أولاً:ً حكم مشاهدة الفضائيات.
اختلف المعاصرون في حكم مشاهدة المرئيات من تلفاز وفضائيات على قولين:
الأول: الجواز فقالوا:
1-إن هذه الوسائل أدوات لا تستقل بحكم إلا بحسب ما وضعت له, فإن كانت لخير فهي مشروعة, وإن كانت لشر فهي ممنوعة.
2-أن المشاهد حسيب نفسه ومراقب عليها بحسب الخير والشر المعروض.
وأجيب عن ذلك: بأن نسبة الفساد في هذه الفضائيات طاغية على الخير, والناس مضطرون لمشاهدة كل شيء بغية الفائدة, وهذا مدخل للشيطان.
وإن استطاع أن يتحكم الفرد في نفسه فلا يتحكم فيمن وراءه أثناء غيابه.
3- عموم البلوى بهذه الأجهزة المنتشرة، وعموم البلوى أصل معتبر شرعاً، وهو حاصل في هذه الأجهزة فيتعذر تركه.
وأجيبَ عنه بأن عموم البلوى لا يعتبر إلا إذا كان من طبيعة الشيء القائم فيه بذاته لا أن يجلبه لنفسه.
القول الثاني: المنع: قالوا:
1-من مقاصد الشريعة: حفظ الدين والنفس والعقل والنسل والمال، ومشاهدة هذه القنوات على النقيض من هذا, فيغلب عليها الفسق والفجور والمثيرات والترويج للباطل والفحش, فيحرم اقتناؤها.
2-اقتناء هذه الأجهزة يدخل تحت قاعدة "لا ضرر ولا ضرار" حيث يجلب مقتنيه الضرر على نفسه وأهله، بإدخال الانحلال والفساد إلى بيته.
3-قاعدة سد الذرائع تحتم تحريم هذه الأجهزة, حيث إن المتابع لبرامجها ينجر إلى الفساد والتحلل.
4-أغلب برامج هذه القنوات مصحوبة بالمعازف والغناء وأخلاق الميوعة والرذيلة.
الترجيح: الملاحظ أن من نظر إلى المفاسد فقط قال بالتحريم, ومن نظر إلى المصالح التي لا يمكن إهدارها مع فشو الأجهزة في البيوت إلا القليل قال بالجواز.
فالأول آخذ بأصل الإباحة مع ترشيح الجواز وتخفيف الشر قدر الطاقة، وإن لم يزل كله.
والثاني آخذ بسد الذرائع مع استصحاب الأبحاث التي أثبتت ضرر هذه الأجهزة.
والذي أراه أن الحكم بالإباحة أو التحريم من الصعوبة بمكان, حيث التأثير الكبير لهذه الأجهزة على عموم شرائح المجتمعات وارتباط حياة عامة الناس بها.
ولذلك فإن من اقتنى هذه الأجهزة بقصد المحرم دون رقابة من نفسه ولا خوف على من وراءه وانشغل بها عن أداء ما وجب عليه فهو آثم.
ومن اقتناه لمشاهدة مباح, واحترز جهده في المحافظة على أهله من فساده؛ فلا يخرج هذا عن حد الإباحة, والناس في ذلك درجات فمن مقل ومستكثر, مع مراعاة عموم البلوى بهذه الأجهزة وانتشارها في كافة البيوت والأسر.
ثانياً: التوسط في الفتيا في وسائل الإعلام.
التوسط: مأخوذ من الوسط ومادة: الواو, والسين, والطاء, تدل على معاني العدل والنّصف والخيرية والبينية. مقاييس اللغة 6/108.
والوسط في الفتيا هو التوسط بين فتاوى أهل التشدد والغلو وبين أهل التساهل والتفريط.
قَالَ عَلِيٌّ: خَيْرُ النَّاسِ هَذَا النَّمَطُ الْأَوْسَطُ يَلْحَقُ بِهِمْ التَّالِي, وَيَرْجِعُ إلَيْهِمْ الْغَالِي..
ودين الله وسط بين الغالي فيه, والجافي عنه.
