لعل من إشكاليات العالم الإسلامي أن يدركه هذا العصر الذي تجتهد فيه الأمم والدول الكبرى وتتواضع على عدد من أشكال الاتفاق والتجمع في تحالفات سياسية وتكتلات اقتصادية كبرى أنتجت شركات تعبر القارات، ومنظمات تخترق الجغرافيا والحدود، والعالم الإسلامي يعيش أسوأ حالاته، وأشدها انقساماً وتفرقاً، وكلما رزقت أمم الغرب سبباً للاتفاق والائتلاف رزئت أمة الإسلام أسباباً للتفرق والاختلاف، وكلما استردت الأمم سباياها عرضت أمة الإسلام سباياها للغاصبين!:
قد استرد السبايا كل منهزم *** لم تبق في أسرها إلا سبايانا
وما رأيت سياط الظلم دامية *** إلا رأيت عليها لحم أسرانا
ولم يبق في "العالم الإسلامي" من يلم هذا الشتات والتفرق عبر الآليات والأهداف والبرامج إلا قليل ممن رحم الله، وليست المشكلة في وجود الاختلاف، بل في توجيه ذلك الاختلاف وتفعيله، وجعله عنصراً من عناصر التفرق، بدل أن نجعله سبباً من أسباب التعددية الصحية الطبيعية، فكل مجموعة مستمسكة بنظرياتها وآرائها واجتهاداتها، ومن حق الجميع أن يكون له كل هذا، وأن يتحدث ويعبر عنه، إنما ليس من حق أحد أن يحاكم البقية إلى مقرراته وآرائه الخاصة وبرامجه.
وعندما تنظر إلى الأمم الغربية كأمريكا وفرنسا تجد داخل تلك الحدود خلافات هائلة وفروقات فلكية، ولكنها استطاعت أن توظف تلك الخلافات لإنشاء تعددية صحية تساعد على وحدتها وقوتها، حتى في إسرائيل ذلك العدو المتاخم القريب، فيه: اليمين المعتدل، واليمين المتطرف، واليسار، والقصور والحمائم والأحزاب المختلفة التي تجتمع كلها في "الكنيست" وتوظف تلك الخلافات لمصلحة حاضر هذا الكيان الصهيوني ومستقبله، بينما في العالم الإسلامي اختلاف مَرَضي في السياسة والعلم وكل شيء، حتى عند رجل الشارع العادي فلن تجده أحسن حالا!
إن أصل الاختلاف الفكري والعلمي والسياسي طبيعي بل ضروري، وحق مشروع ما دام للإنسان عقل وتفكير، وما دام يقدر على التعبير عن رأيه وفكره، فالبشر فيهم من الاختلاف والتنوع والتعدد ما جعله الله قانوناً للحياة وعلامة على قيامها ووجودها، فلقد خلق الله من كل شيء مقابلاً له يختلف عنه ليكمل به نقصه ويعينه على نوائب الحق والدهر.
يقول سبحانه وتعالى: "ومن كل شيء خلقنا زوجين"، ولهذا كان سر الله سبحانه وتعالى في الحياة والخلق وجود هذا التنوع الذي جعله في الحياة قدراً، وكتبه في الدين شرعاً، فالناس يختلفون، "ولا يزالون مختلفين إلا من رحم ربك ولذلك خلقهم"، وحتى اختلاف الطباع والألسن والألوان، "واختلاف ألسنتكم وألوانكم"، والحياة بدون اختلاف رتيبة مملة, وتخيل أن كل شيء في الحياة مثل بعضه: أشكال الناس وقاماتهم، كلماتهم، لباسهم، حركاتهم وتصرفاتهم، الطرق والبيوت والأشجار والأحجار، كلها لو كانت نمطاً واحداً لكانت مكرورة مكروهة: " قل أرأيتم إن جعل الله عليكم الليل سرمدا إلي يوم القيامة من إله غير الله يأتيكم بضياء أفلا تسمعون. قل أرأيتم إن جعل الله عليكم النهار سرمدا إلي يوم القيامة من إله غير الله يأتيكم بليل تسكنون فيه أفلا تبصرون. ومن رحمته جعل لكم الليل والنهار لتسكنوا فيه ولتبتغوا من فضله ولعلكم تشكرون."[القصص:71 ـ73].
