من يعيش وسط هذا المجتمع يحس بحجم المشكلات التي تعكّر صفوه، وتربك علاقاته الذاتية، وعلاقاته الخارجية، فبين الآباء والأبناء، والأزواج، والشركاء في العمل، والزملاء في المؤسسة، والجيران، والقرابة ألوان من التوتر، بعضها طبعي مألوف، وبعضها غريب من إفراز المتغيرات، والملحوظ أن حجمها في ازدياد وتفاقم، وهي تتجه غالباً إلى التعقيد وتعسّر الحلول.
وفي هذا السياق يبرز دور المصلح الذي همه تقريب وجهات النظر, وحفظ التوازن بين الفئات والأفراد.
فمتى توفر هؤلاء المصلحون، وصحّت لديهم النية في إرادة الإصلاح كانوا أعظم أسباب الحل, وأعظم ضمانات الديمومة للعلاقة المميزة في مجتمع إسلامي.
وفي هذا يقول سبحانه : (وَإِنْ خِفْتُمْ شِقَاقَ بَيْنِهِمَا فَابْعَثُواْ حَكَمًا مِّنْ أَهْلِهِ وَحَكَمًا مِّنْ أَهْلِهَا إِن يُرِيدَا إِصْلاَحًا يُوَفِّقِ اللّهُ بَيْنَهُمَا إِنَّ اللّهَ كَانَ عَلِيمًا خَبِيرًا)[النساء:35]، فوعد الله سبحانه بالتوفيق متى توفرت إرادة الإصلاح.
وبعض الجهات الاستشارية، فردية أو مؤسسية أو إعلامية، قد يشوب إرادتها في الإصلاح شأن آخر، أو لا يكون لديها إرادة صادقة، فتزيد الدّاء علّة، والطين بِلّة.
وعلى صعيد المتخالفين الذين هم أطراف المشكلة؛ فإن أعظم ما يحول دون الحل هو الاعتقاد الجازم لدى كل طرف بصوابية موقفه, وسلامة سلوكه، وأنه المستهدف عن قصدٍ بالإساءة والعدوان, وهذا أثر عن سيطرة نزعة " الأنا " في النفوس.
ولقد جرّبت السعي بين أقارب متهاجرين؛ فوجدت الطرف الأول يسرد عليك تاريخاً طويلاً من المعاناة امتد لخمس سنوات –مثلاً – خلالها كان نموذج الصبر والتحمل والتجمل والتسامح, حتى وصل الحال إلى ما لا يصبر عليه، وتعدى الأمر حدوده، ولم يعد في قوس الصبر منـزع، واتق غضبة الحليم !!
فإذا انتقلت إلى الطرف الآخر وجدت الأمر ذاته، والشكوى والمعاناة والصبر والتجاوز الذي كان مضرب المثل، ولكن الآخر كان لا يقدّر هذا ولا يكترث له!!
والمؤلم أنك تشعر حين يتحدث الطرفان أن اللهجة صادقة، والحديث جدّ، لا هزل فيه ولا تمثيل، بل هو من صميم النفس, وسويداء القلب، إنه حديث اللسان، تتواطأ معه ملامح الوجه وقسماته، وتؤكده الأيمان المغلظة، والحقائق الدامغة والسجلات والوثائق، والشهود العدول، واسأل فلاناً وفلاناً فعندهم الخبر اليقين.
وما أضيع الحقيقة والإصلاح هنا...
وكل من الزوجين حين يتحدث عن لب المشكلة يضع إبهامه على طرف الميزان، وقد يسجّل اعترافات خفيفة على نفسه هنا وهناك... صحيح أنني... ولكن...
ويختم حديثه بأنه وإن كان يتحدث عن مشكلة هو طرف فيها، إلا أنه يقول بكل ثقة: (حقيقة أن طيب بالمرة!)، لكن الطرف الآخر لا يقدّر هذه الطيبة، ولا يحسن التعامل معها، بل يستغلها.
وهكذا تبدو (الأنانية) المترسخة التي تستعصي على الكشف، فهي مثل الفيروس المتخفي الذي لا تقدر أحدث المجاهر على ملاحقته وتشخيصه، تتلبس الإنسان وتحكم تصرفاته من دون أن يدرك أو يلحظ تأثيرها البليغ على أحكامه وقراراته وسياقات حديثه وتحديد مواقفه.
