الفتوى مصدر بمعنى الإفتاء، وتجمع على: فتاوى، وفتاوي, والفتيا تبيين المشكل من الأحكام، ومن معانيها تعبير الرؤى، يقول الله سبحانه وتعالى: "يَا أَيُّهَا المَلَأُ أَفْتُونِي فِي أَمْرِي"، والفتوى في الاصطلاح: تبيين الحكم الشرعي عن دليل لمن سأل عنه، أو هي نص جواب المفتي, وهي تختلف عن التقرير الابتدائي الذي يقرره العالم, أو العلم الذي يبذله من غير سؤال, وهي غالباً ما تطلق على الأجوبة الشرعية، فإن كانت نفسية أو اجتماعية أو غيرها فتكون استشارة أو نصحاً.
والفتوى المباشرة هي ما كان عبر الإذاعة والتلفاز, وتكون صادرة عمن يتعرض للفتوى خلال تلك الوسائط, سواء كانت على الهواء، أو مسجلة، أو معادة أو غير ذلك.
ومنصب الإفتاء ذو أهمية إسلامية واجتماعية ودور حساس, ويكفيه عظماً وخطورة أن الله عز وجل قد تولاه بنفسه، يقول الله سبحانه وتعالى: "وَيَسْتَفْتُونَكَ فِي النِّسَاءِ قُلِ اللَّهُ يُفْتِيكُمْ"، وكفى بمن تولاه شرفاً أن يكون مهتماً بالتحري عن حكم الله في المسائل، وهي مهمة قام بها الأنبياء عليهم السلام، والخلفاء الراشدون، والصحابة رضي الله عنهم.
وشأن الفتوى كغيرها من فروض الكفاية, إذا قام بها من يكفي سقط الوجوب عن الآخرين, بيد أنها تجب عيناً إذا اكتملت عدة الفقيه، ولم يوجد مفت غيره, وفي هذا العصر بالخصوص فإن المختص الشرعي الذي اكتملت آلته, ونضجت معرفته بالمحكوم فيه، (وهو العالَمُ والواقعُ) فالقول بتعين الإفتاء عليه وجيه؛ لتوفره على فقه النفس الذي يقل وجوده، وتكثر الحاجة إليه في هذا العالم الزاخر بكل تالد وطريف.
والفتوى المباشرة هي إحدى متغيرات العصر ومنجزاته التي يجب توظيفها والانتفاع بها، أما التخوف والتردد فليس معناه الورع، بل هو يفضي إلى فتح المجال للعابثين، وغير المتخصصين، والذين لا يمتلكون آلة الإفتاء، أو لا يتوافرون على فقه النفس والاعتدال والعقل، وأيضاً فإن ذلك يعني – نفسياً - ضعف الثقة بالمعطى الشرعي الذي نقدمه.
ولا ينكر أحد أن الإعلام المرئي اليوم أصبح محوراً أساساً في منظومة الحياة لمختلف الشرائح والطبقات المجتمعية، وأصبح مصدراً من مصادر التوجيه والخطاب والتأثير، بل ومصدراً لتوجيه الرأي العام، وقناةً من قنوات الاتصال الجماهيري.
والمفتي الذي يكشف عن رأيه وتقريبه لأحكام الشرع هو وريث نسبي لمقام النبي – صلى الله عليه وسلم - وهو وريث علم الشريعة ومبلغها, وبقدر ما يكون عنده من علم الشريعة وارتواؤه منها، وفقهه للناس ينال من هذه الوراثة العظيمة، يقول إمام الأنبياء صلى الله عليه وسلم: (إِنَّ الْعُلَمَاءَ وَرَثَةُ الأَنْبِيَاءِ وَإِنَّ الأَنْبِيَاءَ لَمْ يُوَرِّثُوا دِينَاراً وَلاَ دِرْهَماً، وإنما وَرَّثُوا الْعِلْمَ فَمَنْ أَخَذَهُ أَخَذَ بِحَظٍّ وَافِرٍ)، ويقول عليه الصلاة والسلام: (أَلاَ لِيُبَلِّغِ الشَّاهِدُ مِنْكُمُ الْغَائِبَ).
