عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ - رضي الله عنه - أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم – قَالَ:
( الْعُمْرَةُ إِلَى الْعُمْرَةِ كَفَّارَةٌ لِمَا بَيْنَهُمَا، وَالْحَجُّ الْمَبْرُورُ لَيْسَ لَهُ جَزَاءٌ إِلاَّ الْجَنَّةُ ) ، وهذا الفضل العظيم للعمرة عامٌّ في كل حين، وأما في رمضان فإن فضلها يتضاعف؛ حتى قال علماء الأحناف بندبها في هذا الشهر خاصة فعن ابْن عَبَّاسٍ - رضي الله عنهما – قال: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم - لاِمْرَأَةٍ مِنَ الأَنْصَارِ: ( مَا مَنَعَكِ أَنْ تَحُجِّي مَعَنَا؟ ) قَالَتْ :كَانَ لَنَا نَاضِحٌ فَرَكِبَهُ أَبُوفُلاَنٍ وَابْنُهُ - لِزَوْجِهَا وَابْنِهَا - وَتَرَكَ نَاضِحًا نَنْضَحُ عَلَيْهِ. قَالَ : ( فَإِذَا كَانَ رَمَضَانُ اعْتَمِرِي فِيهِ فَإِنَّ عُمْرَةً فِي رَمَضَانَ حَجَّةٌ ) .
ويا له من فوز أن تكون كمن حج مع رسول الله صلى الله عليه وسلم فوقف معه بعرفة، وبات معه بمزدلفة، وأفاض بصحبته إلى منى، وطاف بجواره وسعى -كما هو المفهوم من ظاهر هذا الحديث-.
وإن مما يثلج الصدر أن نرى إقبال المسلمين على العمرة في هذا الشهر الفاضل، لكن هناك بعض التنبيهات والوقفات يحسن التنبيه إليها:
حكم العمرة
القول بعدم الوجوب هو قول مالك وأبي حنيفة ورواية عن أحمد ورواية عن الشافعي وكأنها المذهب القديم له.
والظاهر –والله أعلم- أن ما ذهب إليه الأكثرون والجمهور هو الراجح أن العمرة غير واجبة وذلك؛ لأن القرآن الكريم نص على وجوب الحج ولم يذكر العمرة في موضع من المواضع، وكذلك الرسول –صلى الله عليه وسلم- ذكر وجوب الحج وأكده كما في حديث: (أيها الناس قد فرض الله عليكم الحج فحجوا) رواه مسلم (1337) من حديث أبي هريرة –رضي الله عنه-، وحديث: (بني الإسلام على خمس) وغيرها، ولم يذكر العمرة، والحديث رواه البخاري (8) ومسلم (16) عن ابن عمر –رضي الله عنهما- بل ثبت في البخاري (46) ومسلم (11) من حديث أنس –رضي الله عنه- أن رجلاً قال: والله لا أزيد على هذا ولا أنقص منه، فقال –صلى الله عليه وسلم-: (أفلح إن صدق) أو (دخل الجنة إن صدق). وهذا الرجل لم يظهر أنه سيؤدي العمرة.
أما الأحاديث الواردة في العمرة فهي قسمان: أحاديث وردت في وجوب العمرة، وأحاديث وردت في عدم وجوب العمرة، وكلها لا تخلو من مقال، وأمثل ما ورد في هذا الباب ما جاء عن عائشة –رضي الله عنها- قالت: قلت: يا رسول الله على النساء جهاد؟ قال: (نعم. عليهن جهاد لا قتال فيه الحج والعمرة) رواه ابن ماجة (2901) وأحمد (25322) وهذا الحديث -وإن كان ظاهر سنده أنه جيد- إلا أن لفظه الآخر عن عائشة –رضي الله عنها- في البخاري (1520) ليس فيه ذكر العمرة وهو مشهور، قالت: يا رسول الله، نرى الجهاد أفضل العمل أفلا نجاهد؟ قال: (لكُنَّ –وفي رواية- (لَكِنَّ) أفضل الجهاد حج مبرور) ولم يذكر فيه العمرة، وهذا يعكر على لفظ العمرة خصوصاً أنها لم ترد في رواية النسائي للحديث رقم (2628)، فلعل زيادة العمرة في الحديث من قبيل الشاذ أو المعلول، فالأحاديث الواردة في إيجاب العمرة أو في عدم إيجابها ضعيفة، فنرجع إلى البراءة الأصلية، إذ الأصل براءة الذمة من إيجاب العمرة، ثم إن أعمال العمرة ليس فيها زيادة على ما في الحج ففيها الطواف والسعي والحلق أو التقصير، وهذه هي أعمال الحج، ولذلك جاء في الحديث: (دخلت العمرة في الحج) رواه مسلم (1218) عن جابر بن عبد الله –رضي الله عنهما-، فقد فَهِم بعضهم أنه من هذا الباب.
