مساء الخميس 25/10/1427هـ
رحل بهدوء كما عاش حياته منحازاً للعمل بهدوء.
في المرحلة الابتدائية أطل على عالمي بوجهه الجميل الصافي المعبر، وابتسامته الساحرة بدون تكلف، وقدرته على الامتزاج بجليسه، وعذوبة كلماته التي تتميز باللهجة الخاصة بـ"عيون الجواء" حيث وُلد ونشأ، فهو لا يشدد النون في "مِني" و "عني" وحين يسخر منه الأصحاب يسرع للاستشهاد بشعر العرب، وأبيات ابن عقيل:
أيها السائل عنهم وعَنِي لست من قيس، ولا قيس مِنِي
بتخفيف "عنّي" و "منّي".
أحببته روحاً طيبة لا تحمل للناس إلا الخير والصفاء، ولا وقت لديه للخصومات والشنآن!
سهرات ليلية طويلة حيث كان أعزب، يُذاكر دروسه ويتحدث ويضحك وينام في بيت الطين في "حي الهلال"، ويعيش أمامنا بخلقه الدمث، وقربه من ربه، دون تكلف ولا مبالغة.
حدثني عن قصيدة للأستاذ عصام العطار، وأمام إلحاحي الطفولي كتبها لي بخطه الجميل، وكأنها أمام عيني:
طال اغترابي، وما بَيْنِي بمقتضب *** والدهر قد جد في حربي وفي طلبي
والشوق في أضلعي نار تذوبني *** ما أفتك الشوق في أضلاع مغترب!
إني غريب غريب الروح منفرد *** إني غريب غريب الدار والنسب
ألقى الشدائد ليلي كله سهر *** وما نهاري سوى ليل بلا شهب
أكابد السقم في جسمي وفي ولدي *** وفي رفيقة درب هدها خببي!
ولعل هذه المعاناة هي التصوير المعبّر لمعاناة أبي محمد مع المرض طيلة أيامه الأخيرة!
وليد الأعظمي شاعر من العراق، يملك من العاطفة الإيمانية الصادقة أكثر مما يملك من الأداة اللغوية، وللسببين معاً كان ديوان "الزوابع" وديوان "أغاني المعركة" من أوسع الدواوين انتشاراً وتداولاً لدى شباب في المتوسطة والثانوية، ويكفي هذه الروح المتألقة التي تتغنى بأمجاد التاريخ، وتتطلع للمستقبل، وتتأوه من الحاضر.
إذا قامت الدنيا تعد مفاخراً *** فتاريخنا الوضّاح من بدر ابتدا
ويبقى صدى بدر يرن بأفقنا *** هتافاً على سمع الزمان مرددا
بلاد أعزتها سيوف محمدٍِ *** فما عذرها ألا تعز محمدا؟
ويكفي دليلاً على صدقها كثرة الأبيات المحذوفة والتي وضع تحتها: "حذفه الرقيب!".
والكلمات المسطورة على الغلاف الأخيرة والناطقة بمعاناة الشاعر أثناء سعيه في طباعة الديوان!
الأستاذ حمد الزيدان هو من وصلني بهذه المادة ونظيراتها من المنظوم والمنثور، وكان وجهه يبرق سروراً حين يسمعني أحفظها وأرددها، ويُسر أكثر حين يراني أحاول أن أقول الشعر.
تخرج من المعهد، والتحق بكلية الشريعة بالرياض، ولكن الإجازات كانت تجمعنا، ورسائله لا تنقطع، يبعث فيها بكل لذيذ طيب من الأخبار والأشعار، وربما هدايا الكتب، والمظروف دائماً متميز بكلمات الدعابة التي لا تفارقه حتى حين كتابة العنوان: " إلى السيد الأكرم .. ".
