أشرت في مقالات سابقة إلى أن الحوار بين المذاهب الإسلامية لن يكون مجديا إن استمر على انتهاج الطريقة المعهودة التي تتمثل في "المناظرات" بين أتباع تلك المذاهب. ذلك أن كل واحد من الفرقاء يلجأ إلى ما يرى أنه عيوب في المذاهب الأخرى ليركز عليها من أجل أن يبين خطأها وينتهي من ثم إلى أن يدعو ـ وإن بطريقة مواربة ـ أتباع تلك المذاهب إلى التخلي عنها والانضمام إلى مذهبه هو الذي يجزم بأنه هو ـ وحده ـ الصحيح.
ولعقم هذه الطريقة التي زادت الأمور سوءا ـ كما تشهد بذلك "المناحرات" التي استعرت بين ممثلي السنة والشيعة في بعض القنوات الفضائية في السنوات الأربع الماضية ـ فقد اقترحتُ بديلا عنها يتمثل في أن ينصرف أتباع كل واحد من المذاهب إلى المراجعة النقدية لمصادر مذهبه هو من أجل تنقيتها من المواقف العدائية للآخرين التي اتُّخذت في ظروف تاريخية ماضية كان العداء فيها مستشريا بين أتباع تلك المذاهب.
كما أشرت إلى أن "العلماء" في المذهبين الرئيسين ـ الشيعة والسنة ـ ربما لا يستطيعون القيام بهذه المهمة لأنهم هم أنفسهم نتاج لتلك المصادر التي يغترف منها المتعصبون من المذهبين. وربما تمنعهم ألفتهم للخطاب التقليدي الذي نشأوا عليه من النظر النقدي الضروري لذلك الخطاب نفسه. ومن هنا فإن أفضل المرشحين للقيام بمثل هذه المراجعة هم أولئك الذين ينتمون إلى تخصصات أخرى حديثة مثل المقارنة بين الأديان والتاريخ وعلم الاجتماع وعلم النفس وعلم الأناسة (الانثروبولوجي) (وأضيف إليهم هنا المثقفين بصفة عامة). ذلك أنهم، وحدهم، الذين يمكن أن يحققوا الحياد العلمي اللازم بين هذه الفرق والنجاعة العلمية. وينبغي أن يقوم كل واحد من هؤلاء بهذا التقصي النقدي للمراجع العقدية والفقهية للمذهب الذي ينتمي إليه، فذلك أدعى لقبول هذا النقد منه حين يكون الدارس من خارج المنتمين إلى ذلك المذهب.
وينبغي الإشارة في هذا السياق إلى بيان صدر مؤخرا بعنوان "بيان المثقفين الشيعة" الذي وقعه عدد من المثقفين الشيعة، وأكثرهم سعوديون، ويمكن أن يعد واحدا من المراجعات النقدية الصارمة لبعض مسلمات المذهب الشيعي التي أسهمت ـ من جانبها ـ في إذكاء العداء بين أتباع المذهبين ـ السنة والشيعة.
ويجب القول هنا إنه ليس من حقي ولا من حق غيري ممن لا ينتسبون إلى المذهب الشيعي التدخل في هذا الحوار الداخلي بين أتباع ذلك المذهب. ذلك أن هذا التدخل سينشأ عنه لا محالة فتح جبهات فرعية تسهم بكل تأكيد في صرف ذلك الحوار الداخلي عن هدفه والعمل على إيقاف تطوره.