إن الحاجة لم تعد حاجة إلى من يحكم العبارة، ويجيد صياغة اللفظ فحسب، بل الأهم من يكشف دواخل الأشياء، وذلك هو فقيه النفس -كما يسميه الجويني والعز بن عبد السلام وغيرهما- الذي يفحص المقاصد العميقة للأشياء، والمعرفة الصادقة لفرز المسائل وتبيينها وتوضيحها، ومعرفة النصوص وفلسفتها واختلافاتها، وناسخها ومنسوخها، وذلك هو شرط العلم الذي تفرضه الشريعة على المفتي؛ قال الإمام الشافعي فيما رواه عنه الخطيب في كتاب الفقيه والمتفقه له: لَا يَحِلُّ لِأَحَدٍ أَنْ يُفْتِيَ فِي دِينِ اللَّهِ إلَّا رَجُلًا عَارِفًا بِكِتَابِ اللَّهِ بِنَاسِخِهِ وَمَنْسُوخِهِ، وَمُحْكَمِهِ وَمُتَشَابِهِهِ، وَتَأْوِيلِهِ وَتَنْزِيلِهِ، وَمَكِّيِّهِ وَمَدَنِيِّهِ، وَمَا أُرِيدَ بِهِ، وَيَكُونُ بَعْدَ ذَلِكَ بَصِيرًا بِحَدِيثِ رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم.
وقال الإمام أحمد: يَنْبَغِي لِلرَّجُلِ إذَا حَمَلَ نَفْسَهُ عَلَى الْفُتْيَا أَنْ يَكُونَ عَالِمًا بِالسُّنَنِ، عَالِمًا بِوُجُوهِ الْقُرْآنِ، عَالِمًا بِالْأَسَانِيدِ الصَّحِيحَةِ.
وسئل ابنِ الْمُبَارَكِ : مَتَى يُفْتِي الرَّجُلُ؟
قَالَ: إذَا كَانَ عَالِمًا بِالْأَثَرِ، بَصِيرًا بِالرَّأْيِ.
يُرِيد بِالرَّأْيِ الْقِيَاسَ الصَّحِيحَ وَالْمَعَانِيَ، وَالْعِلَلَ الصَّحِيحَةَ الَّتِي عَلَّقَ الشَّارِعُ بِهَا الْأَحْكَامَ وَجَعَلَهَا مُؤَثِّرَةً فِيهَا طَرْدًا وَعَكْسًا.
ثم يلزمه أن يكون رصين الفكر, جيد الملاحظة، ثاقب النظرة، متأنياً، متثبتاً فيما يقول.
قال النووي رحمه الله: يَحْرُمُ التَّسَاهُلُ فِي الْفَتْوَى، وَمَنْ عُرِفَ بِهِ حَرُمَ اسْتِفْتَاؤُهُ، فَمِنْ التَّسَاهُلِ: أَنْ لَا يَتَثَبَّتَ، وَيُسْرِعَ بِالْفَتْوَى قَبْلَ اسْتِيفَاءِ حَقِّهَا مِنْ النَّظَرِ وَالْفِكْرِ، فَإِنْ تَقَدَّمَتْ مَعْرِفَتُهُ بِالْمَسْئُولِ عَنْهُ فَلَا بَأْسَ بِالْمُبَادَرَةِ، وَعَلَى هَذَا يُحْمَلُ مَا نُقِلَ عَنْ الْمَاضِينَ مِنْ مُبَادَرَةٍ.
ثم ينبغي للمفتي أن يكون على معرفة بأحوال الناس, فطناً لطبائعهم وتصرفاتهم, وأن يدقق النظر في السؤال والسائل, فكثيراً ما يكون السؤال ليس على قدر السائل، أو مستواه العلمي، أو يكون من المعضلات، أو متشابه الآيات، فيقْدُر المفتي الأمورَ بقدرها، وتلك النظرة قدر عملي قد يدركه المفتي بالممارسة والملاحظة، كما يدرك الحكيم خبرته بالتجربة، ويدرك المتفرس فراسته بتملك الملكة، (والعلم بالتعلم، والحلم بالتحلّم)، كما في الأثر الذي رواه الخطيب البغدادي في تاريخه عن أبي الدرداء موقوفاً ومرفوعاً، وهو بالموقوف أشبه.