وليس معنى التوسط أنه معنى من معاني التلفيق بين بعض الحق وبعض الباطل أو المراوحة بين العزائم والرخص بالهوى وما تشتهيه النفس, بل هو السير مع الأدلة حيث سارت والاهتداء بنورها، فالتوسط في الفتيا المعاصرة مشروع.
قال تعالى: "وَكَذَلِكَ جَعَلْنَاكُمْ أُمَّةً وَسَطاً لِتَكُونُوا شُهَدَاءَ عَلَى النَّاسِ وَيَكُونَ الرَّسُولُ عَلَيْكُمْ شَهِيداً"،قال الطبري: كما هديناكم أيّها المؤمنون بمحمد عليه الصلاة والسلام، وبما جاءكم به من عند الله، فخصصناكم بالتوفيق لقِبلة إبراهيم وملته، وفضلناكم بذلك على من سواكم من أهل الملل، كذلك خصصناكم ففضَّلناكم على غيركم من أهل الأديان، بأن جعلناكم أمة وسطًا.. تفسير الطبري-(3/141)، وقال سبحانه وتعالى: "وَجَاهِدُوا فِي اللَّهِ حَقَّ جِهَادِهِ هُوَ اجْتَبَاكُمْ وَمَا جَعَلَ عَلَيْكُمْ فِي الدِّينِ مِنْ حَرَجٍ مِّلَّةَ أَبِيكُمْ إِبْرَاهِيمَ هُوَ سَمَّاكُمُ الْمُسْلِمينَ مِن قَبْلُ وَفِي هَذَا لِيَكُونَ الرَّسُولُ شَهِيدًا عَلَيْكُمْ وَتَكُونُوا شُهَدَاء عَلَى النَّاسِ فَأَقِيمُوا الصَّلَاةَ وَآتُوا الزَّكَاةَ وَاعْتَصِمُوا بِاللَّهِ هُوَ مَوْلَاكُمْ فَنِعْمَ الْمَوْلَى وَنِعْمَ النَّصِيرُ"، والآية فيها إخبار وأمر بالتوسط في الدين حتى تكون الأمة شهيدة على الناس.
وقال تعالى: "اهْدِنَا الصِّرَاطَ الْمُسْتَقِيمَ * صِرَاطَ الَّذِينَ أَنْعَمْتَ عَلَيْهِمْ غَيْرِ الْمَغْضُوبِ عَلَيْهِمْ وَلَا الضَّالِّينَ"، فالأمة صراط مستقيم، وسط بين المغضوب عليهم والضالين, والنصوص كثيرة على مشروعية التوسط في كل شيء.
وإن كان لكل شيء معالم فمعالم التوسط في الفتيا المعاصرة مايلي:
1-التوازن بين النصوص والمقاصد.
من الملاحظ أن من المفتين تجاه النوازل الحادثة من يمعن النظر في النصوص والفروع، ويستهلك جهده في تحليلها، والوقوف على مفرداتها، وتحليل ألفاظها؛ ليتوصل لحكم من خلال ذلك فقط، دون النظر لفقه المقاصد.
ومنهم من يمعن النظر إلى مقاصد الشريعة وكلياتها، وجوامع أحكامها، فيعملها دون النظر إلى النصوص الشرعية الجزئية، ثم يخرج بفتوى يعلن أنها مراد الشرع وروحه, ومن هنا نشأ التشدد والتساهل بين المدرستين، وأغريت العداوة والبغضاء بين الفريقين, إذ كلٌّ متمسك بطرف من الحق, والموازنة هي المخرج الحقيقي من هذا المأزق الذي يقع فيه الطرفان عبر الفضائيات.
ومن المحال استغناء النصوص الجزئية عن الكليات, ومن أخذ بالكليات معرضاً عن الجزئيات أخطأ لا محالة, والعدل هو الأخذ بالكلي والجزئي باستصحاب الآخر.
2-الموازنة بين المصلحة والمفسدة.
