[justify]أذكر أني قابلت أحد الشباب في الحرم المكي أيام رمضان, وكان يعتمر ويعتجر عمامة بيضاء، وشعره يضرب إلى منكبيه، ويلبس ثوباً قصيراً ربما إلى نصف ساقيه, وفوق هذا الثوب قميص أسود شبيه بالرداء..
في مشهد لافت للنظر, ومثير للانتباه؛ فكل من نظر إليه صعـّد النظر فيه وصوّبه..
جلس معي, وسألته عن هيئته! فردّ بأنه يتبع سنة الرسول -صلى الله عليه وسلم- في لباسه وشعره؛ فأجبته: بأن الصحيح أن مسألة العمامة ليست سنة, وإنما هي من عادات العرب في الجاهلية, وأما لبس الرسول -صلى الله عليه وسلم- لها فهو من باب العادة, فلا نقول إنها مأمور بها، ولا منهيّ عنها، بمعنى أنها أمر متروك لعادات الناس وأعرافهم، ولا يصحّ في العمامة حديث.
هذه واحدة.
والثانية: أن الراجح في الشَّعر أنه من العادات؛ فطول شعره -صلى الله عليه وسلم- ليس سنة وإنما عادة، ومن كان له شعر فليكرمه، والأمر فيه يسير.
أما الأمر الثالث: فهو أنك معتمر, والسنة التي لا خلاف عليها هو حلق الرأس للمعتمر, وقد دعا صلى الله عليه وسلم: "اللَّهُمَّ اغْفِرْ لِلْمُحَلِّقِينَ، اللَّهُمَّ اغْفِرْ لِلْمُحَلِّقِينَ، اللَّهُمَّ اغْفِرْ لِلْمُحَلِّقِينَ", ثم قال في الثالثة: "وَلِلْمُقَصِّرِينَ"، فلماذا تركت هذه السنة الواضحة الثابتة؟!
أما رابعاً وأخيراً: فانتبه إلى حظوظ النفس, أن تجد مدخلاً من جهة لفت النظر والتميّز, وأن تعمل ببعض الظواهر المختلف فيها لاسترعاء اهتمام الناس، وما في ذلك من كيد الشيطان الخفيّ، ونسيت أن صاحب السنة -صلى الله عليه وسلم- نهى عن لباس الشهرة، وهذا ما لم يذكره صاحب هذا الاقتداء المنقوص.
إن هذا نموذج للوعي السلبي بالاهتمام بالتفاصيل العادية غير المؤثرة, وفي المقابل خرم القواعد الكبار, تحت عباءة السنة النبوية، وهدي المصطفى -صلى الله عليه وسلم-؛ فليست السنة امتحان الناس في تفاصيل التفاصيل, و لا تحميل الناس ما لا يطيقون من جزئيات و فرعيات وافتراضات؛ يتورّعون فيها عن خفايا ودقائق لا ترد على البال إلا بتكلّف وتعسّف, ثم ينتهكون الحرمات المتّفق عليها من أعراض الناس وحقوقهم, وواجبات التعامل الأخلاقي معهم, ورعايتهم والاهتمام بهم, وجمعهم على سبيل الوحدة والإيمان.
إن السنة النبوية العظيمة ليست حصراً في دقائق العبادات مع الإيمان بدخول ذلك في معنى السنة، إنها أعم من ذلك وأشمل وأعظم؛ إنها معانٍ شريفة في تحقيق مقاصد النبوة والرسالة، ووسائل صالحة نافعة لأداء هذه المقاصد التي خلق الله جنس الإنسان من أجل تحقيقها: (وَمَا خَلَقْتُ الْجِنَّ وَالْإِنسَ إِلَّا لِيَعْبُدُونِ)[سورة الذاريات:56], ولقيام الناس بمعنى الإيمان والسعي للخير, ومكارم الأخلاق وأصولها, وأركان الإسلام من الشهادتين, والصلاة, والزكاة, والصيام, والحج؛ ولهذا لمـّا أخبر الله عن الأنبياء في السورة التي حملت اسم: (الأنبياء) ذكر السنن العظام للأنبياء: (وَجَعَلْنَاهُمْ أَئِمَّةً يَهْدُونَ بِأَمْرِنَا وَأَوْحَيْنَا إِلَيْهِمْ فِعْلَ الْخَيْرَاتِ وَإِقَامَ الصَّلَاةِ وَإِيتَاء الزَّكَاةِ وَكَانُوا لَنَا عَابِدِينَ).[سورة الأنبياء:73].