فالعمرة سنة وليست واجبة.
- بعض المعتمرين يهملون أهليهم الذين استرعاهم الله إياهم، فقد يسافر الأب والأم إلى مكة للعمرة، ويتركان أولادهما - من أجل الدراسة- في بلدهم، فيقضي الوالدان نصف رمضان أو أكثر في مكة، والأولاد طوال هذه المدة بدون رقيب، وقد يكونون من الصغار الذين لا يدركون، أو من المراهقين الذين يخشى أن ينـزلقوا في مزالق كبيرة - ذكورًا أو إناثًا- بسبب استفزاز شياطين الجن والإنس لهم، وكفى بالمرء إثمًا أن يضيع من يعول!
وقد يحدث الخطأ بصورة أخرى، وهي أن كثيرًا من الناس يسافرون بأهليهم إلى مكة، ثم يعتكف الأب في الحرم، أو يقضي غالب وقته فيه، ويغفل تمامًا عن مراقبة أبنائه وبناته، تاركًا لهم الحبل على الغارب؛ فينتج عن ذلك من المساوئ ما يندى له الجبين. ومن مظاهر ذلك ما رأيناه - ورآه غيرنا - في أطهر بقعة من التبرج، وتضييع الحشمة لدى بعض البنات.
حقًا، إن اصطحاب الأبناء إلى البلد الحرام أمر طيب، فيه تربية لهم، وتمكين لهم من إدراك فضيلة الزمان والمكان، ومضاعفة الحسنات، فإذا كان الأب رجلاً حازمًا يستطيع أن يحافظ على رعيته فحبذا ذاك، وأما إن كان عاجزًا عن رعايتهم ومراقبتهم، وضبط تصرفاتهم فليبقَ في بيته؛ طلبًا للسلامة من الفساد والضرر البالغ، الذي قد يلحق برعيته؛ فيرجع بوزرهم بدلاً من الرجوع بالثواب المضاعف.
- البعض من أئمة المساجد، ومن المصلحين، الآمرين بالمعروف، الناهين عن المنكر، والوعاظ، والموجهين يتركون ثغورهم ويؤمون مكة؛ ليعتمروا ويقضوا العشر الأواخر هناك، ولا ريب أن من كان مرتبطًا بإمامة أو وعظ أو وظيفة يحتاج إليها المسلمون؛ فإن الأوجب في حقه أن يبقى على ثغره؛ فإن في ذلك من تحصيل المصالح المتعدية خيرًا كثيرًا، وإن أبى إلا الذهاب للعمرة فليكن ذلك في مدة وجيزة يومًا أو يومين، يعود بعدها إلى مكانه؛ فإن من غير الحسن أن تخلو المساجد وغيرها من الوعاظ والمرشدين، والأئمة المؤثرين في هذا الزمان الفاضل - وخاصة العشر الأواخر-، فلينتبه الحريصون على الخير لذلك، ولينظروا إلى الأمور بميزان عادل.