أما ما أريد الحديث عنه هنا فهو ـ إلى جانب التنويه بهذه الخطوة الجريئة ـ أن هذا البيان لم يكن المحاولة الأولى في فتح حوار نقدي داخل المذهب الشيعي. وقد أشرت في مقالات سابقة إلى إسهامات بعض رموز المذهب الشيعي المعاصرين الذين أخذوا في توجيه النقد لعدد من مسلمات المذهب وممارسات أتباعه. ومن أبرز هؤلاء: علي شريعتي، ومحمد حسين فضل الله، وهاني فحص، ومحمد مهدي شمس الدين، وأحمد الكاتب. وعلى المستوى المحلي أشير إلى جهود الشيخ حسن الصفار وغيره من علماء المذهب الشيعي السعوديين الذين أصدروا بعض البيانات التي تدعو إلى مراجعة بعض الممارسات الشيعية المعهودة. يضاف إلى ذلك جهود بعض المثقفين السعوديين البارزين الذين ينتمون إلى المذهب الشيعي مثل الدكتور توفيق السيف والأستاذ محمد محفوظ والأستاذ كاظم الشبيب، وغيرهم. وهي الجهود التي كان هدفها التأكيد على الانتماء الوطني للمواطنين السعوديين الشيعة.
ومن الجهود الأخرى التي سعت إلى مثل هذه المراجعات بيان أصدره بعض المثقفين الشيعة البحرينيين قبل أشهر. وهو يكاد يماثل بيان المثقفين الشيعة هذا. ومن الجدير بالإشارة أنه كانت هناك محاولات نقدية تدخل في باب "النقد الثقافي" أنجزها بعض المثقفين البحرينيين الذين ينتمون إلى المذهب الشيعي. ومن أبرز هؤلاء الدكتور علي الديري في مقالاته التي تنشرها الصحافة البحرينية، والدكتور نادر كاظم في مقالاته الأسبوعية في صحيفة الوسط البحرينية كذلك، وفي كتبه المتعددة التي يأتي في مقدمتها كتابه "طبائع الاستملاك: قراءة في أمراض الحالة البحرينية"، بيروت: المؤسسة العربية للدراسات والنشر، 2007م، الذي كتبتُ عنه مقالا نشرته "الوطن" (22/3/2007م)، وكتابه الأخير "استعمالات الذاكرة في مجتمع تعددي مبتلى بالتاريخ"، البحرين: مكتبة فخراوي، 2008م الذي أثار ضجة كبرى شهدتها الصحف البحرينية والفعاليات الوطنية المختلفة هناك بسبب منع الرقابة نشره اعتراضا منها على ما يحويه من آراء جريئة عن المسببات الثقافية العميقة للتوترات المذهبية والسياسية في البحرين المعاصرة.
ومما يلفت النظر أن بيان المثقفين الشيعة المشار إليه هنا قوبل بردود أفعال عنيفة في الصحافة خارج المملكة وفي المنتديات الشيعية داخليا وخارجيا. فقد اتهم موقعو البيان بالجهل والجرأة على العلماء والتسبب في إشاعة الفرقة بين أتباع المذهب، والتنكر لمسلماته، بل والخيانة والعمالة للأجنبي! وأكثر ما يلفت النظر أن بعض أقسى الردود صدرت عن مثقفين سعوديين وبحرينيين ينتمون إلى المذهب الشيعي، وهو أمر غير متوقع.
وتذكِّر ردود الفعل هذه بردود الفعل القاسية التي ووجه بها المثقفون السعوديون، في خلال السنوات السبع الماضية، بسبب جرأتهم على مساءلة بعض التأويلات التقليدية و"الصحوية" لبعض المفاهيم الكبرى في التيار السلفي. وتجب الإشارة إلى أن بعض أقسى تلك الردود صدر عن مثقفين سعوديين كان ينتظر منهم أن يقفوا في صف زملائهم. ومن أهم تلك المفاهيم التي وجه المثقفون السعوديون إليها نشاطهم النقدي "الجهاد"، و"الولاء والبراء"، والعلاقة بالآخر ـ المسلم وغير المسلم ـ، ومفهوم الوطن، والغلو والتكفير، والوعظ، والقضاء. وكانت المناهج الدينية في التعليم العام، وهي التي كانت تعمم هذه المفاهيم بتأويلاتها الإقصائية المحافظة، هدفا لكثير من هذا النقد والمطالبة بمراجعتها وتخليصها من تلك التأويلات المتطرفة.