كما أن على المفتي أن يكون عارفاً بعادات الناس وأعرافهم، واختلاف ذلك من دولة لأخرى, فكثيراً ما يقع المفتي في خطأٍ في فتواه؛ لأن السائل يسأل عن شيء في بلده معروف بمسميات معينة, مختلفة عن بلد المفتي, فهو في وادٍ، والمفتي في واد آخر، وكانت معرفة العادات شرطاً مهماً للفقيه والمفتي؛ لأن معرفة العادة تساعد على فهم الفتوى للحكم عليه، والأصوليون يقولون: الحكم على الشيء فرع عن تصوره، وهذا التصور لا يحصل إلا بمعرفة العادات الشائعة بين الناس، والمهم أن يعرف العادة المؤثرة في الفتوى، أو المتعلقة بها؛ لأن بعض العادات تشكل شروطاً ضمنية، غير مذكورة في التعاملات الدنيوية - والتجارية بالخصوص - تؤثر على حقيقة الفتوى والحكم.
وينبغي للمفتي أن يقف على حقيقة الألفاظ من المستفتي, بحيث يكشف الواقع, فإن لم يصل المفتي إلى كشف الواقع فلا يحل له أن يفتيه، بل عليه أن يسأل، ويتثبت، ويتأنى.
ثم إن مراعاة الحكم الشرعي المتفق مع مقاصد الشريعة من أهم اعتناءات المفتي، قَالَ الشَّاطِبِيُّ: الْمُفْتِي الْبَالِغُ ذُرْوَةَ الدَّرَجَةِ هُوَ الَّذِي يَحْمِلُ النَّاسَ عَلَى الْوَسَطِ الْمَعْهُودِ فِيمَا يَلِيقُ بِالْجُمْهُورِ، فَلا يَذْهَبُ بِهِمْ مَذْهَبَ الشِّدَّةِ، وَلا يَمِيلُ بِهِمْ إلَى طَرَفِ الِانْحِلالِ، وَهَذَا هُوَ الصِّرَاطُ الْمُسْتَقِيمُ الَّذِي جَاءَتْ بِهِ الشَّرِيعَةُ، فَلا إفْرَاطَ وَلا تَفْرِيطَ، وَمَا خَرَجَ عَنْ الْوَسَطِ مَذْمُومٌ عِنْدَ الْعُلَمَاءِ الرَّاسِخِينَ.
وهذا المنهج الوسط هو شأن رسول الله - صلى الله عليه وسلم- في كل أموره وتوجيهاته, فإنه قال لمعاذ رضي الله عنه لما أطال بالناس: (يَا مُعَاذُ أَفَتَّانٌ أَنْتَ؟! - ثَلاَثاً -..)، (إِنَّ مِنْكُمْ مُنَفِّرِينَ، فَأَيُّكُمْ مَا صَلَّى بِالنَّاسِ فَلْيَتَجَوَّزْ، فَإِنَّ فِيهِمُ الضَّعِيفَ وَالْكَبِيرَ وَذَا الْحَاجَةِ)، وقال صلى الله عليه وسلم: (عَلَيْكُمْ مَا تُطِيقُونَ مِنَ الأَعْمَالِ ، فَإِنَّ اللَّهَ لاَ يَمَلُّ حَتَّى تَمَلُّوا).
