حسن أبو طالب
- التشابك العضوي بين فلسطين والنظام العربي
- التحول النوعي للتدخلات الإقليمية
- أنواع من الاستقطاب العربي الفلسطيني
- مفارقات الحرب والسلام
مرة أخرى -وغالبا لن تكون الأخيرة- يشهد النظام العربي الرسمي انقساما بشأن القضية الفلسطينية، ليس سلما أو حربا، بل حول طريقة رد العدوان الإسرائيلي عن أهل غزة العزل.
القضية الفلسطينية بدورها تعرضت لانقسام ذاتي، هو نفسه امتداد لانقسامات عضوية سابقة لها امتدادات عربية وإقليمية، منذ أن حسمت حركة حماس وحكومتها المقالة موقفها بالتفرد بحكم غزة، وبعد أن أخرجت منها حركة فتح والسلطة الوطنية الفلسطينية في صيف 2007.
وما بين الانقسامين العربي والفلسطيني ثمة علاقة شحن متبادل، تماما كدائرة كهربائية ذاتية الشحن، وبحيث يصعب أحيانا -إن لم يكن كثيرا- معرفة أيهما المتغير الثابت وأيهما المتغير التابع، وأيهما السبب وأيهما النتيجة؟
التشابك العضوي بين فلسطين والنظام العربي
"
القضية الفلسطينية هى القضية الجامعة التي تثير الشجون الشعبية قوميا ودينيا على نحو لا تعرفه أية قضية أخرى، وهى القضية التي طالما فرقت وميزت بين عرب وعرب، بين رجعيين لا يميلون إلى المواجهة مع إسرائيل، وآخرين تقدميين رفعوا شعار المواجهة
"
تاريخيا بدأ النظام العربي يغوص في الهم الفلسطيني منذ نكبة 1948، وحتى اليوم هناك تشابك عضوى بين حال النظام العربي الرسمي وحال القضية الفلسطينية، فلا يتصور أحد وجود النظام العربي كهيكلية وتفاعلات وتحالفات وانكسارات متتالية بدون القضية الفلسطينية، فهي قضية العرب المركزية حتى ولو تولى أمرها فلسطينيون تحت علم منظمة تحرير أو سلطة وطنية أو تحت بيرق حركة أو منظمة أيا كان اسمها وحجمها.
وهى القضية الجامعة التي تثير الشجون الشعبية قوميا ودينيا على نحو لا تعرفه أية قضية أخرى، وهي القضية التي طالما فرقت وميزت بين عرب وعرب، بين عرب رجعيين لا يميلون إلى المواجهة مع إسرائيل، وآخرين تقدميين رفعوا شعار المواجهة عسكريا وقوميا كما كان الحال في النصف الثاني من الخمسينيات وحتى منتصف الستينيات من القرن الماضي.
وبين عرب سلاميين -سبهم البعض بأنهم وقوعيون وليسوا واقعيين- جنحوا إلى التسوية السياسية مع العدو الصهيوني، وآخرين وصموا أنفسهم بالصمود والتصدي لمن قاد مسيرة التسوية السياسية، أي مصر السادات تحديدا، كما كان الحال في نهاية السبعينيات وحتى نهاية الثمانينيات في القرن الماضي أيضا.
وأخيرا بين عرب معتدلين -كما وصفتهم وزيرة الخارجية الأميركية كوندليزا رايس- مرتبطين بعلاقات تعاقدية مع إسرائيل ولهم علاقة خاصة بدرجة ما مع الولايات المتحدة، القطب الذي ما زال مهيمنا على النظام الدولي، دون أن يعنى ذلك أن تلك العلاقات الخاصة لا تخلو من متاعب ومنغصات وإحباطات.
وعرب آخرين ممانعين -هكذا وصفوا أنفسهم- يرفعون شعار المقاومة ومساندين للمنظمات الفلسطينية التي تصر على حمل السلاح وممارسة المقاومة العسكرية ضد الاحتلال الإسرائيلي في غزة والضفة الغربية، وغالب هؤلاء يدخلون في فئة المشاكسين للولايات المتحدة وإن بدرجات مختلفة، دون أن يعنى أنهم لا يرجون علاقة حسنة وطيبة مع الولايات المتحدة وإن بشروط، وأيضا تنازلات.
