مما أعرف أن الشيخ عبد الرحمن السعدي -رحمه الله- كان يعقد جلسة فقهية دورية لطلابه يجعل لبعضهم رأياً وللآخرين رأياً مختلفاً، ويجعلهم يتحاورون فيما بينهم؛ ليدربهم على أصول الحوار، وفتح باب الجدل العلمي الموضوعي، واحترام الرأي الآخر؛ حتى أصدر ثمرة لذلك كتابه: المناظرات الفقهية.
وإننا اليوم في حاجة ماسة للتدرب على الحوار وآدابه، الذي يعبر عن قيمة التواصل مع النفس أولاً، والآخرين ثانياً، فالتواصل بين الإنسان وذاته يمر عبر نقدها وتقويمها ونهيها عن الهوى، يقول الله تعالى: "فأما من خاف مقام ربه ونهى النفس عن الهوى فإن الجنة هي المأوى"، ويقول: "ولا أقسم بالنفس اللوامة"، فالذي يأمر نفسه وينهاها ويعلمها ويطورها ويلومها هو المؤمن الرشيد، ولذلك كان عبد الله بن رواحة يخاطب نفسه في ميدان المعركة ويشجعها قائلا:
يا نفس إلا تقتلي تموتي *** هذا حمام الموت قد صليتي
وما تمنيتي فقد أعطيتي *** إن تفعلي فعلهما هديتي
وإن تأخرتي فـقـد شـقـيتي
فأرقى دوائر الحوار وأعظمها هو الحوار مع النفس، وأرى أن جملة كبيرة من الناس يفتقدون هذا اللون من الحوار، بل لا يدركون أنه جزء من الحوار.
لا بد أن يتعود الناس ويتدربوا على الكلام، فلا فائدة من أن نجلس صامتين كالقبور،
أو نائمين كالموتى، ينبغي أن تكون هناك لغة حوار راقية تدار بين الصغار والكبار، بين الزوجين وأفراد الأسرة، بين أطياف المجتمع، بين تياراته، حتى ولو كانت في قضايا صغيرة أو ثانوية.
وكل مجتمع حديث يحتاج إلى حوار اجتماعي جاد يعالج مشكلاته ويبحثها، ويديرها على طاولة التشاور والحوار، ويحتاج إلى حوار فكري علمي يبحث في الموضوع ويتجاوز الأشخاص والأفراد، وإلى حوار سياسي هادئ، فمن خلال الحوار نستطيع مقاربة الرأي الأفضل، فالحوار هو لغة العالم اليوم، لغة الإعلام العالمي والسياسة العالمية، فتجد حوار الثقافات وحوار الحضارات، وحوار المذاهب، ولهذا تعقد مؤتمرات، ويحضر الناس فيها للتحاور في قضايا يتفقون في بعضها، ويختلفون في بعضها الآخر؛ لإيجاد جزء مشترك يتعاونون على العمل من أجله وإقامته.
وواقعنا المعاصر يشتكي من جملة من المشكلات الحوارية: هناك مشكلة في الاستماع فنحن العرب نميل إلى الحديث أكثر من الاستماع، فأحدنا يتحدث والآخر لا يسمع لهذا المتحدث بل ينتظر دوره في الحديث!، وهناك مشكلة في الفهم وشاعرنا العربي يقول:
أقول له: عمرا فيسمعه سعدا *** ويكتبه حمدا وينطقه زيدا!
وهناك مشكلة في النقل والتثبت، وربنا سبحانه يقول: "يا أيها الذين آمنوا إن جاءكم فاسق بنبأ فتبينوا"، وفي قراءة "فتثبتوا"، وفي صحيح مسلم يقول النبي صلى الله عليه وسلم: (كفى بالمرء كذبا أن يحدث بكل ما سمع).
وهناك مشكلة أخلاقية وأزمة عامة تتعلق بتعمد التشويه والإيذاء والتزوير والكذب، وإن الذين يديرون الحوارات سواء كانوا من الأطراف الإسلامية أو غيرها يعانون مشكلة كبيرة في إدارة الحوار، سواء في الجوانب الإجرائية، أو الموضوعية، وإذا كانت قضية الإسلام عادلة - وهذا ما يؤمن به المسلمون جميعاً - فمن حق هذه القضية العادلة أن يكون لها محامٍ ناضج وناجح، ومتحدث رشيد، ومن هنا أؤكد على أهمية الحوار وضبطه، وإعداد المحاورين وتدريبهم بشكل علمي وأخلاقي ومعرفي لائق.