كما كانت هيئة الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر هدفا لهذا النقد الذي تناول بعض ممارساتها التي تنبع من تأويلاتها المحافظة لبعض الآراء الفقهية وكانت تتسبب في كثير من الأزمات بينها وبين المواطنين.
وقد أثمرت جهود المثقفين السعوديين التنويرية ـ وهي الجهود التي جاءت في سياق مسار الإصلاح الذي يقوده خادم الحرمين الشريفين الملك عبد الله بن عبد العزيز، حفظه الله ـ وصمودهم في وجه تلك الاتهامات الشنيعة طوال السنوات السبع الماضية كثيرا من النتائج الرائعة. فقد خُلِّصت المناهج الدراسية من كثير من التأويلات الإقصائية، وخلصت المدارس من كثير من النشاطات التي كان هدفها النهائي تجنيد الطلاب في مسارات التشدد التي تنتهي بهم في غالب الأحوال إلى الانتظام في تيارات التكفير والعنف، وأخذت الفتاوى الدينية الرسمية تميل إلى التسهيل والتيسير، وأخذ تيار "الصحوة" المؤدلج في التراجع، وتخلت هيئة الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر عن كثير من أوجه التشدد في تطبيق تأويلاتها الفقهية المحافظة، وبدأت تراجع نفسها وتقوم ببعض الدراسات "العلمية" التي تقصد بها تقويم عملها (وإن كان هناك كثير من المآخذ المنهجية على تلك الدراسات التي ربما كانت غاية الهيئة منها أن تدافع عن نفسها!).
بل إننا نجد الآن أن كثيرا من المفاهيم التي كان ينادي بها المثقفون السعوديون في البداية وكانت تقابل بكثير من الرفض والتشنيع صارت مألوفة، بل أخذت تتبناها الهيئات الدينية الرسمية نفسها وبعض الناشطين في مجالات الدعوة. وقد عرضتُ لبعض هذه المظاهر التغييرية الإيجابية في مقالي "تغيرات إيجابية" ("الوطن"15/11/1429هـ). ومن الشواهد الأخرى على هذا التغيير ما كتبه الزميل الأستاذ خالد بن عبد الله المشوح مؤخرا في حلقات ثلاث بعنوان "بيروسترويكا سلفية" ("الوطن"، 23/11/1429هـ، 30/11/1429هـ، 7/12/1429هـ) يقول في أولاها إن الداخل السعودي: "ظهرت عليه منذ بداية العقد الحالي تشكلات وعي وخطاب ديني جديد ينبعث من السلفية ذاتها ورموزها وقادتها وساهمت المؤسسة الدينية في قيادة بعض هذا التغيير وإن كان بشكل بطيء".
ومن هنا فإن على المثقفين الشيعة (الذين وقعوا البيان من سعوديين وغير سعوديين) ألا ييأسوا من تحقيق نجاح يماثل النجاح الذي حققه مواطنوهم من المثقفين السعوديين الآخرين. لكن شروط هذا النجاح واضحة الآن؛ وهي تتلخص في الصمود في وجه المناكفات والاتهامات المضادة التي ينبع معظمها من الوحشة من الأفكار الجديدة، ومن التشكيك المبدئي في نيات الآخرين، ومن المحافظة على السائد، ومن المحافظة على المصالح التي ترتبط بإبقاء الحال على ما هي عليه.
ولكي يطمئن الزملاء المثقفون الشيعة من موقعي البيان فإنه يمكن تذكيرهم بأنهم أفضل حالا من زملائهم المثقفين السعوديين الآخرين حين بدؤوا مشروعهم التنويري، ذلك أن التراث الشيعي المعاصر يزخر ـ منذ القرن التاسع عشر الميلادي ـ بجهود واضحة ظلت تسعى إلى التجديد والتغيير الدينيين.
