باتريك سيل
إن عجز العرب الكلي عن الاستجابة الفعالة سواء بالقول أو الفعل، بالدبلوماسية أو بالعمل العسكري، لحرب إسرائيل المدمرة على غزة، كشف النقاب عما كان معروفاً، ولكن لا يتم الحديث عنه إلا نادراً، وهو أن بعض الحكام العرب غير منسجمين، ويخشون بعضهم بعضاً، أكثر مما يكرهون أو يخشون إسرائيل. فخلال الأسابيع الثلاثة الرهيبة التي استغرقتها المجزرة الإسرائيلية في قطاع غزة، شاهد العالم بوضوح الآثار المعوِقة للحرب الباردة العربية، حيث كانت غزة تحترق، دون أن يدفع ذلك بعض الحكام العرب -الذين وصلت الجفوة بينهم حداً عميقاً- إلى عقد اجتماع قمة رسمي لبحث الوضع الكارثي.
ويؤسفني أن أقول إن الدبلوماسيين الذين التقيتهم للحصول على بعض المعلومات التي يمكن أن تفيدني في كتابة هذه المقالة، تحدثوا بأسى ويأس عن "نهاية النظام الإقليمي العربي"، وذلك بعد أن أصبحت بعض دوله تجد أن محاربة منافساتها الأخريات على الزعامة الإقليمية، أهم بكثير من توحيد قوى الطرفين معاً لمواجهة إسرائيل.
فحتى في الظروف الحالية التي تتعرض مصالح العرب الحيوية فيها للخطر، ويتعرض الفلسطينيون للذبح والتقتيل بواسطة الآلة العسكرية الإسرائيلية بطريقة تؤدي إلى إثارة غضب الرأي العام العربي والإسلامي، يثبت بعض القادة العرب مرة أخرى -ومرات- عجزهم الفادح عن توصيل رسالة موحدة، ناهيك عن اللجوء إلى نوع من الدبلوماسية الدولية الجريئة التي كانت جسامة الموقف تستدعيها، ودون تأخير.
فبدعوة من قطر عقد ما يسمى العرب "الراديكاليون" الذين يضمون في التصنيف الحالي سوريا والجزائر والسودان، وآخرون، اجتماعاً في الدوحة حضره الرئيس الإيراني، ورئيس المكتب السياسي لحركة "حماس" خالد مشعل الذي يعيش في دمشق، فيما سمي بقمة غزة الطارئة. وفي هذا المؤتمر جمدت قطر علاقاتها التجارية مع إسرائيل، وكذلك فعلت موريتانيا، وأعلنت سوريا أن مباحثات السلام غير الرسمية التي كانت تدور بينها وبين إسرائيل عبر الوساطة التركية قد توقفت، ودعت الدول العربية إلى قطع علاقاتها مع إسرائيل، وسحب المبادرة العربية للسلام التي قُدمت عام 2002، والتي تعرض على إسرائيل السلام وتطبيع العلاقات مع 22 دولة عربية إذا ما قامت بسحب قواتها إلى حدود 1967.
وكان معنى هذا الاصطفاف الحالي أن الدول العربية بعد هذه القمة قد أصبحت مقسمة إلى دول معتدلة وصديقة للولايات المتحدة -وفي حالة مصر والأردن تحديداً ترتبط مع إسرائيل بمعاهدات- وبين الدول والمجموعات المنافسة، التي تشمل سوريا مع جماعات متشددة مثل "حزب الله" و"حماس" وهي مجموعة تدعمها قطر وآخرون وتتمتع بتأييد أيضاً من قبل تركيا. وعلى رغم أن تركيا ترتبط بعلاقات وثيقة مع إسرائيل منذ سنوات عديدة، إلا أن ذلك لم يحل بين الأتراك وبين الخروج بعشرات الآلاف لشجب العدوان الإسرائيلي، كما دفع رئيس وزراء تركيا "أردوجان" إلى تحذير إسرائيل بأن اللعنة ستحل عليها جراء دماء الأطفال الذين قتلتهم، وأن التاريخ سيحاكم وزيرة الخارجية تسيبي ليفني، ووزير الدفاع إيهود باراك "على اللطخة السوداء التي يتركانها على ضمير البشرية".