فالخيرات ركن عظيم وسنة كبيرة من سنن المرسلين، وإقام الصلاة وإيتاء الزكاة وعبادة الله.
وحين ذكر الله قصص أنبياء آخرين قال: (إِنَّهُمْ كَانُوا يُسَارِعُونَ فِي الْخَيْرَاتِ وَيَدْعُونَنَا رَغَبًا وَرَهَبًا وَكَانُوا لَنَا خَاشِعِينَ). [سورة الأنبياء:90], وختم قصص الأنبياء في السورة بقوله تعالى: (إِنَّ هَذِهِ أُمَّتُكُمْ أُمَّةً وَاحِدَةً وَأَنَا رَبُّكُمْ فَاعْبُدُونِ). [سورة الأنبياء:92]، ثم خاطب رسول هذه الأمة: (وَمَا أَرْسَلْنَاكَ إِلَّا رَحْمَةً لِّلْعَالَمِينَ*قُلْ إِنَّمَا يُوحَى إِلَيَّ أَنَّمَا إِلَهُكُمْ إِلَهٌ وَاحِدٌ فَهَلْ أَنتُم مُّسْلِمُونَ). [سورة الأنبياء:107-108].
هذه هي مقاصد الأنبياء, ومعاني الرسل والرسالة، والقواعد الأساسية للسنة النبوية التي حكاها الله في كتابه الكريم، وأمر بها رسوله -صلى الله عليه وسلم- في أحاديثه, كما في حديث جبريل الطويل, عن أصول الإسلام والإيمان والإحسان؛ من فعل الخيرات, وإقامة أركان الدين العملية, وتحقيق الإيمان, واليقين, والخشوع, و العبادات القلبية, وتهذيب السلوك والنفس, وتوحيد الأمة على عبادة الله، وعدم السعي في تشتيتها أوزاعاً وأحزاباً تقتات من بعضها، وتطبيع معنى الرحمة والتبشير:"بَشِّرُوا وَلَا تُنَفِّرُوا" رحمة للعالمين أجمع..
هذه هي أهم السنن، فهل ترى سنة النبي -صلى الله عليه وسلم- مخالفة لأصول الأخلاق, أو مجافية لمعنى الرحمة التي جعلها الله مقصداً للرسالة؟! أم هل ترى فيها سعياً لبث الضيق والتنفير بدل السعة والتبشير؟!
وهؤلاء هم أحباب محمد -صلى الله عليه وسلم- في العالم الإسلامي, بل العالم أجمع يهبّون لنصرته بالدعوات, والمؤتمرات, واللقاءات, والمقاطعات, بل والملصقات، فالله الله أن يكونوا على أثر محمد -صلى الله عليه وسلم- في تحقيق مقاصده؛ مقاصده في جمع الكلمة, ونبذ الفرقة، وفي تحقيق الإيمان والدعوة إليه، وفي مواقفه النبيلة عليه السلام.. ولنا في كل ذلك سنة واقتداء ولو كره المبطلون.
و أظن أنه لم يمرّ بالمسلمين عصرٌ يحتاجون فيه إلى إحياء سنته -صلى الله عليه وسلم- العلمية والعملية ومقاصده مثلما يحتاجون في هذا العصر، هنا وهناك انقسامات مذهبية حاضرة لتقديم شخصيات إسلامية إما نظرياً أو عملياً فوق مستوى النبي -صلى الله عليه وسلم- أو إلى مستواه، وانقسامات فكرية داخل مجتمعات المسلمين, قد تكون بسبب مؤثرات داخلية أو خارجية سواء كانت أفكاراً شرقيةً أو غربية، ولـّدت أشكالاً من التفرّق، وانقسامات حركية في الجماعات الإسلامية المختلفة، حتى ربما أُعطي زعيم الجماعة - أحياناً- نوعاً من المكانة والهالة عند بعض الأتباع مما يرفضه المتبوع نفسه، بسبب الارتباط العاطفيّ المتضخّم, والولاء الفكريّ الراسخ.