والمفتي النابه هو من يعتبر المصالح والمفاسد في فتواه, ويراعي مراتب ذلك والمعتبر في المصالح هو ما يتحقق به مقصود الشريعة, فيراعي عند المزاحمة والمشاحة تقديم الفرض على النفل في الفعل, والمحرم على المكروه في الترك.. وغير ذلك.
ويتحرى تحصيل المصالح وتكثيرها، ودرء المفاسد وتقليلها قدر الإمكان, ويأمر بخير الخيرين وينهى عن شر الشرين.
3-الموازنة بين العزائم والرخص.
هناك فرق بين رخصة الشرع التي قال فيها النبي - صلى الله عليه وسلم-: (إِنَّ اللَّهَ يُحِبُ أَنْ تُؤْتَى رُخَصُهُ)، وبين رخص المذاهب الفقهية, وتوجد في أحكام الشرع العزائم, وإعمال الرخص في مجالها مقصود شرعي, والغلو في حمل الناس على العزيمة بإطلاق لا يفرق عن مذهب التحلل بتتبع الرخص دائماً. فكلاهما مناقض لمقصود الشريعة.
قال الشاطبي رحمه الله في الموافقات: إن مراسم الشريعة إن كانت مخالفة للهوى فإنها أيضا إنما أتت لمصالح العباد في دنياهم ودينهم، والهوى ليس بمذموم إلا إذا كان مخالفاً لمراسم الشريعة، وليس كلامنا فيه، فإن كان موافقا فليس بمذموم، ومسألتنا من هذا فإنه إذا نصب لنا الشرع سبباً لرخصة، وغلب على الظن ذلك فأعملنا مقتضاه، وعملنا بالرخصة فأين اتباع الهوى في هذا؟ وكما أن اتباع الرخص يحدث بسببه الخروج عن مقتضى الأمر والنهي كذلك اتباع التشديدات، وترك الأخذ بالرخص يحدث بسببه الخروج عن مقتضى الأمر والنهي، وليس أحدهما بأولى من الآخر، والمتبع للأسباب المشروعة في الرخص والعزائم سواء، فإن كانت غلبة الظن في العزائم معتبرة كذلك في الرخص، وليس أحدهما أحرى من الآخر، ومن فرق بينهما فقد خالف الإجماع ".
4-رد المتشابه إلى المحكم.
مناط اختلاف الفقهاء غالباً راجع إلى المتشابه من النصوص، وعدم وضوح الدليل بالنسبة للواحد منهم, والناس فيها صنفان:
الأول: رد الثابت من السنن بالمتشابه من القرآن والسنة.
الثاني: جعل المحكم متشابهاً لتعطيل دلالته.
والراسخون عاملون بما استبان لهم، فيؤمنون بالمتشابه، ويردونه إلى المحكم, ويأخذون من المحكم ما يفسرون به المتشابه, فتتفق الدلالات، وتتوافق النصوص، ويصدق بعضها بعضاً.
5-الموازنة بين الغيرة على الحق ورحمة الخلق.
وهنا يلاحظ عدة أمور:
-بعض الغيورين من المشتغلين بالدين يلزم الناس بما يراه حقاً فيما اجتهد فيه, وليس من مسائل الإجماع والقطعيات، وقصارى ما عنده هو ما عند المخالف سواء بسواء.
-الحامل على ذلك هو باعث الغيرة, وحماية جناب الشريعة، والحرص على تمسك الناس بدينهم, والغضب لانتهاك ما يرونه من ملزمات الشريعة، وهذا نبل في المقصد, إلا أنه يجب أن يضبط بأصول الشريعة وقواعدها, بحيث لا يرتد سلباً في قطع أواصر الأخوة وتمزيق وحدة الصف وبنيان الأمة, ونصوص الشريعة متضافرة على الأمر بالاتفاق، ونبذ الاختلاف والافتراق.
-ومما يؤسف له استباحة أعراض العلماء في مسائل قصاراها الاجتهاد, راعى طرف فيها الأصل, وراعى الآخر الحال العارضة, وكلاهما معظِّم للنصوص ومسلم بها, لكن اختلف المأخذ عند الطرفين, فيطلق كل منهما لسانه عتباً وسباً وذماً وإقصاءً باسم الغيرة على الملة وحماية جنابها.