والحال أن عجز العرب المزمن كان قد انكشف للمرة الأولى أثناء حرب 1948، وذلك عندما فشلوا بسبب ضعفهم وانقسامهم في منع دولة إسرائيل الوليدة من الاستيلاء على ثلاثة أرباع فلسطين التاريخية. وفي عام 1967 تمكنت إسرائيل مرة ثانية من توجيه ضربة قاسية للعرب المنخرطين في النزاعات التافهة، والذين يشكّون في بعضهم بعضاً، واستولت على ما تبقى من أرض فلسطين التاريخية، وعلى أجزاء كبيرة من مصر وسوريا، مثبتة بذلك أنها قد أصبحت القوة الكبرى في إقليم الشرق الأوسط.
وقد فعلت إسرائيل الشيء ذاته مرة أخرى في غزة ملحقة هزيمة استراتيجية كبيرة أخرى بالعالم العربي. فالجامعة العربية التي يفترض أنها قد نشأت من أجل الدفاع عن المصالح العربية المشتركة انكشفت تماماً وتبين أنها عاجزة، ومن دون أسنان.. كما فشل العرب كالعادة في استخدام الأوراق العديدة التي يمتلكونها ومنها ثروتهم البشرية الكبيرة، وثروتهم الهائلة من النفط والغاز، ونفوذهم المالي الضخم، وصداقاتهم الدولية المتعددة.
أما الثمن الذي دفعته إسرائيل نظير حربها المعتوهة هذه فقد كان فادحاً، هو الآخر. حيث أدت هذه الحرب إلى إثارة موجة هائلة من الكراهية ضدها، إلى درجة حولتها إلى دولة منبوذة وممقوتة في العالم أجمع.. كما أن قادتها المستهترين بدماء البشر يواجهون احتمال العقوبات والملاحقة القضائية. علاوة على ذلك، نجد أن المنطقة بأسرها قد غدت راديكالية، وهو ما يعني أنها قد أصبحت تربة خصبة مهيأة للإرهاب والعنف. وهكذا فبدلاً من تعزيز أمن إسرائيل، فإن رئيس وزرائها إيهود أولمرت وزميليه الرئيسيين في العدوان باراك وليفني، عرضوا ليس فقط أنفسهم وإنما اليهود جميعاً في كل مكان، لخطر الهجمات الانتقامية من قبل العرب الذين لا ينسون الإساءة.
وبالإضافة إلى ذلك، فقدت إسرائيل أيضاً جميع الآمال في اندماج سلمي في المنطقة في المستقبل القريب. وربما قد تتظاهر بأن ذلك لا يهمها، ولكن الحقيقة هي أنها بحربها الهمجية التي خلت من كل مظاهر وقيم الرحمة والإنسانية، قد أظهرت مرة أخرى أنها لا تسعى إلى التعايش في سلام مع جيرانها، بقدر ما تسعى إلى تعزيز هيمنتها العسكرية بأقسى طريقة ممكنة، وبأكثر الوسائل عنجهية وظلامية. وهدفها الواضح من ذلك كله هو دفع غزة إلى حضن الجوار مع القيام بمد سيطرتها هي على الضفة الغربية إلى الأبد.
إن الهدف الرئيسي لإسرائيل من الحرب التي شنتها على غزة، هو إلحاق هزيمة ساحقة بالفلسطينيين والحيلولة دون قيام الدولة الفلسطينية. ولكن الوسائل التي اختارتها كانت بشعة للغاية -وصادمة للرأي العام العالمي- إلى درجة يمكن معها القول إنها ستؤدي إلى نتائج عكس تلك التي كانت تسعى إلى تحقيقها.