ونحن في حاجة إلى سنته عليه السلام في صبره ويقينه، وعلى سبيل المثال: كان صلى الله عليه وسلم يتدرّج في الدعوة إبان الفترة المكيّة، وتدرّجه نوعٌ من الصبر الذي وصف الله به الأنبياء (وَجَعَلْنَا مِنْهُمْ أَئِمَّةً يَهْدُونَ بِأَمْرِنَا لَمَّا صَبَرُوا وَكَانُوا بِآيَاتِنَا يُوقِنُونَ). [سورة السجدة:24]، ومن هذه الآية قال سفيان كلمته الشهيرة: بالصبر واليقين تُنال الإمامة في الدين.
ولمـّا هاجر إلى المدينة صلى الله عليه وسلم كان يمشي بخطوات ثابتة ومواقف مدروسة، ولم يكن يغريه أن يقفز قفزات غير مناسبة, أو يحرق المراحل، وحتى ما يعدّه الناس تراجعاًً أو فشلاً كان ينظر إليه وفق خطة عامة ذكية على أنه نجاح كبير, مثل صلح الحديبية, فمع أن بعض الصحابة صنّفوه على أنه نوع من التنازل عدّه صلى الله عليه وسلم نجاحا ً كبيراً، بل سمّاه الله فتحاً, كما قال تعالى: (إِنَّا فَتَحْنَا لَكَ فَتْحًا مُّبِينًا * لِيَغْفِرَ لَكَ اللَّهُ مَا تَقَدَّمَ مِن ذَنبِكَ وَمَا تَأَخَّرَ وَيُتِمَّ نِعْمَتَهُ عَلَيْكَ وَيَهْدِيَكَ صِرَاطًا مُّسْتَقِيمًا). [سورة الفتح:2]، فإن الآيات في صلح الحديبية على قول أغلب المفسرين.
ولمـّا رجع الناس من غزوة مؤتة –كما عند البيهقي في الدلائل وسيرة ابن إسحاق- كان بعض من استقبل المسلمين في المدينة يَحْثُونَ فِي وُجُوهِهِمْ التّرَابَ, وَيَقُولُونَ: يَا فُرّارُ! أَفَرَرْتُمْ فِي سَبِيلِ اللّهِ؟
فَيَقُولُ رَسُولُ اللّهِ صلى الله عليه وسلم: "لَيْسُوا بِفُرّارٍ, وَلَكِنّهُمْ كُرّارٌ إنْ شَاءَ اللّهُ".
لأنه صلى الله عليه وسلم ينظر للأمر من مبدأ عام, ويمشي بخطوات ثابتة حتى وصل صلى الله عليه وسلم إلى المستوى والتأثير المعروفَيْن.
وإن من سنة النبي -صلى الله عليه وسلم- فهمه لنفسيات الناس, وإدراكه لطريقة التعامل معهم, وحسن أخلاقه, ولطفه, وتجرّده من أدواء النفس وخفاياها و أوضارها، وربما وجدت داعية إلى سنته صلى الله عليه وسلم يبتعد مع الأيام في قضاياه عن الدعوة؛ لكي يقترب من نفسه؛ فيرتبط بموقفه الخاص أكثر, ويغريه اهتمام الناس بذلك وحديثهم عنه, فتدور نقاشاته حول ذاته، وحتى حزنه على من ردّ دعوته هو في حقيقته ليس لفوات الخير عن الناس ورحمته لهم، بل لإحساسه بالتعرّض لنوع ٍ من الإهانة والابتذال، لتنتهي حقيقة الدعوة عند هذا، وتبدأ حظوظ النفس ومشاكل القلوب.