التحول النوعي للتدخلات الإقليمية
"
المرحلة الأخيرة من الانقسامات العربية والفلسطينية، ونعني بها العقد الأخير تحديدا، شهدت تحولا نوعيا للتدخلات الإقليمية، والتي باتت أكثر تأثيرا وأكثر توجيها لمسارات الأحداث
"
هذه الانقسامات التي مر بها النظام العربي في سنواته الأربعين الماضية، ارتبطت كلها بالقضية الفلسطينية، وبتحرير الأرض العربية التي احتلت في هزيمة يونيو/حزيران 1967، ثم بالتداعيات السياسية لحرب أكتوبر/تشرين الأول 1973، وبطريقة التوظيف السياسي لنتائج هذه الحرب سواء لتحرير ما بقى من الأرض العربية محتلا، أو وصولا إلى تسوية تاريخية مع العدو الذي ظل محتلا لأرض هنا أو هناك.
وكما كانت القضية الفلسطينية تجمع الفرقاء جميعا، كانت أيضا تحفز بينهم الشقاق والخلاف على نحو مثير ومدهش. وفي كل الأحوال والمراحل لم يخل الأمر من تدخلات خارجية، دولية في الغالب وأميركية تحديدا، وإقليمية بعض الأحيان سرعان ما يخبو تأثيرها لصالح تأثير الأطراف العربية الأكثر ارتباطا عضويا بالقضية الفلسطينية.
غير أن المرحلة الأخيرة من الانقسامات العربية والفلسطينية، ونعني بها العقد الأخير تحديدا، فقد شهدت تحولا نوعيا للتدخلات الإقليمية، والتي باتت أكثر تأثيرا وأكثر توجيها لمسارات الأحداث.
هنا نلمح التأثير الإيراني عبر التحالف مع سوريا التي تعتبر نفسها رمز الممانعة العربية وحامية المقاومة رغم سعيها للتفاوض مع إسرائيل، وعبر العلاقات الوثيقة التي نجحت في نسجها بمتانة مع حركات المقاومة وأبرزها حركتا حماس والجهاد الإسلامي اللتان تقيم قيادتاهما في دمشق.
ثم أخيرا المسعى التركي "الأردوغانى"، سواء عبر رعاية مفاوضات غير مباشرة بين سوريا وإسرائيل، أو في التحرك في أكثر من اتجاه من أجل وقف العدوان الإسرائيلي الشرس على غزة.
والفارق بين التدخلين الإقليميين الإيراني والتركي، أن الأول قديم نسبيا ويستند إلى أسس أيديولوجية دينية إسلامية، وهو جزء من إستراتيجية الدولة الإيرانية في توظيف البيئة الإقليمية للحفاظ على مصالحها الكبرى في المنطقة كتجسيد لدور إقليمي نافذ، والمرور بسلام بمشروعه النووي، وخلط الأوراق لدى القوى الإقليمية المنافسة، ومنع أي عمل عسكري محتمل أيا كانت طبيعته أو مداه أميركيا كان أو إٍسرائيليا.
ولا يستنكف التدخل الإيراني من التعامل مع قوى وحركات واستقطابها بالمال والسلاح والفكر، أيا كانت طبيعة العلاقة مع الدولة العربية المعنية، وما يحدث في العراق خير شاهد.
أما التدخل التركي فهو حديث نسبيا، يعمل في إطار التفاعل مع الدول والحكومات وليس الجماعات أو الحركات، ودوافعه الأساسية براغماتية عملية، تهدف إلى حماية المصالح التركية من جانب، ومسايرة الرأي العام التركي ذي المزاج الشرقي الصاعد من جانب آخر. ويعمل على توظيف علاقاته التاريخية مع الدولة العبرية كأساس يتيح له التحرك على جبهات مختلفة كوسيط مقبول من جانب ثالث.
"
رغم اختلاف دوافع التدخلين الإقليميين الإيراني والتركي في القضية الفلسطينية، فهما يثيران الأسئلة أمام الأدوار الإقليمية العربية الكبرى، كالمصري والسعودي والسوري والأردني، ذات الصلة بالقضية الفلسطينية
"
ورغم اختلاف دوافع هذين التدخلين الإقليميين، فهما يثيران الأسئلة أمام الأدوار الإقليمية العربية الكبرى، كالمصري والسعودي والسوري والأردني، ذات الصلة بالقضية الفلسطينية.
وبينما ينظر الثلاثي العربي -القاهرة والرياض وعمان وإلى جانبهم رام الله- إلى التدخل الإيراني كتدخل سلبي يثير المشكلات والعراقيل أمام القضية الفلسطينية، تنظر دمشق إليه كإضافة للمقاومة ورفض الاستسلام أمام المطالب الإسرائيلية والأميركية.