والمقصود أن المفتي لم يعد يخاطب مجموعة في حلقة أو فصل أو مسجد، عرفهم وعرفوه، بل أصبح يخاطب عالماً مليئاً بالمتناقضات والمختلفات, بالموافق والمخالف, والمؤمن والكافر, والصادق والكاذب، والناصح والمغرض؛ فعليه أن يكون فقيهاً بمقاصد الشريعة, ومآلات الأحكام, مطلعاً على العلوم الحديثة، عارفاً بأحوال المجتمعات، فمعرفة مآلات الأشياء فقه عظيم يعين على بعد النظر، وهو نوع من مقاصد الشريعة التي اعتنت بها مآلات النصوص ولاحظتها بالاستقراء والتتبع.
والفتوى المباشرة هي ما كان عبر الإذاعة والتلفاز, وتكون صادرة عمن يتعرض للفتوى خلال تلك الوسائط, سواء كانت على الهواء، أو مسجلة، أو معادة أو غير ذلك.
ومنصب الإفتاء ذو أهمية إسلامية واجتماعية ودور حساس, ويكفيه عظماً وخطورة أن الله عز وجل قد تولاه بنفسه، يقول الله سبحانه وتعالى: "وَيَسْتَفْتُونَكَ فِي النِّسَاءِ قُلِ اللَّهُ يُفْتِيكُمْ"، وكفى بمن تولاه شرفاً أن يكون مهتماً بالتحري عن حكم الله في المسائل، وهي مهمة قام بها الأنبياء عليهم السلام، والخلفاء الراشدون، والصحابة رضي الله عنهم.
وشأن الفتوى كغيرها من فروض الكفاية, إذا قام بها من يكفي سقط الوجوب عن الآخرين, بيد أنها تجب عيناً إذا اكتملت عدة الفقيه، ولم يوجد مفت غيره, وفي هذا العصر بالخصوص فإن المختص الشرعي الذي اكتملت آلته, ونضجت معرفته بالمحكوم فيه، (وهو العالَمُ والواقعُ) فالقول بتعين الإفتاء عليه وجيه؛ لتوفره على فقه النفس الذي يقل وجوده، وتكثر الحاجة إليه في هذا العالم الزاخر بكل تالد وطريف.
والفتوى المباشرة هي إحدى متغيرات العصر ومنجزاته التي يجب توظيفها والانتفاع بها، أما التخوف والتردد فليس معناه الورع، بل هو يفضي إلى فتح المجال للعابثين، وغير المتخصصين، والذين لا يمتلكون آلة الإفتاء، أو لا يتوافرون على فقه النفس والاعتدال والعقل، وأيضاً فإن ذلك يعني – نفسياً - ضعف الثقة بالمعطى الشرعي الذي نقدمه.
ولا ينكر أحد أن الإعلام المرئي اليوم أصبح محوراً أساساً في منظومة الحياة لمختلف الشرائح والطبقات المجتمعية، وأصبح مصدراً من مصادر التوجيه والخطاب والتأثير، بل ومصدراً لتوجيه الرأي العام، وقناةً من قنوات الاتصال الجماهيري.
والمفتي الذي يكشف عن رأيه وتقريبه لأحكام الشرع هو وريث نسبي لمقام النبي – صلى الله عليه وسلم - وهو وريث علم الشريعة ومبلغها, وبقدر ما يكون عنده من علم الشريعة وارتواؤه منها، وفقهه للناس ينال من هذه الوراثة العظيمة، يقول إمام الأنبياء صلى الله عليه وسلم: (إِنَّ الْعُلَمَاءَ وَرَثَةُ الأَنْبِيَاءِ وَإِنَّ الأَنْبِيَاءَ لَمْ يُوَرِّثُوا دِينَاراً وَلاَ دِرْهَماً، وإنما وَرَّثُوا الْعِلْمَ فَمَنْ أَخَذَهُ أَخَذَ بِحَظٍّ وَافِرٍ)، ويقول عليه الصلاة والسلام: (أَلاَ لِيُبَلِّغِ الشَّاهِدُ مِنْكُمُ الْغَائِبَ).