اختلف المعاصرون في حكم مشاهدة المرئيات من تلفاز وفضائيات على قولين:
الأول: الجواز فقالوا:
1-إن هذه الوسائل أدوات لا تستقل بحكم إلا بحسب ما وضعت له, فإن كانت لخير فهي مشروعة, وإن كانت لشر فهي ممنوعة.
2-أن المشاهد حسيب نفسه ومراقب عليها بحسب الخير والشر المعروض.
وأجيب عن ذلك: بأن نسبة الفساد في هذه الفضائيات طاغية على الخير, والناس مضطرون لمشاهدة كل شيء بغية الفائدة, وهذا مدخل للشيطان.
وإن استطاع أن يتحكم الفرد في نفسه فلا يتحكم فيمن وراءه أثناء غيابه.
3- عموم البلوى بهذه الأجهزة المنتشرة، وعموم البلوى أصل معتبر شرعاً، وهو حاصل في هذه الأجهزة فيتعذر تركه.
وأجيبَ عنه بأن عموم البلوى لا يعتبر إلا إذا كان من طبيعة الشيء القائم فيه بذاته لا أن يجلبه لنفسه.
القول الثاني: المنع: قالوا:
1-من مقاصد الشريعة: حفظ الدين والنفس والعقل والنسل والمال، ومشاهدة هذه القنوات على النقيض من هذا, فيغلب عليها الفسق والفجور والمثيرات والترويج للباطل والفحش, فيحرم اقتناؤها.
2-اقتناء هذه الأجهزة يدخل تحت قاعدة "لا ضرر ولا ضرار" حيث يجلب مقتنيه الضرر على نفسه وأهله، بإدخال الانحلال والفساد إلى بيته.
3-قاعدة سد الذرائع تحتم تحريم هذه الأجهزة, حيث إن المتابع لبرامجها ينجر إلى الفساد والتحلل.
4-أغلب برامج هذه القنوات مصحوبة بالمعازف والغناء وأخلاق الميوعة والرذيلة.
الترجيح: الملاحظ أن من نظر إلى المفاسد فقط قال بالتحريم, ومن نظر إلى المصالح التي لا يمكن إهدارها مع فشو الأجهزة في البيوت إلا القليل قال بالجواز.
فالأول آخذ بأصل الإباحة مع ترشيح الجواز وتخفيف الشر قدر الطاقة، وإن لم يزل كله.
والثاني آخذ بسد الذرائع مع استصحاب الأبحاث التي أثبتت ضرر هذه الأجهزة.
والذي أراه أن الحكم بالإباحة أو التحريم من الصعوبة بمكان, حيث التأثير الكبير لهذه الأجهزة على عموم شرائح المجتمعات وارتباط حياة عامة الناس بها.
ولذلك فإن من اقتنى هذه الأجهزة بقصد المحرم دون رقابة من نفسه ولا خوف على من وراءه وانشغل بها عن أداء ما وجب عليه فهو آثم.
ومن اقتناه لمشاهدة مباح, واحترز جهده في المحافظة على أهله من فساده؛ فلا يخرج هذا عن حد الإباحة, والناس في ذلك درجات فمن مقل ومستكثر, مع مراعاة عموم البلوى بهذه الأجهزة وانتشارها في كافة البيوت والأسر.
ثانياً: التوسط في الفتيا في وسائل الإعلام.
التوسط: مأخوذ من الوسط ومادة: الواو, والسين, والطاء, تدل على معاني العدل والنّصف والخيرية والبينية. مقاييس اللغة 6/108.
والوسط في الفتيا هو التوسط بين فتاوى أهل التشدد والغلو وبين أهل التساهل والتفريط.
قَالَ عَلِيٌّ: خَيْرُ النَّاسِ هَذَا النَّمَطُ الْأَوْسَطُ يَلْحَقُ بِهِمْ التَّالِي, وَيَرْجِعُ إلَيْهِمْ الْغَالِي..
ودين الله وسط بين الغالي فيه, والجافي عنه.