أما التدخل التركي فهو مقبول نسبيا من كل الأطراف، وإن بدرجات مختلفة وتبعا للموقف. وربما يختبر هذا الدور المقبول عمليا إذا ما تقرر إنشاء قوة رقابة دولية مسلحة أو غير مسلحة كإجراء لضبط الحدود بين غزة وإسرائيل، وسعت تركيا إلى المشاركة في تلك القوة. يتابع
- التشابك العضوي بين فلسطين والنظام العربي
- التحول النوعي للتدخلات الإقليمية
- أنواع من الاستقطاب العربي الفلسطيني
- مفارقات الحرب والسلام
مرة أخرى -وغالبا لن تكون الأخيرة- يشهد النظام العربي الرسمي انقساما بشأن القضية الفلسطينية، ليس سلما أو حربا، بل حول طريقة رد العدوان الإسرائيلي عن أهل غزة العزل.
القضية الفلسطينية بدورها تعرضت لانقسام ذاتي، هو نفسه امتداد لانقسامات عضوية سابقة لها امتدادات عربية وإقليمية، منذ أن حسمت حركة حماس وحكومتها المقالة موقفها بالتفرد بحكم غزة، وبعد أن أخرجت منها حركة فتح والسلطة الوطنية الفلسطينية في صيف 2007.
وما بين الانقسامين العربي والفلسطيني ثمة علاقة شحن متبادل، تماما كدائرة كهربائية ذاتية الشحن، وبحيث يصعب أحيانا -إن لم يكن كثيرا- معرفة أيهما المتغير الثابت وأيهما المتغير التابع، وأيهما السبب وأيهما النتيجة؟
التشابك العضوي بين فلسطين والنظام العربي
"
القضية الفلسطينية هى القضية الجامعة التي تثير الشجون الشعبية قوميا ودينيا على نحو لا تعرفه أية قضية أخرى، وهى القضية التي طالما فرقت وميزت بين عرب وعرب، بين رجعيين لا يميلون إلى المواجهة مع إسرائيل، وآخرين تقدميين رفعوا شعار المواجهة
"
تاريخيا بدأ النظام العربي يغوص في الهم الفلسطيني منذ نكبة 1948، وحتى اليوم هناك تشابك عضوى بين حال النظام العربي الرسمي وحال القضية الفلسطينية، فلا يتصور أحد وجود النظام العربي كهيكلية وتفاعلات وتحالفات وانكسارات متتالية بدون القضية الفلسطينية، فهي قضية العرب المركزية حتى ولو تولى أمرها فلسطينيون تحت علم منظمة تحرير أو سلطة وطنية أو تحت بيرق حركة أو منظمة أيا كان اسمها وحجمها.
وهى القضية الجامعة التي تثير الشجون الشعبية قوميا ودينيا على نحو لا تعرفه أية قضية أخرى، وهي القضية التي طالما فرقت وميزت بين عرب وعرب، بين عرب رجعيين لا يميلون إلى المواجهة مع إسرائيل، وآخرين تقدميين رفعوا شعار المواجهة عسكريا وقوميا كما كان الحال في النصف الثاني من الخمسينيات وحتى منتصف الستينيات من القرن الماضي.
وبين عرب سلاميين -سبهم البعض بأنهم وقوعيون وليسوا واقعيين- جنحوا إلى التسوية السياسية مع العدو الصهيوني، وآخرين وصموا أنفسهم بالصمود والتصدي لمن قاد مسيرة التسوية السياسية، أي مصر السادات تحديدا، كما كان الحال في نهاية السبعينيات وحتى نهاية الثمانينيات في القرن الماضي أيضا.
وأخيرا بين عرب معتدلين -كما وصفتهم وزيرة الخارجية الأميركية كوندليزا رايس- مرتبطين بعلاقات تعاقدية مع إسرائيل ولهم علاقة خاصة بدرجة ما مع الولايات المتحدة، القطب الذي ما زال مهيمنا على النظام الدولي، دون أن يعنى ذلك أن تلك العلاقات الخاصة لا تخلو من متاعب ومنغصات وإحباطات.
وعرب آخرين ممانعين -هكذا وصفوا أنفسهم- يرفعون شعار المقاومة ومساندين للمنظمات الفلسطينية التي تصر على حمل السلاح وممارسة المقاومة العسكرية ضد الاحتلال الإسرائيلي في غزة والضفة الغربية، وغالب هؤلاء يدخلون في فئة المشاكسين للولايات المتحدة وإن بدرجات مختلفة، دون أن يعنى أنهم لا يرجون علاقة حسنة وطيبة مع الولايات المتحدة وإن بشروط، وأيضا تنازلات.
التحول النوعي للتدخلات الإقليمية
"
المرحلة الأخيرة من الانقسامات العربية والفلسطينية، ونعني بها العقد الأخير تحديدا، شهدت تحولا نوعيا للتدخلات الإقليمية، والتي باتت أكثر تأثيرا وأكثر توجيها لمسارات الأحداث
"
هذه الانقسامات التي مر بها النظام العربي في سنواته الأربعين الماضية، ارتبطت كلها بالقضية الفلسطينية، وبتحرير الأرض العربية التي احتلت في هزيمة يونيو/حزيران 1967، ثم بالتداعيات السياسية لحرب أكتوبر/تشرين الأول 1973، وبطريقة التوظيف السياسي لنتائج هذه الحرب سواء لتحرير ما بقى من الأرض العربية محتلا، أو وصولا إلى تسوية تاريخية مع العدو الذي ظل محتلا لأرض هنا أو هناك.