ومن سنة النبي -صلى الله عليه وسلم- التي يقفزها الكثير من أتباعه مساعدته للناس على قبول دعوته، ولقد بلغ في هذا إلى قدر عظيم, حتى بنى جسراً للعدو الهارب, وفتح خطاً للرجعة لمن رفض القبول، ولم يكن صلى الله عليه وسلم يذكّرهم ويعيّرهم بالماضي الذي قد يؤذيهم, أو يبعدهم من هذه الدعوة, بل ساعدهم على النسيان، حتى عفا عمن أخطؤوا عليه عام الفتح, وقال: "اذْهَبُوا فَأَنْتُمُ الطُّلَقَاءُ"، كما في السيرة النبوية وسنن البيهقي وتاريخ الطبري.
ونهى عن سب المشركين الأموات حتى لا يؤذوا الأحياء.
وقد تجد من المصلحين اليوم من يشرف بنفسه على صنع الخصومة, ويضع العقبات لمن يظهر منه استجابة - من حيث يشعر أو لا يشعر-، ويفتح باباً طويلاً عريضاً للمحاسبة في أخطاء الماضي، وللشروط في قبول الدعوة كأنه يسعى لتأجيل استجابة الناس وتأخير وصولهم إلى برّ الأمان.
يعمل كل هذا في غفلةٍ عن أن الداعية مبلّـغ رشيد؛ يردم ما فسد من عوادي الزمن والأمم، ويخفف أجواء الشر والفتنة, بدل أن يحترق معها أو يحتطب لها, أو يضيف إليها وقوداً جديداً في سبيل ما يظن أنها دعوة للسنة النبوية، فهذه هي السنة النبوية، وهذه سنن المرسلين لا ترى فيها عوجاً ولا أمتاً، فهم لا يسألون الناس أجراً, بل هم هدًى للعالمين وصدق الله: (أُوْلَئِكَ الَّذِينَ هَدَى اللّهُ فَبِهُدَاهُمُ اقْتَدِهْ قُل لاَّ أَسْأَلُكُمْ عَلَيْهِ أَجْرًا إِنْ هُوَ إِلاَّ ذِكْرَى لِلْعَالَمِينَ).[سورة الأنعام:90].
والحمد لله رب العالمين وصلى الله على خير المرسلين وعلى آله وصحبه أجمعين.[/justify]
في مشهد لافت للنظر, ومثير للانتباه؛ فكل من نظر إليه صعـّد النظر فيه وصوّبه..
جلس معي, وسألته عن هيئته! فردّ بأنه يتبع سنة الرسول -صلى الله عليه وسلم- في لباسه وشعره؛ فأجبته: بأن الصحيح أن مسألة العمامة ليست سنة, وإنما هي من عادات العرب في الجاهلية, وأما لبس الرسول -صلى الله عليه وسلم- لها فهو من باب العادة, فلا نقول إنها مأمور بها، ولا منهيّ عنها، بمعنى أنها أمر متروك لعادات الناس وأعرافهم، ولا يصحّ في العمامة حديث.
هذه واحدة.
والثانية: أن الراجح في الشَّعر أنه من العادات؛ فطول شعره -صلى الله عليه وسلم- ليس سنة وإنما عادة، ومن كان له شعر فليكرمه، والأمر فيه يسير.
أما الأمر الثالث: فهو أنك معتمر, والسنة التي لا خلاف عليها هو حلق الرأس للمعتمر, وقد دعا صلى الله عليه وسلم: "اللَّهُمَّ اغْفِرْ لِلْمُحَلِّقِينَ، اللَّهُمَّ اغْفِرْ لِلْمُحَلِّقِينَ، اللَّهُمَّ اغْفِرْ لِلْمُحَلِّقِينَ", ثم قال في الثالثة: "وَلِلْمُقَصِّرِينَ"، فلماذا تركت هذه السنة الواضحة الثابتة؟!
أما رابعاً وأخيراً: فانتبه إلى حظوظ النفس, أن تجد مدخلاً من جهة لفت النظر والتميّز, وأن تعمل ببعض الظواهر المختلف فيها لاسترعاء اهتمام الناس، وما في ذلك من كيد الشيطان الخفيّ، ونسيت أن صاحب السنة -صلى الله عليه وسلم- نهى عن لباس الشهرة، وهذا ما لم يذكره صاحب هذا الاقتداء المنقوص.