إن الحوار -بداهة- دليل على وجود التنوع والاعتراف به وبحقه، فالحوار يعني أننا نختلف، والإيمان بوجود التنوع والاختلاف لا يعني أبداً الإيمان بكل ما يقوله هذا المختلف، فالحوار حول الخطأ لا يعني الاعتراف بهذا الخطأ كقيمة، بل الاعتراف بوجوده وأهمية البحث حوله، وكثيرون لا يفهمون من حوار الأديان -مثلاً- إلا أنه نوع من التقريب العقدي بينها، بمعنى أن يتخلى هذا عن بعض عقيدته والآخر كذلك؛ ليلتقيان في نصف الطريق بنصف عقيدة!، بينما الحوار هو البحث في تعزيز القضايا المشتركة ودعمها، كالحملة على الفساد والدفاع عن الحقوق الإنسانية، ولا شك أن الدين الإسلامي يرحب بمثل هذه العلاقات واللقاءات التي تدفع بالحق الإسلامي والوجود المسلم إلى حياة أفضل، ورسولنا صلى الله عليه وسلم تحدث عن حلف الفضول الذي يعني نوعاً من التعاون المشترك وقال: (لو دعيت له في الإسلام لأجبت).
وهذا الحوار العالمي يعني إدراك للغة العالمية التي يتحدث بها للتواصل معها، وبث أدبيات الإسلام وأخلاقياته ومبادئه من خلالها.
وإن بعض الذين يشغبون على قيمة الحوار يعارضون بما ورد عن بعض السلف أنهم كانوا ينهون عن مجادلة أهل الباطل، فأقول بأن هذا المذهب الذي كان عليه بعض السلف هو صالح في وقته، فهم يرون عدم الحاجة لذلك بسبب غلبة الحق وظهوره، وأن هناك بعض الآراء المهجورة التي لو حاورناها وجادلناها لأسهم ذلك في تقويتها وإشهارها، والمهم أن الأصل في ذلك ما ورد في القرآن الكريم والسنة النبوية من أهمية الحوار وفريضته، يقول الله تعالى عن أهل الكتاب: "وجادلهم بالتي هي أحسن".
وإننا اليوم في حاجة ماسة للتدرب على الحوار وآدابه، الذي يعبر عن قيمة التواصل مع النفس أولاً، والآخرين ثانياً، فالتواصل بين الإنسان وذاته يمر عبر نقدها وتقويمها ونهيها عن الهوى، يقول الله تعالى: "فأما من خاف مقام ربه ونهى النفس عن الهوى فإن الجنة هي المأوى"، ويقول: "ولا أقسم بالنفس اللوامة"، فالذي يأمر نفسه وينهاها ويعلمها ويطورها ويلومها هو المؤمن الرشيد، ولذلك كان عبد الله بن رواحة يخاطب نفسه في ميدان المعركة ويشجعها قائلا:
يا نفس إلا تقتلي تموتي *** هذا حمام الموت قد صليتي
وما تمنيتي فقد أعطيتي *** إن تفعلي فعلهما هديتي
وإن تأخرتي فـقـد شـقـيتي
فأرقى دوائر الحوار وأعظمها هو الحوار مع النفس، وأرى أن جملة كبيرة من الناس يفتقدون هذا اللون من الحوار، بل لا يدركون أنه جزء من الحوار.
لا بد أن يتعود الناس ويتدربوا على الكلام، فلا فائدة من أن نجلس صامتين كالقبور،
أو نائمين كالموتى، ينبغي أن تكون هناك لغة حوار راقية تدار بين الصغار والكبار، بين الزوجين وأفراد الأسرة، بين أطياف المجتمع، بين تياراته، حتى ولو كانت في قضايا صغيرة أو ثانوية.