وليس معنى التوسط أنه معنى من معاني التلفيق بين بعض الحق وبعض الباطل أو المراوحة بين العزائم والرخص بالهوى وما تشتهيه النفس, بل هو السير مع الأدلة حيث سارت والاهتداء بنورها، فالتوسط في الفتيا المعاصرة مشروع.
قال تعالى: "وَكَذَلِكَ جَعَلْنَاكُمْ أُمَّةً وَسَطاً لِتَكُونُوا شُهَدَاءَ عَلَى النَّاسِ وَيَكُونَ الرَّسُولُ عَلَيْكُمْ شَهِيداً"،قال الطبري: كما هديناكم أيّها المؤمنون بمحمد عليه الصلاة والسلام، وبما جاءكم به من عند الله، فخصصناكم بالتوفيق لقِبلة إبراهيم وملته، وفضلناكم بذلك على من سواكم من أهل الملل، كذلك خصصناكم ففضَّلناكم على غيركم من أهل الأديان، بأن جعلناكم أمة وسطًا.. تفسير الطبري-(3/141)، وقال سبحانه وتعالى: "وَجَاهِدُوا فِي اللَّهِ حَقَّ جِهَادِهِ هُوَ اجْتَبَاكُمْ وَمَا جَعَلَ عَلَيْكُمْ فِي الدِّينِ مِنْ حَرَجٍ مِّلَّةَ أَبِيكُمْ إِبْرَاهِيمَ هُوَ سَمَّاكُمُ الْمُسْلِمينَ مِن قَبْلُ وَفِي هَذَا لِيَكُونَ الرَّسُولُ شَهِيدًا عَلَيْكُمْ وَتَكُونُوا شُهَدَاء عَلَى النَّاسِ فَأَقِيمُوا الصَّلَاةَ وَآتُوا الزَّكَاةَ وَاعْتَصِمُوا بِاللَّهِ هُوَ مَوْلَاكُمْ فَنِعْمَ الْمَوْلَى وَنِعْمَ النَّصِيرُ"، والآية فيها إخبار وأمر بالتوسط في الدين حتى تكون الأمة شهيدة على الناس.
وقال تعالى: "اهْدِنَا الصِّرَاطَ الْمُسْتَقِيمَ * صِرَاطَ الَّذِينَ أَنْعَمْتَ عَلَيْهِمْ غَيْرِ الْمَغْضُوبِ عَلَيْهِمْ وَلَا الضَّالِّينَ"، فالأمة صراط مستقيم، وسط بين المغضوب عليهم والضالين, والنصوص كثيرة على مشروعية التوسط في كل شيء.
وإن كان لكل شيء معالم فمعالم التوسط في الفتيا المعاصرة مايلي:
1-التوازن بين النصوص والمقاصد.
من الملاحظ أن من المفتين تجاه النوازل الحادثة من يمعن النظر في النصوص والفروع، ويستهلك جهده في تحليلها، والوقوف على مفرداتها، وتحليل ألفاظها؛ ليتوصل لحكم من خلال ذلك فقط، دون النظر لفقه المقاصد.
ومنهم من يمعن النظر إلى مقاصد الشريعة وكلياتها، وجوامع أحكامها، فيعملها دون النظر إلى النصوص الشرعية الجزئية، ثم يخرج بفتوى يعلن أنها مراد الشرع وروحه, ومن هنا نشأ التشدد والتساهل بين المدرستين، وأغريت العداوة والبغضاء بين الفريقين, إذ كلٌّ متمسك بطرف من الحق, والموازنة هي المخرج الحقيقي من هذا المأزق الذي يقع فيه الطرفان عبر الفضائيات.
ومن المحال استغناء النصوص الجزئية عن الكليات, ومن أخذ بالكليات معرضاً عن الجزئيات أخطأ لا محالة, والعدل هو الأخذ بالكلي والجزئي باستصحاب الآخر.
2-الموازنة بين المصلحة والمفسدة.
والمفتي النابه هو من يعتبر المصالح والمفاسد في فتواه, ويراعي مراتب ذلك والمعتبر في المصالح هو ما يتحقق به مقصود الشريعة, فيراعي عند المزاحمة والمشاحة تقديم الفرض على النفل في الفعل, والمحرم على المكروه في الترك.. وغير ذلك.