إن هذا نموذج للوعي السلبي بالاهتمام بالتفاصيل العادية غير المؤثرة, وفي المقابل خرم القواعد الكبار, تحت عباءة السنة النبوية، وهدي المصطفى -صلى الله عليه وسلم-؛ فليست السنة امتحان الناس في تفاصيل التفاصيل, و لا تحميل الناس ما لا يطيقون من جزئيات و فرعيات وافتراضات؛ يتورّعون فيها عن خفايا ودقائق لا ترد على البال إلا بتكلّف وتعسّف, ثم ينتهكون الحرمات المتّفق عليها من أعراض الناس وحقوقهم, وواجبات التعامل الأخلاقي معهم, ورعايتهم والاهتمام بهم, وجمعهم على سبيل الوحدة والإيمان.
إن السنة النبوية العظيمة ليست حصراً في دقائق العبادات مع الإيمان بدخول ذلك في معنى السنة، إنها أعم من ذلك وأشمل وأعظم؛ إنها معانٍ شريفة في تحقيق مقاصد النبوة والرسالة، ووسائل صالحة نافعة لأداء هذه المقاصد التي خلق الله جنس الإنسان من أجل تحقيقها: (وَمَا خَلَقْتُ الْجِنَّ وَالْإِنسَ إِلَّا لِيَعْبُدُونِ)[سورة الذاريات:56], ولقيام الناس بمعنى الإيمان والسعي للخير, ومكارم الأخلاق وأصولها, وأركان الإسلام من الشهادتين, والصلاة, والزكاة, والصيام, والحج؛ ولهذا لمـّا أخبر الله عن الأنبياء في السورة التي حملت اسم: (الأنبياء) ذكر السنن العظام للأنبياء: (وَجَعَلْنَاهُمْ أَئِمَّةً يَهْدُونَ بِأَمْرِنَا وَأَوْحَيْنَا إِلَيْهِمْ فِعْلَ الْخَيْرَاتِ وَإِقَامَ الصَّلَاةِ وَإِيتَاء الزَّكَاةِ وَكَانُوا لَنَا عَابِدِينَ).[سورة الأنبياء:73].
فالخيرات ركن عظيم وسنة كبيرة من سنن المرسلين، وإقام الصلاة وإيتاء الزكاة وعبادة الله.
وحين ذكر الله قصص أنبياء آخرين قال: (إِنَّهُمْ كَانُوا يُسَارِعُونَ فِي الْخَيْرَاتِ وَيَدْعُونَنَا رَغَبًا وَرَهَبًا وَكَانُوا لَنَا خَاشِعِينَ). [سورة الأنبياء:90], وختم قصص الأنبياء في السورة بقوله تعالى: (إِنَّ هَذِهِ أُمَّتُكُمْ أُمَّةً وَاحِدَةً وَأَنَا رَبُّكُمْ فَاعْبُدُونِ). [سورة الأنبياء:92]، ثم خاطب رسول هذه الأمة: (وَمَا أَرْسَلْنَاكَ إِلَّا رَحْمَةً لِّلْعَالَمِينَ*قُلْ إِنَّمَا يُوحَى إِلَيَّ أَنَّمَا إِلَهُكُمْ إِلَهٌ وَاحِدٌ فَهَلْ أَنتُم مُّسْلِمُونَ). [سورة الأنبياء:107-108].
هذه هي مقاصد الأنبياء, ومعاني الرسل والرسالة، والقواعد الأساسية للسنة النبوية التي حكاها الله في كتابه الكريم، وأمر بها رسوله -صلى الله عليه وسلم- في أحاديثه, كما في حديث جبريل الطويل, عن أصول الإسلام والإيمان والإحسان؛ من فعل الخيرات, وإقامة أركان الدين العملية, وتحقيق الإيمان, واليقين, والخشوع, و العبادات القلبية, وتهذيب السلوك والنفس, وتوحيد الأمة على عبادة الله، وعدم السعي في تشتيتها أوزاعاً وأحزاباً تقتات من بعضها، وتطبيع معنى الرحمة والتبشير:"بَشِّرُوا وَلَا تُنَفِّرُوا" رحمة للعالمين أجمع..