إن هذا البيان الجريء سيسهم بكل تأكيد في إغناء الحوار الشيعي الداخلي عن بعض القضايا العقدية والفقهية والوطنية المهمة، وهو دليل صحة، ويجب ألا يخيف أحدا، وستكون له أصداء إيجابية عند الجميع.
* نقلا عن صحيفة "الوطن" السعودية
ولعقم هذه الطريقة التي زادت الأمور سوءا ـ كما تشهد بذلك "المناحرات" التي استعرت بين ممثلي السنة والشيعة في بعض القنوات الفضائية في السنوات الأربع الماضية ـ فقد اقترحتُ بديلا عنها يتمثل في أن ينصرف أتباع كل واحد من المذاهب إلى المراجعة النقدية لمصادر مذهبه هو من أجل تنقيتها من المواقف العدائية للآخرين التي اتُّخذت في ظروف تاريخية ماضية كان العداء فيها مستشريا بين أتباع تلك المذاهب.
كما أشرت إلى أن "العلماء" في المذهبين الرئيسين ـ الشيعة والسنة ـ ربما لا يستطيعون القيام بهذه المهمة لأنهم هم أنفسهم نتاج لتلك المصادر التي يغترف منها المتعصبون من المذهبين. وربما تمنعهم ألفتهم للخطاب التقليدي الذي نشأوا عليه من النظر النقدي الضروري لذلك الخطاب نفسه. ومن هنا فإن أفضل المرشحين للقيام بمثل هذه المراجعة هم أولئك الذين ينتمون إلى تخصصات أخرى حديثة مثل المقارنة بين الأديان والتاريخ وعلم الاجتماع وعلم النفس وعلم الأناسة (الانثروبولوجي) (وأضيف إليهم هنا المثقفين بصفة عامة). ذلك أنهم، وحدهم، الذين يمكن أن يحققوا الحياد العلمي اللازم بين هذه الفرق والنجاعة العلمية. وينبغي أن يقوم كل واحد من هؤلاء بهذا التقصي النقدي للمراجع العقدية والفقهية للمذهب الذي ينتمي إليه، فذلك أدعى لقبول هذا النقد منه حين يكون الدارس من خارج المنتمين إلى ذلك المذهب.
وينبغي الإشارة في هذا السياق إلى بيان صدر مؤخرا بعنوان "بيان المثقفين الشيعة" الذي وقعه عدد من المثقفين الشيعة، وأكثرهم سعوديون، ويمكن أن يعد واحدا من المراجعات النقدية الصارمة لبعض مسلمات المذهب الشيعي التي أسهمت ـ من جانبها ـ في إذكاء العداء بين أتباع المذهبين ـ السنة والشيعة.
ويجب القول هنا إنه ليس من حقي ولا من حق غيري ممن لا ينتسبون إلى المذهب الشيعي التدخل في هذا الحوار الداخلي بين أتباع ذلك المذهب. ذلك أن هذا التدخل سينشأ عنه لا محالة فتح جبهات فرعية تسهم بكل تأكيد في صرف ذلك الحوار الداخلي عن هدفه والعمل على إيقاف تطوره.
أما ما أريد الحديث عنه هنا فهو ـ إلى جانب التنويه بهذه الخطوة الجريئة ـ أن هذا البيان لم يكن المحاولة الأولى في فتح حوار نقدي داخل المذهب الشيعي. وقد أشرت في مقالات سابقة إلى إسهامات بعض رموز المذهب الشيعي المعاصرين الذين أخذوا في توجيه النقد لعدد من مسلمات المذهب وممارسات أتباعه. ومن أبرز هؤلاء: علي شريعتي، ومحمد حسين فضل الله، وهاني فحص، ومحمد مهدي شمس الدين، وأحمد الكاتب. وعلى المستوى المحلي أشير إلى جهود الشيخ حسن الصفار وغيره من علماء المذهب الشيعي السعوديين الذين أصدروا بعض البيانات التي تدعو إلى مراجعة بعض الممارسات الشيعية المعهودة. يضاف إلى ذلك جهود بعض المثقفين السعوديين البارزين الذين ينتمون إلى المذهب الشيعي مثل الدكتور توفيق السيف والأستاذ محمد محفوظ والأستاذ كاظم الشبيب، وغيرهم. وهي الجهود التي كان هدفها التأكيد على الانتماء الوطني للمواطنين السعوديين الشيعة.