*نقلاً عن صحيفة "الاتحاد" الإماراتية
إن عجز العرب الكلي عن الاستجابة الفعالة سواء بالقول أو الفعل، بالدبلوماسية أو بالعمل العسكري، لحرب إسرائيل المدمرة على غزة، كشف النقاب عما كان معروفاً، ولكن لا يتم الحديث عنه إلا نادراً، وهو أن بعض الحكام العرب غير منسجمين، ويخشون بعضهم بعضاً، أكثر مما يكرهون أو يخشون إسرائيل. فخلال الأسابيع الثلاثة الرهيبة التي استغرقتها المجزرة الإسرائيلية في قطاع غزة، شاهد العالم بوضوح الآثار المعوِقة للحرب الباردة العربية، حيث كانت غزة تحترق، دون أن يدفع ذلك بعض الحكام العرب -الذين وصلت الجفوة بينهم حداً عميقاً- إلى عقد اجتماع قمة رسمي لبحث الوضع الكارثي.
ويؤسفني أن أقول إن الدبلوماسيين الذين التقيتهم للحصول على بعض المعلومات التي يمكن أن تفيدني في كتابة هذه المقالة، تحدثوا بأسى ويأس عن "نهاية النظام الإقليمي العربي"، وذلك بعد أن أصبحت بعض دوله تجد أن محاربة منافساتها الأخريات على الزعامة الإقليمية، أهم بكثير من توحيد قوى الطرفين معاً لمواجهة إسرائيل.
فحتى في الظروف الحالية التي تتعرض مصالح العرب الحيوية فيها للخطر، ويتعرض الفلسطينيون للذبح والتقتيل بواسطة الآلة العسكرية الإسرائيلية بطريقة تؤدي إلى إثارة غضب الرأي العام العربي والإسلامي، يثبت بعض القادة العرب مرة أخرى -ومرات- عجزهم الفادح عن توصيل رسالة موحدة، ناهيك عن اللجوء إلى نوع من الدبلوماسية الدولية الجريئة التي كانت جسامة الموقف تستدعيها، ودون تأخير.
فبدعوة من قطر عقد ما يسمى العرب "الراديكاليون" الذين يضمون في التصنيف الحالي سوريا والجزائر والسودان، وآخرون، اجتماعاً في الدوحة حضره الرئيس الإيراني، ورئيس المكتب السياسي لحركة "حماس" خالد مشعل الذي يعيش في دمشق، فيما سمي بقمة غزة الطارئة. وفي هذا المؤتمر جمدت قطر علاقاتها التجارية مع إسرائيل، وكذلك فعلت موريتانيا، وأعلنت سوريا أن مباحثات السلام غير الرسمية التي كانت تدور بينها وبين إسرائيل عبر الوساطة التركية قد توقفت، ودعت الدول العربية إلى قطع علاقاتها مع إسرائيل، وسحب المبادرة العربية للسلام التي قُدمت عام 2002، والتي تعرض على إسرائيل السلام وتطبيع العلاقات مع 22 دولة عربية إذا ما قامت بسحب قواتها إلى حدود 1967.
وكان معنى هذا الاصطفاف الحالي أن الدول العربية بعد هذه القمة قد أصبحت مقسمة إلى دول معتدلة وصديقة للولايات المتحدة -وفي حالة مصر والأردن تحديداً ترتبط مع إسرائيل بمعاهدات- وبين الدول والمجموعات المنافسة، التي تشمل سوريا مع جماعات متشددة مثل "حزب الله" و"حماس" وهي مجموعة تدعمها قطر وآخرون وتتمتع بتأييد أيضاً من قبل تركيا. وعلى رغم أن تركيا ترتبط بعلاقات وثيقة مع إسرائيل منذ سنوات عديدة، إلا أن ذلك لم يحل بين الأتراك وبين الخروج بعشرات الآلاف لشجب العدوان الإسرائيلي، كما دفع رئيس وزراء تركيا "أردوجان" إلى تحذير إسرائيل بأن اللعنة ستحل عليها جراء دماء الأطفال الذين قتلتهم، وأن التاريخ سيحاكم وزيرة الخارجية تسيبي ليفني، ووزير الدفاع إيهود باراك "على اللطخة السوداء التي يتركانها على ضمير البشرية".