واقتبس صاحبنا منه هذه العبارة ليطرز بها مراسلاته، وإذ بأحد المتسرعين يأخذها عليه مستنكراً لفظ السيد، معتبراً أن "الأكرم" اسم من أسماء الله، لا يجوز إلا له. على حين كان فقه الشيخ حمد أن الأسماء الحسنى الواردة يجوز إطلاقها على المخلوقين إلا "الله" وإلا "الرحمن" كما قال سبحانه: " قُلِ ادْعُوا اللَّهَ أَوِ ادْعُوا الرَّحْمَنَ أَيّاً مَا تَدْعُوا فَلَهُ الْأَسْمَاءُ الْحُسْنَى"[الإسراء:10]، وقد سمى الله الإنسان سميعاً بصيراً، ووصف نبيه محمداً بأنه رؤوف رحيم ..
عُين الشيخ حمد بن محمد الزيدان مدرساً بالدمام، ثم مديراً لمكتب الدعوة، وطيلة الفترة كانت تجمعنا به في الرياض لقاءات منتظمة ومدارسات، وحب صادق لا ينقص مع البعد.
أيام الزواج كانت كلماته كأبٍ أو أخ كبير سبباً في تخفيف التوتر والخوف من المجهول: أبا معاذ - حتى قبل الزواج كانت الكنية، تيمناً بمعاذ بن جبل الصحابي الفقيه - من حكم الله وأسراره أن المرأة الأجنبية التي لا تعرفها من قبل خلال ساعات وجيزة تتحول إلى إنسان من أقرب الناس إليك، وكأنك تعرفه منذ بعيد!
ويتمشيخ الفتى، ويذهب إلى الدمام في سلسلة محاضرات، فيكون بيت الشيخ مأواه، ومكتبته محل خلوته وتحضيره، وقلبه قبل ذلك وبعده مسكن الصديق القديم!
حمد الزيدان من أصحاب النفوس الكبيرة، يراك تشرق فيشرق، ويفرح لتفوقك، ويسعد بإنجازك، وتبرق أساريره، وتنطق ملامحه، وتهتف عباراته.
ومن يُعايش الناس يجد هذا الصنف قليلاً، بل نادراً، وإنما هذا نتيجة صفاء القلب، وصدق النية، وسلامة الطوية.
وكثيرون قد يندفعون للتعويق، يُحفزهم على ذلك، فيما يظنون ويحسبون، روح الغيرة والتصحيح والتدين، والحق أن وراء ذلك معنى آخر من حظ النفس، والأنا المتضخمة، وإن لم يشعر بها صاحبها، وقد كان شداد بن أوس يحذر بقايا العرب من "الشهوة الخفية"، الخفية لأنها تتدثر بثوب الورع والدين والتقوى والحفاظ ولكنها شهوة؛ لأن حقيقتها لا تمت لذلك بصلة، ولكن ما الحيلة فيمن عيونه مفتوحة على الناس وكأنه قد أمن جانب نفسه فلا يوبخها ولا يراقبها ولا يلومها !
أتذكِّرُ "حمد الزيدان" فأذكر قول المتنبي:
وَحالاتُ الزَمانِ عَلَيكَ شَتّى وَحالُكَ واحِدٌ في كُلِّ حالِ
فقد عاش مثل كثيرين في أجواء حركية إسلامية، وشهد أحداثاً جساماً، من حادثة الحرم إلى غزو العراق للكويت، إلى حرب العراق وإيران، إلى حرب العراق الثالثة، وأحداثاً دون ذلك من تحولات وإشكالات خاصة، وفي كلها كان حمد هو حمد، لا ينفعل ولا يغضب ولا يتعصب ولا يتحمس لمواقف خاصة، وإنما همه صفاء النفوس وزوال الأحقاد وتقريب المواقف، وها هو قد قدم إلى ربه، وما أظن أن أحداً يحفظ عنه كلمة في حق أحد إلا بخير، ولعل من الوفاء لتلك الروح الطيبة والنفس الرضية أن نجدد العهد بتلك المعاني الإيمانية "أُولَئِكَ الَّذِينَ هَدَى اللَّهُ فَبِهُدَاهُمُ اقْتَدِهْ[الأنعام: من الآية90].
رحم الله حمد الزيدان، والسلام عليه يوم ولد ويوم يموت ويوم يبعث حيا.