إن هذه الـ (أنا) الطاغية هي حجة إبليس حين صنع المعاندة والرفض مع آدم، بل مع رب آدم، وقال : ( أَنَا خَيْرٌ مِّنْهُ خَلَقْتَنِي مِن نَّارٍ وَخَلَقْتَهُ مِن طِينٍ)[ص:76]، وهي لغة فرعون حين قال : (أَمْ أَنَا خَيْرٌ مِّنْ هَذَا الَّذِي هُوَ مَهِينٌ وَلَا يَكَادُ يُبِينُ)[الزخرف:52]، وهي ضلالة قارون حين قال : (قَالَ إِنَّمَا أُوتِيتُهُ عَلَى عِلْمٍ عِندِي)[القصص:78]، وهي شر متسلط على نفس الإنسان ما لم يتفطن لها، ويحذر فتكها، ويضعها في حجمها السليم؛ ولذا كان النبي -صلى الله عليه وسلم- يقول في صدر حديثه : "وَنَعُوذُ بِاللَّهِ مِنْ شُرُورِ أَنْفُسِنَا وَسَيِّئَاتِ أَعْمَالِنَا".
وسأله رجل دعاء يدعو به فعلمه "اللَّهُمَّ أَلْهِمْنِي رُشْدِي وَأَعِذْنِي مِنْ شَرِّ نَفْسِي". رواه الترمذي. (وَمَن يُوقَ شُحَّ نَفْسِهِ فَأُوْلَئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُون)[الحشر:9].
إنك لو تأملت تصرفات كثيرين ممن حولك ومواقفهم لوجدت الأنا تملي, والفرد يكتب، وقد ركِبَتْهُ وذَلَّلَتْهُ, وربما كان حديثه عن الإيثار, والتسامح, ونكران الذات ولكن هذه الـ( أنا ) المتسلطة تأبى إلا أن تطل من بين الحروف والكلمات... حتى لدى أهل الزهد والفضيلة.
وإن منهم لمن يرائي حتى بعد موته، فيسرّه أنه سيتحدث الناس عن شهود جنازته وأنه جم غفير, وخلق كثير!!
وكم من مديح صيغ في قالب الذم، وتواضعٍ معناه الكبرياء.
ومسالك النفس هنا أدق وألطف من أن يحصيها عد، أو يدركها ذكاء.
وليس الإنسان بقادرٍ على تجاوز كل مؤثراتها، بل إن من مؤثراتها ما هو قدر مطلوب محبوب، وقد قال الخليل عليه السلام : (وَاجْعَل لِّي لِسَانَ صِدْقٍ فِي الْآخِرِينَ)[الشعراء:84].
وفي صحيح مسلم عَنْ أَبِي ذَرٍّ قَالَ: قِيلَ لِرَسُولِ اللَّهِ -صلى الله عليه وسلم-: أَرَأَيْتَ الرَّجُلَ يَعْمَلُ الْعَمَلَ مِنَ الْخَيْرِ وَيَحْمَدُهُ النَّاسُ عَلَيْهِ؟ قَالَ: " تِلْكَ عَاجِلُ بُشْرَى الْمُؤْمِنِ "، وعَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ -صلى الله عليه وسلم- قَالَ: " إِذَا مَاتَ الإِنْسَانُ انْقَطَعَ عَنْهُ عَمَلُهُ إِلاَّ مِنْ ثَلاَثَةٍ إِلاَّ مِنْ صَدَقَةٍ جَارِيَةٍ أَوْ عِلْمٍ يُنْتَفَعُ بِهِ أَوْ وَلَدٍ صَالِحٍ يَدْعُو لَهُ". رواه مسلم، فهي كسائر الطبائع المخلوقة، أصلها لا بد منه، والزيادة تحتاج إلى ضبط ومراقبة، والناس فيها درجات عند الله.
فالشهوة الجنسية مثلاً لا بد منها للحياة، لكن احتدامها وتجاوزها للحد الضابط يفضي إلى الفتنة والبوار...
ولو سعى المرء إلى مراقبة نفسه, واكتشاف لعبة الأنا في داخلها لأراح واستراح، وكان أطيب الثمار التي يجدها (الإنصاف) من نفسه، حين يضع ذاته موضع الآخرين، وفي صحيح البخاري عن عَمَّارٍ قال: "ثَلاَثٌ مَنْ جَمَعَهُنَّ فَقَدْ جَمَعَ الإِيمَانَ: الإِنْصَافُ مِنْ نَفْسِكَ، وَبَذْلُ السَّلاَمِ لِلْعَالَمِ، وَالإِنْفَاقُ مِنَ الإِقْتَارِ".
وإذا أردت أن تأخذ بنصيبك من هذه الذكرى فتأمل حديثك في يوم وليلة، واحسب كم تجري كلمة " أنا " على لسانك!
إنها أكثر الكلمات ترددا في أفواه الخلق بلا منازع!