فاختلاف الليل والنهار وتصريف الرياح وتداول الأيام من آيات الله العظيمة على بديع صنعه وشاهدة على قانون الحياة وسنتها الجارية، أما البشر فإن اختلافهم طبيعة، وفوق ذلك كله في الفقه الإسلامي والفكر حق مشروع مصون، ورأي محترم , لدعم التغير الإيجابي والتغيير الإصلاحي نحو الأفضل , ومحمد صلى الله عليه وسلم يقول: (إني والله إن شاء الله لا أحلف على شيء فأرى غيرها خيرا منها إلا كفرت عن يميني وأتيت الذي هو خير) رواه البخاري ومسلم، وجاء في منثور الحكم: الذين لا يغيرون آراءهم اثنان: الميت والجاهل. والعقاد يقول:
ففي كل يوم يولد المرء ذو الحجا *** وفي كل يوم ذو الجهالة يلحد
ولقد وجد الاختلاف حتى عند الملائكة - في قصة قاتل المائة نفس الذي اختلفت فيه ملائكة الرحمة وملائكة العذاب- كما في الصحيحين، والأنبياء عليهم السلام اختلفوا، فاختلف موسى مع هارون، وموسى والخضر، وموسى ومحمد صلى الله عليهم وسلم، وقال لوط عن قومه: "أو آوي إلى ركن شديد" فقال محمد صلى الله عليه وسلم: (رحم الله لوطاً لقد كان يأوي إلى ركن شديد)، واختلف أبو بكر وعمر أمام النبي صلى الله عليه وسلم، واختلف الصحابة في تأويل أمر النبي صلى الله عليه وسلم: (لا يصلين أحدكم العصر إلا في بني قريظة) أخرجه البخاري ومسلم.
فالاختلاف الفكري والمذهبي والفقهي تفرزه اختلاف النفسيات والطبائع، واختلاف الأفهام، واختلاف العقول، واختلاف الأهواء والمشارب، واختلاف الثقافات والخلفيات، واختلاف البيئات واختلاف العصور والزمان والمكان، وكل ذلك طبيعي إيجابي يوسع أفق الفكر ويفتح المجال الرحب الخصيب للحوار والجدال الأخلاقي العال، ولذلك لما جاء رجل إلى الإمام أحمد بكتاب له يريد أن يسميه كتاب الاختلاف قال له الإمام أحمد: سمه كتاب: "السعة"؛ لأن هذا الخلاف يوسع مجال الترجيح، ويوسع على الناس وينقذهم من مثالب الرأي الواحد.
إن هذا الاختلاف ينبغي أن يكون أخلاقياً ما دام طبيعياً، وأن نتعامل معه بعقلانية وذكاء لتوظيفه واستغلاله في التوسعة على الناس، لا للتضييق عليهم وحصارهم، فأخلاقيات الاختلاف تفرض نقداً عادلاً يتجه للأفكار لا للأشخاص، وتحريراً موضوعياً لمحل النـزاع -كما يسميه الفقهاء- وتحريراً لأسبابه، وتجنب لغة الحسم والقطعية وابتعاداً عن الاتهام والخصام، وخضوعاً للدليل وركوناً للمحكمات الشرعية والثوابت الدينية القائمة.
إن علينا القبول بهذا التنوع والتعامل معه، بل والتفاعل معه في التعاون على القدر المشترك والمتفق عليه وتفعيل دائرته، ووضع الخلاف في حجمه الطبيعي، وعدم الخوف منه أو محاربته، وحسن الاستماع وحسن الفهم للآخرين واستخدام الحجة والإقناع لا السباب والصخب والضجيج، وبعد كل ذلك محاولة التعايش والاتفاق على مصالح الدنيا، حتى مع من نختلف معهم بشكل جوهري، فلقد قال النبي صلى الله عليه وسلم عن حلف الفضول: (لو دعيت إليه اليوم لأجبت).