تكرار العمرة
تكرار العمرة في السفر الواحد، فإن هذا لم ينقل عن النبي – صلى الله عليه وسلم- ولا عن أحد من أصحابه –رضي الله عنهم- إلا ما كان من أمر عائشة –رضي الله عنها- فإنها أحرمت بحج وعمرة في نسكها، ثم لم يطب خاطرها حتى قالت: يا رسول الله، يرجع الناس بحجة وعمرة، وأرجع بحجة، وكان النبي – صلى الله عليه وسلم – رجلاً سهلاً إذا هويت الشيء تابعها عليه، فقال لعبد الرحمن بن أبي بكر –رضي الله عنهما-: (اذهب بها فأعمرها من التنعيم) فخرجت عائشة –رضي الله عنها- واعتمرت، رواه البخاري (1561) ومسلم (1211) فتكون عائشة –رضي الله عنها- حينئذٍ أحرمت بعمرتين في سفر واحد، وهذا دليل على جواز إحداث أكثر من عمرة في سفر واحد، ولو لم يكن جائزاً لم يكن النبي – صلى الله عليه وسلم – ليطيع عائشة –رضي الله عنها-، ولا ليجاملها في أمره.
ولذلك نقول: من كان حاله مثل حال عائشة –رضي الله عنها-، فإنه يجوز له أن يذهب وأن يحرم للعمرة من غير كراهة ولا إشكال.
أما من كان بغير هذه المثابة، فإننا لا نأمره بالعمرة ولا ننهاه عنها، ولكن قال بعض السلف: إن بقاءه في مكة وطوافه بالبيت وصلاته فيه أفضل من عمرته. فبدلاً من أن يذهب ويتعب ثم يعود، قالوا: أن يطوف بالبيت أسبوعين أو ثلاثة أسابيع يعني: ثلاثة أطوفة أو أربعة هذا أفضل، لأن العمرة في حقيقة أمرها إنما هي طواف، وهذا لو أخبر به كثير من الناس لاقتنعوا، لأن بعض الناس قد يأتي من مسافات بعيدة، ويقول أريد أن أكرر العمرة، واحدة لي، وواحدة لأمي، وواحدة لأبي، فنقول له: العمرة حقيقتها الطواف بالبيت، فبإمكانك أن تطوف وبدلاً من ذهابك إلى الحل وإحرامك منه ثم رجوعك تكون في مدة مكثك قد طفت أربعة أو خمسة أطوفة، وخصوصاً إذا لم يكن في هذا تضييق ومشقة على الناس.
وعليه فتكرار العمرة في السفر الواحد غير مشروع، ولكن لا نثرِّب على من فعله، ولا نحجر على الناس أمراً واسعاً.
أما تكرار العمرة في أسفار متعددة فلا حرج فيه، فلو أن إنساناً سافر، ثم رجع مع أصدقائه، وبعد يومين أو ثلاثة سافر أهله إلى مكة فذهب معهم، لاستحب له أن يحرم بعمرة حينئذ.
زيارة قبر النبي –صلى الله عليه وآله وسلم
زيارة القبر ذكرها معظم الذين صنفوا في المناسك من الحنابلة وغيرهم، وهذا الكلام ذكره ابن قدامة في المغني (1/521) وجماعة من المصنفين، وكذلك فقهاء المالكية والشافعية، بل إن ابن قدامة ذكر في ذلك القصة المشهورة عن العتبي في قصة الذي جاء إلى النبي –صلى الله عليه وسلم- ووقف عند القبر وقال:
يا خير من دفنت في الترب أعظمه فطاب من طيبهن القاع والأكم
نفسي الفداء لقبر أنت ساكنه فيه العفاف وفيه الجود والكرم
إلى آخر ما ذكر وأيضاً هذه القصة ذكرها ابن كثير في تفسيره (1/521)، واستغرب الكثيرون هذه القصة وإيرادها، وعلى كل حال فإن مسألة زيارة قبر النبي –صلى الله عليه وآله وسلم- لمن كان مقيماً في المدينة أو كان آتياً إليها فإن زيارة القبر مشروعة، كما هي زيارة قبور الناس كلهم؛ لقوله –صلى الله عليه وسلم-: (نهيتكم عن زيارة القبور، فزوروها) رواه مسلم (977) من حديث بريدة –رضي الله عنه-، وقبر النبي –صلى الله عليه وسلم- على وجه الخصوص، وكان ابن عمر وغيره من الصحابة –رضي الله عنهم- يأتون، ويقولون: السلام عليك يا رسول الله، السلام عليك يا أبا بكر، السلام عليك يا عمر، انظر ما رواه مالك في الموطأ (406). لكن شد الرحل لزيارة القبر ذكره معظم المصنفين في المناسك والفقهاء قد استنكره الإمام ابن تيمية –رحمه الله- وصنف فيه مصنفاً، وثارت فيه قضية في عهده مشهورة وصارت فيه مقالات بينه وبين السبكي وغيرهم.