إن الحاجة لم تعد حاجة إلى من يحكم العبارة، ويجيد صياغة اللفظ فحسب، بل الأهم من يكشف دواخل الأشياء، وذلك هو فقيه النفس -كما يسميه الجويني والعز بن عبد السلام وغيرهما- الذي يفحص المقاصد العميقة للأشياء، والمعرفة الصادقة لفرز المسائل وتبيينها وتوضيحها، ومعرفة النصوص وفلسفتها واختلافاتها، وناسخها ومنسوخها، وذلك هو شرط العلم الذي تفرضه الشريعة على المفتي؛ قال الإمام الشافعي فيما رواه عنه الخطيب في كتاب الفقيه والمتفقه له: لَا يَحِلُّ لِأَحَدٍ أَنْ يُفْتِيَ فِي دِينِ اللَّهِ إلَّا رَجُلًا عَارِفًا بِكِتَابِ اللَّهِ بِنَاسِخِهِ وَمَنْسُوخِهِ، وَمُحْكَمِهِ وَمُتَشَابِهِهِ، وَتَأْوِيلِهِ وَتَنْزِيلِهِ، وَمَكِّيِّهِ وَمَدَنِيِّهِ، وَمَا أُرِيدَ بِهِ، وَيَكُونُ بَعْدَ ذَلِكَ بَصِيرًا بِحَدِيثِ رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم.
وقال الإمام أحمد: يَنْبَغِي لِلرَّجُلِ إذَا حَمَلَ نَفْسَهُ عَلَى الْفُتْيَا أَنْ يَكُونَ عَالِمًا بِالسُّنَنِ، عَالِمًا بِوُجُوهِ الْقُرْآنِ، عَالِمًا بِالْأَسَانِيدِ الصَّحِيحَةِ.
وسئل ابنِ الْمُبَارَكِ : مَتَى يُفْتِي الرَّجُلُ؟
قَالَ: إذَا كَانَ عَالِمًا بِالْأَثَرِ، بَصِيرًا بِالرَّأْيِ.
يُرِيد بِالرَّأْيِ الْقِيَاسَ الصَّحِيحَ وَالْمَعَانِيَ، وَالْعِلَلَ الصَّحِيحَةَ الَّتِي عَلَّقَ الشَّارِعُ بِهَا الْأَحْكَامَ وَجَعَلَهَا مُؤَثِّرَةً فِيهَا طَرْدًا وَعَكْسًا.
ثم يلزمه أن يكون رصين الفكر, جيد الملاحظة، ثاقب النظرة، متأنياً، متثبتاً فيما يقول.
قال النووي رحمه الله: يَحْرُمُ التَّسَاهُلُ فِي الْفَتْوَى، وَمَنْ عُرِفَ بِهِ حَرُمَ اسْتِفْتَاؤُهُ، فَمِنْ التَّسَاهُلِ: أَنْ لَا يَتَثَبَّتَ، وَيُسْرِعَ بِالْفَتْوَى قَبْلَ اسْتِيفَاءِ حَقِّهَا مِنْ النَّظَرِ وَالْفِكْرِ، فَإِنْ تَقَدَّمَتْ مَعْرِفَتُهُ بِالْمَسْئُولِ عَنْهُ فَلَا بَأْسَ بِالْمُبَادَرَةِ، وَعَلَى هَذَا يُحْمَلُ مَا نُقِلَ عَنْ الْمَاضِينَ مِنْ مُبَادَرَةٍ.
ثم ينبغي للمفتي أن يكون على معرفة بأحوال الناس, فطناً لطبائعهم وتصرفاتهم, وأن يدقق النظر في السؤال والسائل, فكثيراً ما يكون السؤال ليس على قدر السائل، أو مستواه العلمي، أو يكون من المعضلات، أو متشابه الآيات، فيقْدُر المفتي الأمورَ بقدرها، وتلك النظرة قدر عملي قد يدركه المفتي بالممارسة والملاحظة، كما يدرك الحكيم خبرته بالتجربة، ويدرك المتفرس فراسته بتملك الملكة، (والعلم بالتعلم، والحلم بالتحلّم)، كما في الأثر الذي رواه الخطيب البغدادي في تاريخه عن أبي الدرداء موقوفاً ومرفوعاً، وهو بالموقوف أشبه.