وكما كانت القضية الفلسطينية تجمع الفرقاء جميعا، كانت أيضا تحفز بينهم الشقاق والخلاف على نحو مثير ومدهش. وفي كل الأحوال والمراحل لم يخل الأمر من تدخلات خارجية، دولية في الغالب وأميركية تحديدا، وإقليمية بعض الأحيان سرعان ما يخبو تأثيرها لصالح تأثير الأطراف العربية الأكثر ارتباطا عضويا بالقضية الفلسطينية.
غير أن المرحلة الأخيرة من الانقسامات العربية والفلسطينية، ونعني بها العقد الأخير تحديدا، فقد شهدت تحولا نوعيا للتدخلات الإقليمية، والتي باتت أكثر تأثيرا وأكثر توجيها لمسارات الأحداث.
هنا نلمح التأثير الإيراني عبر التحالف مع سوريا التي تعتبر نفسها رمز الممانعة العربية وحامية المقاومة رغم سعيها للتفاوض مع إسرائيل، وعبر العلاقات الوثيقة التي نجحت في نسجها بمتانة مع حركات المقاومة وأبرزها حركتا حماس والجهاد الإسلامي اللتان تقيم قيادتاهما في دمشق.
ثم أخيرا المسعى التركي "الأردوغانى"، سواء عبر رعاية مفاوضات غير مباشرة بين سوريا وإسرائيل، أو في التحرك في أكثر من اتجاه من أجل وقف العدوان الإسرائيلي الشرس على غزة.
والفارق بين التدخلين الإقليميين الإيراني والتركي، أن الأول قديم نسبيا ويستند إلى أسس أيديولوجية دينية إسلامية، وهو جزء من إستراتيجية الدولة الإيرانية في توظيف البيئة الإقليمية للحفاظ على مصالحها الكبرى في المنطقة كتجسيد لدور إقليمي نافذ، والمرور بسلام بمشروعه النووي، وخلط الأوراق لدى القوى الإقليمية المنافسة، ومنع أي عمل عسكري محتمل أيا كانت طبيعته أو مداه أميركيا كان أو إٍسرائيليا.
ولا يستنكف التدخل الإيراني من التعامل مع قوى وحركات واستقطابها بالمال والسلاح والفكر، أيا كانت طبيعة العلاقة مع الدولة العربية المعنية، وما يحدث في العراق خير شاهد.
أما التدخل التركي فهو حديث نسبيا، يعمل في إطار التفاعل مع الدول والحكومات وليس الجماعات أو الحركات، ودوافعه الأساسية براغماتية عملية، تهدف إلى حماية المصالح التركية من جانب، ومسايرة الرأي العام التركي ذي المزاج الشرقي الصاعد من جانب آخر. ويعمل على توظيف علاقاته التاريخية مع الدولة العبرية كأساس يتيح له التحرك على جبهات مختلفة كوسيط مقبول من جانب ثالث.
"
رغم اختلاف دوافع التدخلين الإقليميين الإيراني والتركي في القضية الفلسطينية، فهما يثيران الأسئلة أمام الأدوار الإقليمية العربية الكبرى، كالمصري والسعودي والسوري والأردني، ذات الصلة بالقضية الفلسطينية
"
ورغم اختلاف دوافع هذين التدخلين الإقليميين، فهما يثيران الأسئلة أمام الأدوار الإقليمية العربية الكبرى، كالمصري والسعودي والسوري والأردني، ذات الصلة بالقضية الفلسطينية.
وبينما ينظر الثلاثي العربي -القاهرة والرياض وعمان وإلى جانبهم رام الله- إلى التدخل الإيراني كتدخل سلبي يثير المشكلات والعراقيل أمام القضية الفلسطينية، تنظر دمشق إليه كإضافة للمقاومة ورفض الاستسلام أمام المطالب الإسرائيلية والأميركية.
أما التدخل التركي فهو مقبول نسبيا من كل الأطراف، وإن بدرجات مختلفة وتبعا للموقف. وربما يختبر هذا الدور المقبول عمليا إذا ما تقرر إنشاء قوة رقابة دولية مسلحة أو غير مسلحة كإجراء لضبط الحدود بين غزة وإسرائيل، وسعت تركيا إلى المشاركة في تلك القوة. يتابع