رحل بهدوء كما عاش حياته منحازاً للعمل بهدوء.
في المرحلة الابتدائية أطل على عالمي بوجهه الجميل الصافي المعبر، وابتسامته الساحرة بدون تكلف، وقدرته على الامتزاج بجليسه، وعذوبة كلماته التي تتميز باللهجة الخاصة بـ"عيون الجواء" حيث وُلد ونشأ، فهو لا يشدد النون في "مِني" و "عني" وحين يسخر منه الأصحاب يسرع للاستشهاد بشعر العرب، وأبيات ابن عقيل:
أيها السائل عنهم وعَنِي لست من قيس، ولا قيس مِنِي
بتخفيف "عنّي" و "منّي".
أحببته روحاً طيبة لا تحمل للناس إلا الخير والصفاء، ولا وقت لديه للخصومات والشنآن!
سهرات ليلية طويلة حيث كان أعزب، يُذاكر دروسه ويتحدث ويضحك وينام في بيت الطين في "حي الهلال"، ويعيش أمامنا بخلقه الدمث، وقربه من ربه، دون تكلف ولا مبالغة.
حدثني عن قصيدة للأستاذ عصام العطار، وأمام إلحاحي الطفولي كتبها لي بخطه الجميل، وكأنها أمام عيني:
طال اغترابي، وما بَيْنِي بمقتضب *** والدهر قد جد في حربي وفي طلبي
والشوق في أضلعي نار تذوبني *** ما أفتك الشوق في أضلاع مغترب!
إني غريب غريب الروح منفرد *** إني غريب غريب الدار والنسب
ألقى الشدائد ليلي كله سهر *** وما نهاري سوى ليل بلا شهب
أكابد السقم في جسمي وفي ولدي *** وفي رفيقة درب هدها خببي!
ولعل هذه المعاناة هي التصوير المعبّر لمعاناة أبي محمد مع المرض طيلة أيامه الأخيرة!
وليد الأعظمي شاعر من العراق، يملك من العاطفة الإيمانية الصادقة أكثر مما يملك من الأداة اللغوية، وللسببين معاً كان ديوان "الزوابع" وديوان "أغاني المعركة" من أوسع الدواوين انتشاراً وتداولاً لدى شباب في المتوسطة والثانوية، ويكفي هذه الروح المتألقة التي تتغنى بأمجاد التاريخ، وتتطلع للمستقبل، وتتأوه من الحاضر.
إذا قامت الدنيا تعد مفاخراً *** فتاريخنا الوضّاح من بدر ابتدا
ويبقى صدى بدر يرن بأفقنا *** هتافاً على سمع الزمان مرددا
بلاد أعزتها سيوف محمدٍِ *** فما عذرها ألا تعز محمدا؟
ويكفي دليلاً على صدقها كثرة الأبيات المحذوفة والتي وضع تحتها: "حذفه الرقيب!".
والكلمات المسطورة على الغلاف الأخيرة والناطقة بمعاناة الشاعر أثناء سعيه في طباعة الديوان!
الأستاذ حمد الزيدان هو من وصلني بهذه المادة ونظيراتها من المنظوم والمنثور، وكان وجهه يبرق سروراً حين يسمعني أحفظها وأرددها، ويُسر أكثر حين يراني أحاول أن أقول الشعر.
تخرج من المعهد، والتحق بكلية الشريعة بالرياض، ولكن الإجازات كانت تجمعنا، ورسائله لا تنقطع، يبعث فيها بكل لذيذ طيب من الأخبار والأشعار، وربما هدايا الكتب، والمظروف دائماً متميز بكلمات الدعابة التي لا تفارقه حتى حين كتابة العنوان: " إلى السيد الأكرم .. ".
