألة الواحدة ، ولم يكونوا يخرجون بذلك عن كلمة عمر الشهيرة [ ذاك على ما قضينا ، و هذا على ما نقضي ] وقوله لأبي موسى : [ ولا يمنعنك قضاء قضيته بالأمس ثم هديت فيه إلى رشدك أن تراجع الحق، فإن الحق قديم ] ، وجاء رجل للإمام أحمد بكتاب قال : سميته اختلاف العلماء ، فقال له الإمام أحمد لا تسمه اختلاف العلماء ، سمه : كتاب السعة .
فالمرجعية الشرعية ثابتة ، سواء تمثلت في النص المطلق ، أو تمثلت في القطعيات التي بُنيت على النص كقطعيات الاجتهاد ، التي توارثتها الأمة خلفاً عن سلف ، و لم يوجد حولها داخل الأمة و خاصةً علمائها و فقهائها و قرائها أي خلاف أو تعكير أو شغب .
أما المؤسسات التي تعالج ، و تنتج الحلول والبرامج من هذه النصوص ؛ فإنها تخضع للاجتهاد وليس لها القداسة ، و ليست نقيضاً للتفكير، أو البحث العلمي ، أو التطبيق الفني ، أو الإبداع الأدبي ؛ و لكنها لا تجعل هذه الآليات المتحدث عنها أهدافاً ، و إنما تجعلها وسائل لهدفٍ أسمى وهو الرقي بالأمة وتحقيق ربانيتها والتزامها ومصلحتها .
إننا نجد اليوم من يتحدث عن [الإبداع الأدبي] وكأنه نقيض لمسلمات الدين ، و يعتدي على مُسلّمات الأمة بالرواية التي تخاطب الغرائز أو تصور المجتمع على أنه مجموعة من الانحرافات والشذوذات والأخلاق الفاسدة كما نجد في رواية [ الخبز الحافي ] أو [ وليمة لأعشاب البحر] أو[ آيات شيطانية ] التي تجعل من مقدس الأمة مادة للسّخرية أو العبث .
ما معني الإبداع الأدبي إذا انفصل عن الأمة ، ولم يصب في مصلحتها أو بنائها أوتحقيق أهدافها ، بل انشق عليها ، و خرج عن نظامها و قانونها !!
كما أن المُسلّمات القطعية القائمة في هذه الأمة ؛ ليست محل جدل و اجتهاد ، و لا يمكن إنتاج ثوابت جديدة ؛ لتحقن في وريد الأمة ودمها ووجدانها .
بل المفترض في الثوابت أنها معلومة بالضرورة ولا يجوز لأحد أن يعبث بها أو يجعل ثمت هالة وحالة من الغموض ، و التردد ، و الشك حولها ، و أي نقله حضارية للأمة يفترض أن تبدأ بتجديد الثوابت لئلا يتحول الأمر إلى صراع داخلي .
إن الثوابت هي القيم والمبادئ التي يقوم عليها وجود الأمة ، و تنطلق منها حياتها العلمية والعملية والأدبية ؛ فهي أساس النظام السياسي ، وهي منطلق المناهج التعليمية ، وهي روح الخطة الإعلامية ، وهي سر اجتماع هذه الأمة ، وسر شخصياتها وأفرادها و طوائفها و شيعها و أحزابها .
إن وجود فردٍ أو أفراد لا يؤمنون بهذه المرجعية ولا يؤمنون بهوية الأمة ليس مستغرباً ؛ فإننا نجد أنه حتى في زمن النبي صلى الله عليه وسلم كان هناك المنافقون أفراداً ، أو مجموعاتٍ محدودة معزولة ، ضعيفة التأثير على مجرى الأحداث ، وكانوا يعاملون ظاهراً على أنهم أفراد من ضمن هذه الأمة ، لكن فرقٌ بين هذا وبين أن يتحول الشك في القيم والمبادئ والثوابت إلى قاعدة عامة ، و إلى خطاب عام ، و إلى حوار لا ينتهي على مرأى و مسمع من أفراد الأمة .
لو أن إنساناً كان يرفض العمل لوجود أزمة نفسية أو مشكلة أو ضعف أو تحدٍ معين فيرفض العمل ، أو يرفض الدراسة ، أو يرفض الزواج أو حتى قل يرفض الحياة و يشرع في الانتحار ؛ فإن هذه تظل حالاتٍ محدودة التأثير ، لكن لو صارت هذه الحالات مبدءاً عاماً للأمة ، ورفض الناس كلهم العمل أو الدراسة أو الزواج ، أو قام الناس بحفلةٍ جماعية لعملية انتحار شاملة ، لكان هذا كارثة مدمرة للأمة ، فإنه لا قيمة للأمة بدون حياتها ، بدون رباط الزوجية ، بدون العمل ، بدون التفكير ، بدون العلم ، بدون الدراسة .
[color=red]السلطة الثانية: [/color]هي سلطة المجتمع ، و لا شك أن للمجتمع سلطةً لا يمكن تجاوزها من خلال مجموع العادات و الأعراف و المجريات التي تقع فيه ، ونجد أن النبي صلى الله عليه وسلم أصّل ذلك ، وأحال إليه في بعض المواضع ؛ فإنه ترك بناء الكعبة رعاية لحال الناس وشفقة عليهم ، و منع من قتل المنافقين لئلا يتحدث الناس أن محمداً يقتل أصحابه ، ومرر بعض الأشياء المرجوحة ؛ لأنها أصبحت راجحة بالنظر إلى مصلحةٍ اجتماعية عامة تتحقق للأمة من خلالها .
لكن هنا لابد من التوازن ؛ فإنه لا يعني بحالٍ من الأحوال أن يتم تجاهل كثير من المصالح الشرعية المعتبرة رعاية لحال الناس ، بحيث يكون المجتمع هو المرجعية في القضايا التي ليست من اختصاصه فليست اجتماعية بحتة ، وإنما قد تكون قضايا دينية ، أوقد تكون مصلحية لا يدرك هو أبعادها، أو قد يكون المجتمع منشقاً على نفسه ، وهنا يصبح ثمت مجال لاختيار الأفضل والأرقى وتبرز فرصة للتصحيح والاستدراك.
إن في المجتمع ما يسمى بالعادات و التقاليد ، وهي جزء من النّظام السائد في المجتمع و جزء من العرف القائم المحترم في الأصل ، فليس ما يسمى عادة أو تقليداً مذموماً بذاته أو محموداً ، بل منها ما هو صالح لأن يستمر ويدوم ؛ لأنه يبنى على مسلمات ثابتة و مستقرة ، وهذا كثير ، ومنها ما يحتاج إلى إزالة أو تعديل.