إننا حين نفسح لكل الأصوات أن تتحدث ولكل الأنواع أن تتنفس فسوف تطرد العملة الصحيحة كل عملة مزيفة، وسوف تبقى أجواء الاقتراب والألفة ترسل ظلالها للجميع، وسوف يكون ذلك خيراً لنا جميعاً، فإننا حين نخنق أصوات الآخرين فسوف نختنق بهم, والسفينة حين تغرق لا تستثني أحداً، فعلى العقلاء وأصحاب الرأي أن يتقوا فتنة لا تصيبن الذين ظلموا خاصة.
قد استرد السبايا كل منهزم *** لم تبق في أسرها إلا سبايانا
وما رأيت سياط الظلم دامية *** إلا رأيت عليها لحم أسرانا
ولم يبق في "العالم الإسلامي" من يلم هذا الشتات والتفرق عبر الآليات والأهداف والبرامج إلا قليل ممن رحم الله، وليست المشكلة في وجود الاختلاف، بل في توجيه ذلك الاختلاف وتفعيله، وجعله عنصراً من عناصر التفرق، بدل أن نجعله سبباً من أسباب التعددية الصحية الطبيعية، فكل مجموعة مستمسكة بنظرياتها وآرائها واجتهاداتها، ومن حق الجميع أن يكون له كل هذا، وأن يتحدث ويعبر عنه، إنما ليس من حق أحد أن يحاكم البقية إلى مقرراته وآرائه الخاصة وبرامجه.
وعندما تنظر إلى الأمم الغربية كأمريكا وفرنسا تجد داخل تلك الحدود خلافات هائلة وفروقات فلكية، ولكنها استطاعت أن توظف تلك الخلافات لإنشاء تعددية صحية تساعد على وحدتها وقوتها، حتى في إسرائيل ذلك العدو المتاخم القريب، فيه: اليمين المعتدل، واليمين المتطرف، واليسار، والقصور والحمائم والأحزاب المختلفة التي تجتمع كلها في "الكنيست" وتوظف تلك الخلافات لمصلحة حاضر هذا الكيان الصهيوني ومستقبله، بينما في العالم الإسلامي اختلاف مَرَضي في السياسة والعلم وكل شيء، حتى عند رجل الشارع العادي فلن تجده أحسن حالا!
إن أصل الاختلاف الفكري والعلمي والسياسي طبيعي بل ضروري، وحق مشروع ما دام للإنسان عقل وتفكير، وما دام يقدر على التعبير عن رأيه وفكره، فالبشر فيهم من الاختلاف والتنوع والتعدد ما جعله الله قانوناً للحياة وعلامة على قيامها ووجودها، فلقد خلق الله من كل شيء مقابلاً له يختلف عنه ليكمل به نقصه ويعينه على نوائب الحق والدهر.
يقول سبحانه وتعالى: "ومن كل شيء خلقنا زوجين"، ولهذا كان سر الله سبحانه وتعالى في الحياة والخلق وجود هذا التنوع الذي جعله في الحياة قدراً، وكتبه في الدين شرعاً، فالناس يختلفون، "ولا يزالون مختلفين إلا من رحم ربك ولذلك خلقهم"، وحتى اختلاف الطباع والألسن والألوان، "واختلاف ألسنتكم وألوانكم"، والحياة بدون اختلاف رتيبة مملة, وتخيل أن كل شيء في الحياة مثل بعضه: أشكال الناس وقاماتهم، كلماتهم، لباسهم، حركاتهم وتصرفاتهم، الطرق والبيوت والأشجار والأحجار، كلها لو كانت نمطاً واحداً لكانت مكرورة مكروهة: " قل أرأيتم إن جعل الله عليكم الليل سرمدا إلي يوم القيامة من إله غير الله يأتيكم بضياء أفلا تسمعون. قل أرأيتم إن جعل الله عليكم النهار سرمدا إلي يوم القيامة من إله غير الله يأتيكم بليل تسكنون فيه أفلا تبصرون. ومن رحمته جعل لكم الليل والنهار لتسكنوا فيه ولتبتغوا من فضله ولعلكم تشكرون."[القصص:71 ـ73].