اللهم إنا نعوذ بك من شرور أنفسنا, وسيئات أعمالنا، اللهم ألهمنا رشدنا, وقنا شحّ أنفسنا, وبصّرنا بمواطن الضعف فيها, ووفقنا لاستثمار قدراتنا، يا أرحم الراحمين.
وفي هذا السياق يبرز دور المصلح الذي همه تقريب وجهات النظر, وحفظ التوازن بين الفئات والأفراد.
فمتى توفر هؤلاء المصلحون، وصحّت لديهم النية في إرادة الإصلاح كانوا أعظم أسباب الحل, وأعظم ضمانات الديمومة للعلاقة المميزة في مجتمع إسلامي.
وفي هذا يقول سبحانه : (وَإِنْ خِفْتُمْ شِقَاقَ بَيْنِهِمَا فَابْعَثُواْ حَكَمًا مِّنْ أَهْلِهِ وَحَكَمًا مِّنْ أَهْلِهَا إِن يُرِيدَا إِصْلاَحًا يُوَفِّقِ اللّهُ بَيْنَهُمَا إِنَّ اللّهَ كَانَ عَلِيمًا خَبِيرًا)[النساء:35]، فوعد الله سبحانه بالتوفيق متى توفرت إرادة الإصلاح.
وبعض الجهات الاستشارية، فردية أو مؤسسية أو إعلامية، قد يشوب إرادتها في الإصلاح شأن آخر، أو لا يكون لديها إرادة صادقة، فتزيد الدّاء علّة، والطين بِلّة.
وعلى صعيد المتخالفين الذين هم أطراف المشكلة؛ فإن أعظم ما يحول دون الحل هو الاعتقاد الجازم لدى كل طرف بصوابية موقفه, وسلامة سلوكه، وأنه المستهدف عن قصدٍ بالإساءة والعدوان, وهذا أثر عن سيطرة نزعة " الأنا " في النفوس.
ولقد جرّبت السعي بين أقارب متهاجرين؛ فوجدت الطرف الأول يسرد عليك تاريخاً طويلاً من المعاناة امتد لخمس سنوات –مثلاً – خلالها كان نموذج الصبر والتحمل والتجمل والتسامح, حتى وصل الحال إلى ما لا يصبر عليه، وتعدى الأمر حدوده، ولم يعد في قوس الصبر منـزع، واتق غضبة الحليم !!
فإذا انتقلت إلى الطرف الآخر وجدت الأمر ذاته، والشكوى والمعاناة والصبر والتجاوز الذي كان مضرب المثل، ولكن الآخر كان لا يقدّر هذا ولا يكترث له!!
والمؤلم أنك تشعر حين يتحدث الطرفان أن اللهجة صادقة، والحديث جدّ، لا هزل فيه ولا تمثيل، بل هو من صميم النفس, وسويداء القلب، إنه حديث اللسان، تتواطأ معه ملامح الوجه وقسماته، وتؤكده الأيمان المغلظة، والحقائق الدامغة والسجلات والوثائق، والشهود العدول، واسأل فلاناً وفلاناً فعندهم الخبر اليقين.
وما أضيع الحقيقة والإصلاح هنا...
وكل من الزوجين حين يتحدث عن لب المشكلة يضع إبهامه على طرف الميزان، وقد يسجّل اعترافات خفيفة على نفسه هنا وهناك... صحيح أنني... ولكن...
ويختم حديثه بأنه وإن كان يتحدث عن مشكلة هو طرف فيها، إلا أنه يقول بكل ثقة: (حقيقة أن طيب بالمرة!)، لكن الطرف الآخر لا يقدّر هذه الطيبة، ولا يحسن التعامل معها، بل يستغلها.
وهكذا تبدو (الأنانية) المترسخة التي تستعصي على الكشف، فهي مثل الفيروس المتخفي الذي لا تقدر أحدث المجاهر على ملاحقته وتشخيصه، تتلبس الإنسان وتحكم تصرفاته من دون أن يدرك أو يلحظ تأثيرها البليغ على أحكامه وقراراته وسياقات حديثه وتحديد مواقفه.