واقتبس صاحبنا منه هذه العبارة ليطرز بها مراسلاته، وإذ بأحد المتسرعين يأخذها عليه مستنكراً لفظ السيد، معتبراً أن "الأكرم" اسم من أسماء الله، لا يجوز إلا له. على حين كان فقه الشيخ حمد أن الأسماء الحسنى الواردة يجوز إطلاقها على المخلوقين إلا "الله" وإلا "الرحمن" كما قال سبحانه: " قُلِ ادْعُوا اللَّهَ أَوِ ادْعُوا الرَّحْمَنَ أَيّاً مَا تَدْعُوا فَلَهُ الْأَسْمَاءُ الْحُسْنَى"[الإسراء:10]، وقد سمى الله الإنسان سميعاً بصيراً، ووصف نبيه محمداً بأنه رؤوف رحيم ..
عُين الشيخ حمد بن محمد الزيدان مدرساً بالدمام، ثم مديراً لمكتب الدعوة، وطيلة الفترة كانت تجمعنا به في الرياض لقاءات منتظمة ومدارسات، وحب صادق لا ينقص مع البعد.
أيام الزواج كانت كلماته كأبٍ أو أخ كبير سبباً في تخفيف التوتر والخوف من المجهول: أبا معاذ - حتى قبل الزواج كانت الكنية، تيمناً بمعاذ بن جبل الصحابي الفقيه - من حكم الله وأسراره أن المرأة الأجنبية التي لا تعرفها من قبل خلال ساعات وجيزة تتحول إلى إنسان من أقرب الناس إليك، وكأنك تعرفه منذ بعيد!
ويتمشيخ الفتى، ويذهب إلى الدمام في سلسلة محاضرات، فيكون بيت الشيخ مأواه، ومكتبته محل خلوته وتحضيره، وقلبه قبل ذلك وبعده مسكن الصديق القديم!
حمد الزيدان من أصحاب النفوس الكبيرة، يراك تشرق فيشرق، ويفرح لتفوقك، ويسعد بإنجازك، وتبرق أساريره، وتنطق ملامحه، وتهتف عباراته.
ومن يُعايش الناس يجد هذا الصنف قليلاً، بل نادراً، وإنما هذا نتيجة صفاء القلب، وصدق النية، وسلامة الطوية.
وكثيرون قد يندفعون للتعويق، يُحفزهم على ذلك، فيما يظنون ويحسبون، روح الغيرة والتصحيح والتدين، والحق أن وراء ذلك معنى آخر من حظ النفس، والأنا المتضخمة، وإن لم يشعر بها صاحبها، وقد كان شداد بن أوس يحذر بقايا العرب من "الشهوة الخفية"، الخفية لأنها تتدثر بثوب الورع والدين والتقوى والحفاظ ولكنها شهوة؛ لأن حقيقتها لا تمت لذلك بصلة، ولكن ما الحيلة فيمن عيونه مفتوحة على الناس وكأنه قد أمن جانب نفسه فلا يوبخها ولا يراقبها ولا يلومها !
أتذكِّرُ "حمد الزيدان" فأذكر قول المتنبي:
وَحالاتُ الزَمانِ عَلَيكَ شَتّى وَحالُكَ واحِدٌ في كُلِّ حالِ
فقد عاش مثل كثيرين في أجواء حركية إسلامية، وشهد أحداثاً جساماً، من حادثة الحرم إلى غزو العراق للكويت، إلى حرب العراق وإيران، إلى حرب العراق الثالثة، وأحداثاً دون ذلك من تحولات وإشكالات خاصة، وفي كلها كان حمد هو حمد، لا ينفعل ولا يغضب ولا يتعصب ولا يتحمس لمواقف خاصة، وإنما همه صفاء النفوس وزوال الأحقاد وتقريب المواقف، وها هو قد قدم إلى ربه، وما أظن أن أحداً يحفظ عنه كلمة في حق أحد إلا بخير، ولعل من الوفاء لتلك الروح الطيبة والنفس الرضية أن نجدد العهد بتلك المعاني الإيمانية "أُولَئِكَ الَّذِينَ هَدَى اللَّهُ فَبِهُدَاهُمُ اقْتَدِهْ[الأنعام: من الآية90].
رحم الله حمد الزيدان، والسلام عليه يوم ولد ويوم يموت ويوم يبعث حيا.