هذه هي أهم السنن، فهل ترى سنة النبي -صلى الله عليه وسلم- مخالفة لأصول الأخلاق, أو مجافية لمعنى الرحمة التي جعلها الله مقصداً للرسالة؟! أم هل ترى فيها سعياً لبث الضيق والتنفير بدل السعة والتبشير؟!
وهؤلاء هم أحباب محمد -صلى الله عليه وسلم- في العالم الإسلامي, بل العالم أجمع يهبّون لنصرته بالدعوات, والمؤتمرات, واللقاءات, والمقاطعات, بل والملصقات، فالله الله أن يكونوا على أثر محمد -صلى الله عليه وسلم- في تحقيق مقاصده؛ مقاصده في جمع الكلمة, ونبذ الفرقة، وفي تحقيق الإيمان والدعوة إليه، وفي مواقفه النبيلة عليه السلام.. ولنا في كل ذلك سنة واقتداء ولو كره المبطلون.
و أظن أنه لم يمرّ بالمسلمين عصرٌ يحتاجون فيه إلى إحياء سنته -صلى الله عليه وسلم- العلمية والعملية ومقاصده مثلما يحتاجون في هذا العصر، هنا وهناك انقسامات مذهبية حاضرة لتقديم شخصيات إسلامية إما نظرياً أو عملياً فوق مستوى النبي -صلى الله عليه وسلم- أو إلى مستواه، وانقسامات فكرية داخل مجتمعات المسلمين, قد تكون بسبب مؤثرات داخلية أو خارجية سواء كانت أفكاراً شرقيةً أو غربية، ولـّدت أشكالاً من التفرّق، وانقسامات حركية في الجماعات الإسلامية المختلفة، حتى ربما أُعطي زعيم الجماعة - أحياناً- نوعاً من المكانة والهالة عند بعض الأتباع مما يرفضه المتبوع نفسه، بسبب الارتباط العاطفيّ المتضخّم, والولاء الفكريّ الراسخ.
ونحن في حاجة إلى سنته عليه السلام في صبره ويقينه، وعلى سبيل المثال: كان صلى الله عليه وسلم يتدرّج في الدعوة إبان الفترة المكيّة، وتدرّجه نوعٌ من الصبر الذي وصف الله به الأنبياء (وَجَعَلْنَا مِنْهُمْ أَئِمَّةً يَهْدُونَ بِأَمْرِنَا لَمَّا صَبَرُوا وَكَانُوا بِآيَاتِنَا يُوقِنُونَ). [سورة السجدة:24]، ومن هذه الآية قال سفيان كلمته الشهيرة: بالصبر واليقين تُنال الإمامة في الدين.
ولمـّا هاجر إلى المدينة صلى الله عليه وسلم كان يمشي بخطوات ثابتة ومواقف مدروسة، ولم يكن يغريه أن يقفز قفزات غير مناسبة, أو يحرق المراحل، وحتى ما يعدّه الناس تراجعاًً أو فشلاً كان ينظر إليه وفق خطة عامة ذكية على أنه نجاح كبير, مثل صلح الحديبية, فمع أن بعض الصحابة صنّفوه على أنه نوع من التنازل عدّه صلى الله عليه وسلم نجاحا ً كبيراً، بل سمّاه الله فتحاً, كما قال تعالى: (إِنَّا فَتَحْنَا لَكَ فَتْحًا مُّبِينًا * لِيَغْفِرَ لَكَ اللَّهُ مَا تَقَدَّمَ مِن ذَنبِكَ وَمَا تَأَخَّرَ وَيُتِمَّ نِعْمَتَهُ عَلَيْكَ وَيَهْدِيَكَ صِرَاطًا مُّسْتَقِيمًا). [سورة الفتح:2]، فإن الآيات في صلح الحديبية على قول أغلب المفسرين.