ومن الجهود الأخرى التي سعت إلى مثل هذه المراجعات بيان أصدره بعض المثقفين الشيعة البحرينيين قبل أشهر. وهو يكاد يماثل بيان المثقفين الشيعة هذا. ومن الجدير بالإشارة أنه كانت هناك محاولات نقدية تدخل في باب "النقد الثقافي" أنجزها بعض المثقفين البحرينيين الذين ينتمون إلى المذهب الشيعي. ومن أبرز هؤلاء الدكتور علي الديري في مقالاته التي تنشرها الصحافة البحرينية، والدكتور نادر كاظم في مقالاته الأسبوعية في صحيفة الوسط البحرينية كذلك، وفي كتبه المتعددة التي يأتي في مقدمتها كتابه "طبائع الاستملاك: قراءة في أمراض الحالة البحرينية"، بيروت: المؤسسة العربية للدراسات والنشر، 2007م، الذي كتبتُ عنه مقالا نشرته "الوطن" (22/3/2007م)، وكتابه الأخير "استعمالات الذاكرة في مجتمع تعددي مبتلى بالتاريخ"، البحرين: مكتبة فخراوي، 2008م الذي أثار ضجة كبرى شهدتها الصحف البحرينية والفعاليات الوطنية المختلفة هناك بسبب منع الرقابة نشره اعتراضا منها على ما يحويه من آراء جريئة عن المسببات الثقافية العميقة للتوترات المذهبية والسياسية في البحرين المعاصرة.
ومما يلفت النظر أن بيان المثقفين الشيعة المشار إليه هنا قوبل بردود أفعال عنيفة في الصحافة خارج المملكة وفي المنتديات الشيعية داخليا وخارجيا. فقد اتهم موقعو البيان بالجهل والجرأة على العلماء والتسبب في إشاعة الفرقة بين أتباع المذهب، والتنكر لمسلماته، بل والخيانة والعمالة للأجنبي! وأكثر ما يلفت النظر أن بعض أقسى الردود صدرت عن مثقفين سعوديين وبحرينيين ينتمون إلى المذهب الشيعي، وهو أمر غير متوقع.
وتذكِّر ردود الفعل هذه بردود الفعل القاسية التي ووجه بها المثقفون السعوديون، في خلال السنوات السبع الماضية، بسبب جرأتهم على مساءلة بعض التأويلات التقليدية و"الصحوية" لبعض المفاهيم الكبرى في التيار السلفي. وتجب الإشارة إلى أن بعض أقسى تلك الردود صدر عن مثقفين سعوديين كان ينتظر منهم أن يقفوا في صف زملائهم. ومن أهم تلك المفاهيم التي وجه المثقفون السعوديون إليها نشاطهم النقدي "الجهاد"، و"الولاء والبراء"، والعلاقة بالآخر ـ المسلم وغير المسلم ـ، ومفهوم الوطن، والغلو والتكفير، والوعظ، والقضاء. وكانت المناهج الدينية في التعليم العام، وهي التي كانت تعمم هذه المفاهيم بتأويلاتها الإقصائية المحافظة، هدفا لكثير من هذا النقد والمطالبة بمراجعتها وتخليصها من تلك التأويلات المتطرفة.
كما كانت هيئة الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر هدفا لهذا النقد الذي تناول بعض ممارساتها التي تنبع من تأويلاتها المحافظة لبعض الآراء الفقهية وكانت تتسبب في كثير من الأزمات بينها وبين المواطنين.