كما أن على المفتي أن يكون عارفاً بعادات الناس وأعرافهم، واختلاف ذلك من دولة لأخرى, فكثيراً ما يقع المفتي في خطأٍ في فتواه؛ لأن السائل يسأل عن شيء في بلده معروف بمسميات معينة, مختلفة عن بلد المفتي, فهو في وادٍ، والمفتي في واد آخر، وكانت معرفة العادات شرطاً مهماً للفقيه والمفتي؛ لأن معرفة العادة تساعد على فهم الفتوى للحكم عليه، والأصوليون يقولون: الحكم على الشيء فرع عن تصوره، وهذا التصور لا يحصل إلا بمعرفة العادات الشائعة بين الناس، والمهم أن يعرف العادة المؤثرة في الفتوى، أو المتعلقة بها؛ لأن بعض العادات تشكل شروطاً ضمنية، غير مذكورة في التعاملات الدنيوية - والتجارية بالخصوص - تؤثر على حقيقة الفتوى والحكم.
وينبغي للمفتي أن يقف على حقيقة الألفاظ من المستفتي, بحيث يكشف الواقع, فإن لم يصل المفتي إلى كشف الواقع فلا يحل له أن يفتيه، بل عليه أن يسأل، ويتثبت، ويتأنى.
ثم إن مراعاة الحكم الشرعي المتفق مع مقاصد الشريعة من أهم اعتناءات المفتي، قَالَ الشَّاطِبِيُّ: الْمُفْتِي الْبَالِغُ ذُرْوَةَ الدَّرَجَةِ هُوَ الَّذِي يَحْمِلُ النَّاسَ عَلَى الْوَسَطِ الْمَعْهُودِ فِيمَا يَلِيقُ بِالْجُمْهُورِ، فَلا يَذْهَبُ بِهِمْ مَذْهَبَ الشِّدَّةِ، وَلا يَمِيلُ بِهِمْ إلَى طَرَفِ الِانْحِلالِ، وَهَذَا هُوَ الصِّرَاطُ الْمُسْتَقِيمُ الَّذِي جَاءَتْ بِهِ الشَّرِيعَةُ، فَلا إفْرَاطَ وَلا تَفْرِيطَ، وَمَا خَرَجَ عَنْ الْوَسَطِ مَذْمُومٌ عِنْدَ الْعُلَمَاءِ الرَّاسِخِينَ.
وهذا المنهج الوسط هو شأن رسول الله - صلى الله عليه وسلم- في كل أموره وتوجيهاته, فإنه قال لمعاذ رضي الله عنه لما أطال بالناس: (يَا مُعَاذُ أَفَتَّانٌ أَنْتَ؟! - ثَلاَثاً -..)، (إِنَّ مِنْكُمْ مُنَفِّرِينَ، فَأَيُّكُمْ مَا صَلَّى بِالنَّاسِ فَلْيَتَجَوَّزْ، فَإِنَّ فِيهِمُ الضَّعِيفَ وَالْكَبِيرَ وَذَا الْحَاجَةِ)، وقال صلى الله عليه وسلم: (عَلَيْكُمْ مَا تُطِيقُونَ مِنَ الأَعْمَالِ ، فَإِنَّ اللَّهَ لاَ يَمَلُّ حَتَّى تَمَلُّوا).
والمقصود أن المفتي لم يعد يخاطب مجموعة في حلقة أو فصل أو مسجد، عرفهم وعرفوه، بل أصبح يخاطب عالماً مليئاً بالمتناقضات والمختلفات, بالموافق والمخالف, والمؤمن والكافر, والصادق والكاذب، والناصح والمغرض؛ فعليه أن يكون فقيهاً بمقاصد الشريعة, ومآلات الأحكام, مطلعاً على العلوم الحديثة، عارفاً بأحوال المجتمعات، فمعرفة مآلات الأشياء فقه عظيم يعين على بعد النظر، وهو نوع من مقاصد الشريعة التي اعتنت بها مآلات النصوص ولاحظتها بالاستقراء والتتبع.