ولمـّا رجع الناس من غزوة مؤتة –كما عند البيهقي في الدلائل وسيرة ابن إسحاق- كان بعض من استقبل المسلمين في المدينة يَحْثُونَ فِي وُجُوهِهِمْ التّرَابَ, وَيَقُولُونَ: يَا فُرّارُ! أَفَرَرْتُمْ فِي سَبِيلِ اللّهِ؟
فَيَقُولُ رَسُولُ اللّهِ صلى الله عليه وسلم: "لَيْسُوا بِفُرّارٍ, وَلَكِنّهُمْ كُرّارٌ إنْ شَاءَ اللّهُ".
لأنه صلى الله عليه وسلم ينظر للأمر من مبدأ عام, ويمشي بخطوات ثابتة حتى وصل صلى الله عليه وسلم إلى المستوى والتأثير المعروفَيْن.
وإن من سنة النبي -صلى الله عليه وسلم- فهمه لنفسيات الناس, وإدراكه لطريقة التعامل معهم, وحسن أخلاقه, ولطفه, وتجرّده من أدواء النفس وخفاياها و أوضارها، وربما وجدت داعية إلى سنته صلى الله عليه وسلم يبتعد مع الأيام في قضاياه عن الدعوة؛ لكي يقترب من نفسه؛ فيرتبط بموقفه الخاص أكثر, ويغريه اهتمام الناس بذلك وحديثهم عنه, فتدور نقاشاته حول ذاته، وحتى حزنه على من ردّ دعوته هو في حقيقته ليس لفوات الخير عن الناس ورحمته لهم، بل لإحساسه بالتعرّض لنوع ٍ من الإهانة والابتذال، لتنتهي حقيقة الدعوة عند هذا، وتبدأ حظوظ النفس ومشاكل القلوب.
ومن سنة النبي -صلى الله عليه وسلم- التي يقفزها الكثير من أتباعه مساعدته للناس على قبول دعوته، ولقد بلغ في هذا إلى قدر عظيم, حتى بنى جسراً للعدو الهارب, وفتح خطاً للرجعة لمن رفض القبول، ولم يكن صلى الله عليه وسلم يذكّرهم ويعيّرهم بالماضي الذي قد يؤذيهم, أو يبعدهم من هذه الدعوة, بل ساعدهم على النسيان، حتى عفا عمن أخطؤوا عليه عام الفتح, وقال: "اذْهَبُوا فَأَنْتُمُ الطُّلَقَاءُ"، كما في السيرة النبوية وسنن البيهقي وتاريخ الطبري.
ونهى عن سب المشركين الأموات حتى لا يؤذوا الأحياء.
وقد تجد من المصلحين اليوم من يشرف بنفسه على صنع الخصومة, ويضع العقبات لمن يظهر منه استجابة - من حيث يشعر أو لا يشعر-، ويفتح باباً طويلاً عريضاً للمحاسبة في أخطاء الماضي، وللشروط في قبول الدعوة كأنه يسعى لتأجيل استجابة الناس وتأخير وصولهم إلى برّ الأمان.
يعمل كل هذا في غفلةٍ عن أن الداعية مبلّـغ رشيد؛ يردم ما فسد من عوادي الزمن والأمم، ويخفف أجواء الشر والفتنة, بدل أن يحترق معها أو يحتطب لها, أو يضيف إليها وقوداً جديداً في سبيل ما يظن أنها دعوة للسنة النبوية، فهذه هي السنة النبوية، وهذه سنن المرسلين لا ترى فيها عوجاً ولا أمتاً، فهم لا يسألون الناس أجراً, بل هم هدًى للعالمين وصدق الله: (أُوْلَئِكَ الَّذِينَ هَدَى اللّهُ فَبِهُدَاهُمُ اقْتَدِهْ قُل لاَّ أَسْأَلُكُمْ عَلَيْهِ أَجْرًا إِنْ هُوَ إِلاَّ ذِكْرَى لِلْعَالَمِينَ).[سورة الأنعام:90].
والحمد لله رب العالمين وصلى الله على خير المرسلين وعلى آله وصحبه أجمعين.[/justify]