ويتحرى تحصيل المصالح وتكثيرها، ودرء المفاسد وتقليلها قدر الإمكان, ويأمر بخير الخيرين وينهى عن شر الشرين.
3-الموازنة بين العزائم والرخص.
هناك فرق بين رخصة الشرع التي قال فيها النبي - صلى الله عليه وسلم-: (إِنَّ اللَّهَ يُحِبُ أَنْ تُؤْتَى رُخَصُهُ)، وبين رخص المذاهب الفقهية, وتوجد في أحكام الشرع العزائم, وإعمال الرخص في مجالها مقصود شرعي, والغلو في حمل الناس على العزيمة بإطلاق لا يفرق عن مذهب التحلل بتتبع الرخص دائماً. فكلاهما مناقض لمقصود الشريعة.
قال الشاطبي رحمه الله في الموافقات: إن مراسم الشريعة إن كانت مخالفة للهوى فإنها أيضا إنما أتت لمصالح العباد في دنياهم ودينهم، والهوى ليس بمذموم إلا إذا كان مخالفاً لمراسم الشريعة، وليس كلامنا فيه، فإن كان موافقا فليس بمذموم، ومسألتنا من هذا فإنه إذا نصب لنا الشرع سبباً لرخصة، وغلب على الظن ذلك فأعملنا مقتضاه، وعملنا بالرخصة فأين اتباع الهوى في هذا؟ وكما أن اتباع الرخص يحدث بسببه الخروج عن مقتضى الأمر والنهي كذلك اتباع التشديدات، وترك الأخذ بالرخص يحدث بسببه الخروج عن مقتضى الأمر والنهي، وليس أحدهما بأولى من الآخر، والمتبع للأسباب المشروعة في الرخص والعزائم سواء، فإن كانت غلبة الظن في العزائم معتبرة كذلك في الرخص، وليس أحدهما أحرى من الآخر، ومن فرق بينهما فقد خالف الإجماع ".
4-رد المتشابه إلى المحكم.
مناط اختلاف الفقهاء غالباً راجع إلى المتشابه من النصوص، وعدم وضوح الدليل بالنسبة للواحد منهم, والناس فيها صنفان:
الأول: رد الثابت من السنن بالمتشابه من القرآن والسنة.
الثاني: جعل المحكم متشابهاً لتعطيل دلالته.
والراسخون عاملون بما استبان لهم، فيؤمنون بالمتشابه، ويردونه إلى المحكم, ويأخذون من المحكم ما يفسرون به المتشابه, فتتفق الدلالات، وتتوافق النصوص، ويصدق بعضها بعضاً.
5-الموازنة بين الغيرة على الحق ورحمة الخلق.
وهنا يلاحظ عدة أمور:
-بعض الغيورين من المشتغلين بالدين يلزم الناس بما يراه حقاً فيما اجتهد فيه, وليس من مسائل الإجماع والقطعيات، وقصارى ما عنده هو ما عند المخالف سواء بسواء.
-الحامل على ذلك هو باعث الغيرة, وحماية جناب الشريعة، والحرص على تمسك الناس بدينهم, والغضب لانتهاك ما يرونه من ملزمات الشريعة، وهذا نبل في المقصد, إلا أنه يجب أن يضبط بأصول الشريعة وقواعدها, بحيث لا يرتد سلباً في قطع أواصر الأخوة وتمزيق وحدة الصف وبنيان الأمة, ونصوص الشريعة متضافرة على الأمر بالاتفاق، ونبذ الاختلاف والافتراق.
-ومما يؤسف له استباحة أعراض العلماء في مسائل قصاراها الاجتهاد, راعى طرف فيها الأصل, وراعى الآخر الحال العارضة, وكلاهما معظِّم للنصوص ومسلم بها, لكن اختلف المأخذ عند الطرفين, فيطلق كل منهما لسانه عتباً وسباً وذماً وإقصاءً باسم الغيرة على الملة وحماية جنابها.