إن هذه الـ (أنا) الطاغية هي حجة إبليس حين صنع المعاندة والرفض مع آدم، بل مع رب آدم، وقال : ( أَنَا خَيْرٌ مِّنْهُ خَلَقْتَنِي مِن نَّارٍ وَخَلَقْتَهُ مِن طِينٍ)[ص:76]، وهي لغة فرعون حين قال : (أَمْ أَنَا خَيْرٌ مِّنْ هَذَا الَّذِي هُوَ مَهِينٌ وَلَا يَكَادُ يُبِينُ)[الزخرف:52]، وهي ضلالة قارون حين قال : (قَالَ إِنَّمَا أُوتِيتُهُ عَلَى عِلْمٍ عِندِي)[القصص:78]، وهي شر متسلط على نفس الإنسان ما لم يتفطن لها، ويحذر فتكها، ويضعها في حجمها السليم؛ ولذا كان النبي -صلى الله عليه وسلم- يقول في صدر حديثه : "وَنَعُوذُ بِاللَّهِ مِنْ شُرُورِ أَنْفُسِنَا وَسَيِّئَاتِ أَعْمَالِنَا".
وسأله رجل دعاء يدعو به فعلمه "اللَّهُمَّ أَلْهِمْنِي رُشْدِي وَأَعِذْنِي مِنْ شَرِّ نَفْسِي". رواه الترمذي. (وَمَن يُوقَ شُحَّ نَفْسِهِ فَأُوْلَئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُون)[الحشر:9].
إنك لو تأملت تصرفات كثيرين ممن حولك ومواقفهم لوجدت الأنا تملي, والفرد يكتب، وقد ركِبَتْهُ وذَلَّلَتْهُ, وربما كان حديثه عن الإيثار, والتسامح, ونكران الذات ولكن هذه الـ( أنا ) المتسلطة تأبى إلا أن تطل من بين الحروف والكلمات... حتى لدى أهل الزهد والفضيلة.
وإن منهم لمن يرائي حتى بعد موته، فيسرّه أنه سيتحدث الناس عن شهود جنازته وأنه جم غفير, وخلق كثير!!
وكم من مديح صيغ في قالب الذم، وتواضعٍ معناه الكبرياء.
ومسالك النفس هنا أدق وألطف من أن يحصيها عد، أو يدركها ذكاء.
وليس الإنسان بقادرٍ على تجاوز كل مؤثراتها، بل إن من مؤثراتها ما هو قدر مطلوب محبوب، وقد قال الخليل عليه السلام : (وَاجْعَل لِّي لِسَانَ صِدْقٍ فِي الْآخِرِينَ)[الشعراء:84].
وفي صحيح مسلم عَنْ أَبِي ذَرٍّ قَالَ: قِيلَ لِرَسُولِ اللَّهِ -صلى الله عليه وسلم-: أَرَأَيْتَ الرَّجُلَ يَعْمَلُ الْعَمَلَ مِنَ الْخَيْرِ وَيَحْمَدُهُ النَّاسُ عَلَيْهِ؟ قَالَ: " تِلْكَ عَاجِلُ بُشْرَى الْمُؤْمِنِ "، وعَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ -صلى الله عليه وسلم- قَالَ: " إِذَا مَاتَ الإِنْسَانُ انْقَطَعَ عَنْهُ عَمَلُهُ إِلاَّ مِنْ ثَلاَثَةٍ إِلاَّ مِنْ صَدَقَةٍ جَارِيَةٍ أَوْ عِلْمٍ يُنْتَفَعُ بِهِ أَوْ وَلَدٍ صَالِحٍ يَدْعُو لَهُ". رواه مسلم، فهي كسائر الطبائع المخلوقة، أصلها لا بد منه، والزيادة تحتاج إلى ضبط ومراقبة، والناس فيها درجات عند الله.
فالشهوة الجنسية مثلاً لا بد منها للحياة، لكن احتدامها وتجاوزها للحد الضابط يفضي إلى الفتنة والبوار...
ولو سعى المرء إلى مراقبة نفسه, واكتشاف لعبة الأنا في داخلها لأراح واستراح، وكان أطيب الثمار التي يجدها (الإنصاف) من نفسه، حين يضع ذاته موضع الآخرين، وفي صحيح البخاري عن عَمَّارٍ قال: "ثَلاَثٌ مَنْ جَمَعَهُنَّ فَقَدْ جَمَعَ الإِيمَانَ: الإِنْصَافُ مِنْ نَفْسِكَ، وَبَذْلُ السَّلاَمِ لِلْعَالَمِ، وَالإِنْفَاقُ مِنَ الإِقْتَارِ".
وإذا أردت أن تأخذ بنصيبك من هذه الذكرى فتأمل حديثك في يوم وليلة، واحسب كم تجري كلمة " أنا " على لسانك!
إنها أكثر الكلمات ترددا في أفواه الخلق بلا منازع!
اللهم إنا نعوذ بك من شرور أنفسنا, وسيئات أعمالنا، اللهم ألهمنا رشدنا, وقنا شحّ أنفسنا, وبصّرنا بمواطن الضعف فيها, ووفقنا لاستثمار قدراتنا، يا أرحم الراحمين.