والحال أن عجز العرب المزمن كان قد انكشف للمرة الأولى أثناء حرب 1948، وذلك عندما فشلوا بسبب ضعفهم وانقسامهم في منع دولة إسرائيل الوليدة من الاستيلاء على ثلاثة أرباع فلسطين التاريخية. وفي عام 1967 تمكنت إسرائيل مرة ثانية من توجيه ضربة قاسية للعرب المنخرطين في النزاعات التافهة، والذين يشكّون في بعضهم بعضاً، واستولت على ما تبقى من أرض فلسطين التاريخية، وعلى أجزاء كبيرة من مصر وسوريا، مثبتة بذلك أنها قد أصبحت القوة الكبرى في إقليم الشرق الأوسط.
وقد فعلت إسرائيل الشيء ذاته مرة أخرى في غزة ملحقة هزيمة استراتيجية كبيرة أخرى بالعالم العربي. فالجامعة العربية التي يفترض أنها قد نشأت من أجل الدفاع عن المصالح العربية المشتركة انكشفت تماماً وتبين أنها عاجزة، ومن دون أسنان.. كما فشل العرب كالعادة في استخدام الأوراق العديدة التي يمتلكونها ومنها ثروتهم البشرية الكبيرة، وثروتهم الهائلة من النفط والغاز، ونفوذهم المالي الضخم، وصداقاتهم الدولية المتعددة.
أما الثمن الذي دفعته إسرائيل نظير حربها المعتوهة هذه فقد كان فادحاً، هو الآخر. حيث أدت هذه الحرب إلى إثارة موجة هائلة من الكراهية ضدها، إلى درجة حولتها إلى دولة منبوذة وممقوتة في العالم أجمع.. كما أن قادتها المستهترين بدماء البشر يواجهون احتمال العقوبات والملاحقة القضائية. علاوة على ذلك، نجد أن المنطقة بأسرها قد غدت راديكالية، وهو ما يعني أنها قد أصبحت تربة خصبة مهيأة للإرهاب والعنف. وهكذا فبدلاً من تعزيز أمن إسرائيل، فإن رئيس وزرائها إيهود أولمرت وزميليه الرئيسيين في العدوان باراك وليفني، عرضوا ليس فقط أنفسهم وإنما اليهود جميعاً في كل مكان، لخطر الهجمات الانتقامية من قبل العرب الذين لا ينسون الإساءة.
وبالإضافة إلى ذلك، فقدت إسرائيل أيضاً جميع الآمال في اندماج سلمي في المنطقة في المستقبل القريب. وربما قد تتظاهر بأن ذلك لا يهمها، ولكن الحقيقة هي أنها بحربها الهمجية التي خلت من كل مظاهر وقيم الرحمة والإنسانية، قد أظهرت مرة أخرى أنها لا تسعى إلى التعايش في سلام مع جيرانها، بقدر ما تسعى إلى تعزيز هيمنتها العسكرية بأقسى طريقة ممكنة، وبأكثر الوسائل عنجهية وظلامية. وهدفها الواضح من ذلك كله هو دفع غزة إلى حضن الجوار مع القيام بمد سيطرتها هي على الضفة الغربية إلى الأبد.
إن الهدف الرئيسي لإسرائيل من الحرب التي شنتها على غزة، هو إلحاق هزيمة ساحقة بالفلسطينيين والحيلولة دون قيام الدولة الفلسطينية. ولكن الوسائل التي اختارتها كانت بشعة للغاية -وصادمة للرأي العام العالمي- إلى درجة يمكن معها القول إنها ستؤدي إلى نتائج عكس تلك التي كانت تسعى إلى تحقيقها.
*نقلاً عن صحيفة "الاتحاد" الإماراتية