فاختلاف الليل والنهار وتصريف الرياح وتداول الأيام من آيات الله العظيمة على بديع صنعه وشاهدة على قانون الحياة وسنتها الجارية، أما البشر فإن اختلافهم طبيعة، وفوق ذلك كله في الفقه الإسلامي والفكر حق مشروع مصون، ورأي محترم , لدعم التغير الإيجابي والتغيير الإصلاحي نحو الأفضل , ومحمد صلى الله عليه وسلم يقول: (إني والله إن شاء الله لا أحلف على شيء فأرى غيرها خيرا منها إلا كفرت عن يميني وأتيت الذي هو خير) رواه البخاري ومسلم، وجاء في منثور الحكم: الذين لا يغيرون آراءهم اثنان: الميت والجاهل. والعقاد يقول:
ففي كل يوم يولد المرء ذو الحجا *** وفي كل يوم ذو الجهالة يلحد
ولقد وجد الاختلاف حتى عند الملائكة - في قصة قاتل المائة نفس الذي اختلفت فيه ملائكة الرحمة وملائكة العذاب- كما في الصحيحين، والأنبياء عليهم السلام اختلفوا، فاختلف موسى مع هارون، وموسى والخضر، وموسى ومحمد صلى الله عليهم وسلم، وقال لوط عن قومه: "أو آوي إلى ركن شديد" فقال محمد صلى الله عليه وسلم: (رحم الله لوطاً لقد كان يأوي إلى ركن شديد)، واختلف أبو بكر وعمر أمام النبي صلى الله عليه وسلم، واختلف الصحابة في تأويل أمر النبي صلى الله عليه وسلم: (لا يصلين أحدكم العصر إلا في بني قريظة) أخرجه البخاري ومسلم.
فالاختلاف الفكري والمذهبي والفقهي تفرزه اختلاف النفسيات والطبائع، واختلاف الأفهام، واختلاف العقول، واختلاف الأهواء والمشارب، واختلاف الثقافات والخلفيات، واختلاف البيئات واختلاف العصور والزمان والمكان، وكل ذلك طبيعي إيجابي يوسع أفق الفكر ويفتح المجال الرحب الخصيب للحوار والجدال الأخلاقي العال، ولذلك لما جاء رجل إلى الإمام أحمد بكتاب له يريد أن يسميه كتاب الاختلاف قال له الإمام أحمد: سمه كتاب: "السعة"؛ لأن هذا الخلاف يوسع مجال الترجيح، ويوسع على الناس وينقذهم من مثالب الرأي الواحد.
إن هذا الاختلاف ينبغي أن يكون أخلاقياً ما دام طبيعياً، وأن نتعامل معه بعقلانية وذكاء لتوظيفه واستغلاله في التوسعة على الناس، لا للتضييق عليهم وحصارهم، فأخلاقيات الاختلاف تفرض نقداً عادلاً يتجه للأفكار لا للأشخاص، وتحريراً موضوعياً لمحل النـزاع -كما يسميه الفقهاء- وتحريراً لأسبابه، وتجنب لغة الحسم والقطعية وابتعاداً عن الاتهام والخصام، وخضوعاً للدليل وركوناً للمحكمات الشرعية والثوابت الدينية القائمة.
إن علينا القبول بهذا التنوع والتعامل معه، بل والتفاعل معه في التعاون على القدر المشترك والمتفق عليه وتفعيل دائرته، ووضع الخلاف في حجمه الطبيعي، وعدم الخوف منه أو محاربته، وحسن الاستماع وحسن الفهم للآخرين واستخدام الحجة والإقناع لا السباب والصخب والضجيج، وبعد كل ذلك محاولة التعايش والاتفاق على مصالح الدنيا، حتى مع من نختلف معهم بشكل جوهري، فلقد قال النبي صلى الله عليه وسلم عن حلف الفضول: (لو دعيت إليه اليوم لأجبت).
إننا حين نفسح لكل الأصوات أن تتحدث ولكل الأنواع أن تتنفس فسوف تطرد العملة الصحيحة كل عملة مزيفة، وسوف تبقى أجواء الاقتراب والألفة ترسل ظلالها للجميع، وسوف يكون ذلك خيراً لنا جميعاً، فإننا حين نخنق أصوات الآخرين فسوف نختنق بهم, والسفينة حين تغرق لا تستثني أحداً، فعلى العقلاء وأصحاب الرأي أن يتقوا فتنة لا تصيبن الذين ظلموا خاصة.