وقد أثمرت جهود المثقفين السعوديين التنويرية ـ وهي الجهود التي جاءت في سياق مسار الإصلاح الذي يقوده خادم الحرمين الشريفين الملك عبد الله بن عبد العزيز، حفظه الله ـ وصمودهم في وجه تلك الاتهامات الشنيعة طوال السنوات السبع الماضية كثيرا من النتائج الرائعة. فقد خُلِّصت المناهج الدراسية من كثير من التأويلات الإقصائية، وخلصت المدارس من كثير من النشاطات التي كان هدفها النهائي تجنيد الطلاب في مسارات التشدد التي تنتهي بهم في غالب الأحوال إلى الانتظام في تيارات التكفير والعنف، وأخذت الفتاوى الدينية الرسمية تميل إلى التسهيل والتيسير، وأخذ تيار "الصحوة" المؤدلج في التراجع، وتخلت هيئة الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر عن كثير من أوجه التشدد في تطبيق تأويلاتها الفقهية المحافظة، وبدأت تراجع نفسها وتقوم ببعض الدراسات "العلمية" التي تقصد بها تقويم عملها (وإن كان هناك كثير من المآخذ المنهجية على تلك الدراسات التي ربما كانت غاية الهيئة منها أن تدافع عن نفسها!).
بل إننا نجد الآن أن كثيرا من المفاهيم التي كان ينادي بها المثقفون السعوديون في البداية وكانت تقابل بكثير من الرفض والتشنيع صارت مألوفة، بل أخذت تتبناها الهيئات الدينية الرسمية نفسها وبعض الناشطين في مجالات الدعوة. وقد عرضتُ لبعض هذه المظاهر التغييرية الإيجابية في مقالي "تغيرات إيجابية" ("الوطن"15/11/1429هـ). ومن الشواهد الأخرى على هذا التغيير ما كتبه الزميل الأستاذ خالد بن عبد الله المشوح مؤخرا في حلقات ثلاث بعنوان "بيروسترويكا سلفية" ("الوطن"، 23/11/1429هـ، 30/11/1429هـ، 7/12/1429هـ) يقول في أولاها إن الداخل السعودي: "ظهرت عليه منذ بداية العقد الحالي تشكلات وعي وخطاب ديني جديد ينبعث من السلفية ذاتها ورموزها وقادتها وساهمت المؤسسة الدينية في قيادة بعض هذا التغيير وإن كان بشكل بطيء".
ومن هنا فإن على المثقفين الشيعة (الذين وقعوا البيان من سعوديين وغير سعوديين) ألا ييأسوا من تحقيق نجاح يماثل النجاح الذي حققه مواطنوهم من المثقفين السعوديين الآخرين. لكن شروط هذا النجاح واضحة الآن؛ وهي تتلخص في الصمود في وجه المناكفات والاتهامات المضادة التي ينبع معظمها من الوحشة من الأفكار الجديدة، ومن التشكيك المبدئي في نيات الآخرين، ومن المحافظة على السائد، ومن المحافظة على المصالح التي ترتبط بإبقاء الحال على ما هي عليه.
ولكي يطمئن الزملاء المثقفون الشيعة من موقعي البيان فإنه يمكن تذكيرهم بأنهم أفضل حالا من زملائهم المثقفين السعوديين الآخرين حين بدؤوا مشروعهم التنويري، ذلك أن التراث الشيعي المعاصر يزخر ـ منذ القرن التاسع عشر الميلادي ـ بجهود واضحة ظلت تسعى إلى التجديد والتغيير الدينيين.
إن هذا البيان الجريء سيسهم بكل تأكيد في إغناء الحوار الشيعي الداخلي عن بعض القضايا العقدية والفقهية والوطنية المهمة، وهو دليل صحة، ويجب ألا يخيف أحدا، وستكون له أصداء إيجابية عند الجميع.
* نقلا عن صحيفة "الوطن" السعودية