وكل مجتمع حديث يحتاج إلى حوار اجتماعي جاد يعالج مشكلاته ويبحثها، ويديرها على طاولة التشاور والحوار، ويحتاج إلى حوار فكري علمي يبحث في الموضوع ويتجاوز الأشخاص والأفراد، وإلى حوار سياسي هادئ، فمن خلال الحوار نستطيع مقاربة الرأي الأفضل، فالحوار هو لغة العالم اليوم، لغة الإعلام العالمي والسياسة العالمية، فتجد حوار الثقافات وحوار الحضارات، وحوار المذاهب، ولهذا تعقد مؤتمرات، ويحضر الناس فيها للتحاور في قضايا يتفقون في بعضها، ويختلفون في بعضها الآخر؛ لإيجاد جزء مشترك يتعاونون على العمل من أجله وإقامته.
وواقعنا المعاصر يشتكي من جملة من المشكلات الحوارية: هناك مشكلة في الاستماع فنحن العرب نميل إلى الحديث أكثر من الاستماع، فأحدنا يتحدث والآخر لا يسمع لهذا المتحدث بل ينتظر دوره في الحديث!، وهناك مشكلة في الفهم وشاعرنا العربي يقول:
أقول له: عمرا فيسمعه سعدا *** ويكتبه حمدا وينطقه زيدا!
وهناك مشكلة في النقل والتثبت، وربنا سبحانه يقول: "يا أيها الذين آمنوا إن جاءكم فاسق بنبأ فتبينوا"، وفي قراءة "فتثبتوا"، وفي صحيح مسلم يقول النبي صلى الله عليه وسلم: (كفى بالمرء كذبا أن يحدث بكل ما سمع).
وهناك مشكلة أخلاقية وأزمة عامة تتعلق بتعمد التشويه والإيذاء والتزوير والكذب، وإن الذين يديرون الحوارات سواء كانوا من الأطراف الإسلامية أو غيرها يعانون مشكلة كبيرة في إدارة الحوار، سواء في الجوانب الإجرائية، أو الموضوعية، وإذا كانت قضية الإسلام عادلة - وهذا ما يؤمن به المسلمون جميعاً - فمن حق هذه القضية العادلة أن يكون لها محامٍ ناضج وناجح، ومتحدث رشيد، ومن هنا أؤكد على أهمية الحوار وضبطه، وإعداد المحاورين وتدريبهم بشكل علمي وأخلاقي ومعرفي لائق.
إن الحوار -بداهة- دليل على وجود التنوع والاعتراف به وبحقه، فالحوار يعني أننا نختلف، والإيمان بوجود التنوع والاختلاف لا يعني أبداً الإيمان بكل ما يقوله هذا المختلف، فالحوار حول الخطأ لا يعني الاعتراف بهذا الخطأ كقيمة، بل الاعتراف بوجوده وأهمية البحث حوله، وكثيرون لا يفهمون من حوار الأديان -مثلاً- إلا أنه نوع من التقريب العقدي بينها، بمعنى أن يتخلى هذا عن بعض عقيدته والآخر كذلك؛ ليلتقيان في نصف الطريق بنصف عقيدة!، بينما الحوار هو البحث في تعزيز القضايا المشتركة ودعمها، كالحملة على الفساد والدفاع عن الحقوق الإنسانية، ولا شك أن الدين الإسلامي يرحب بمثل هذه العلاقات واللقاءات التي تدفع بالحق الإسلامي والوجود المسلم إلى حياة أفضل، ورسولنا صلى الله عليه وسلم تحدث عن حلف الفضول الذي يعني نوعاً من التعاون المشترك وقال: (لو دعيت له في الإسلام لأجبت).
وهذا الحوار العالمي يعني إدراك للغة العالمية التي يتحدث بها للتواصل معها، وبث أدبيات الإسلام وأخلاقياته ومبادئه من خلالها.
وإن بعض الذين يشغبون على قيمة الحوار يعارضون بما ورد عن بعض السلف أنهم كانوا ينهون عن مجادلة أهل الباطل، فأقول بأن هذا المذهب الذي كان عليه بعض السلف هو صالح في وقته، فهم يرون عدم الحاجة لذلك بسبب غلبة الحق وظهوره، وأن هناك بعض الآراء المهجورة التي لو حاورناها وجادلناها لأسهم ذلك في تقويتها وإشهارها، والمهم أن الأصل في ذلك ما ورد في القرآن الكريم والسنة النبوية من أهمية الحوار وفريضته، يقول الله تعالى عن أهل الكتاب: "وجادلهم بالتي هي أحسن".