وابن تيمية –رحمه الله- قال: إن الأحاديث الواردة في الباب كلها موضوعة، مثل: من حج ولم يزرني فقد جفاني، وغير ذلك من الأحاديث، وقال: إنها ليست واجبة بإجماع المسلمين، يقول ابن تيمية –رحمه الله-: والذي عليه الأئمة وأكثر العلماء، أنه غير مشروع ولا مأمور به، وقد أطال النفس في هذه المسألة في المصنفات المعروفة التي يمكن الرجوع إليها.
لكن نقول: إن شد الرحل يستحب أن يكون لزيارة المسجد النبوي لأن النبي –صلى الله عليه وسلم- ذكر فيه الفضيلة، ففي الحديث المتفق عليه عند البخاري (1189) ومسلم (1397) عن أبي هريرة –رضي الله عنه- عن النبي –صلى الله عليه وسلم- قال: (لا تشد الرحال إلا إلى ثلاثة مساجد المسجد الحرام، ومسجد الرسول –صلى الله عليه وسلم-، والمسجد الأقصى" فهذا دليل على عدم مشروعية شد الرحال إلى بقاع أخرى بنية التعبد لله عز وجل.
( الْعُمْرَةُ إِلَى الْعُمْرَةِ كَفَّارَةٌ لِمَا بَيْنَهُمَا، وَالْحَجُّ الْمَبْرُورُ لَيْسَ لَهُ جَزَاءٌ إِلاَّ الْجَنَّةُ ) ، وهذا الفضل العظيم للعمرة عامٌّ في كل حين، وأما في رمضان فإن فضلها يتضاعف؛ حتى قال علماء الأحناف بندبها في هذا الشهر خاصة فعن ابْن عَبَّاسٍ - رضي الله عنهما – قال: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم - لاِمْرَأَةٍ مِنَ الأَنْصَارِ: ( مَا مَنَعَكِ أَنْ تَحُجِّي مَعَنَا؟ ) قَالَتْ :كَانَ لَنَا نَاضِحٌ فَرَكِبَهُ أَبُوفُلاَنٍ وَابْنُهُ - لِزَوْجِهَا وَابْنِهَا - وَتَرَكَ نَاضِحًا نَنْضَحُ عَلَيْهِ. قَالَ : ( فَإِذَا كَانَ رَمَضَانُ اعْتَمِرِي فِيهِ فَإِنَّ عُمْرَةً فِي رَمَضَانَ حَجَّةٌ ) .
ويا له من فوز أن تكون كمن حج مع رسول الله صلى الله عليه وسلم فوقف معه بعرفة، وبات معه بمزدلفة، وأفاض بصحبته إلى منى، وطاف بجواره وسعى -كما هو المفهوم من ظاهر هذا الحديث-.
وإن مما يثلج الصدر أن نرى إقبال المسلمين على العمرة في هذا الشهر الفاضل، لكن هناك بعض التنبيهات والوقفات يحسن التنبيه إليها:
حكم العمرة
القول بعدم الوجوب هو قول مالك وأبي حنيفة ورواية عن أحمد ورواية عن الشافعي وكأنها المذهب القديم له.
والظاهر –والله أعلم- أن ما ذهب إليه الأكثرون والجمهور هو الراجح أن العمرة غير واجبة وذلك؛ لأن القرآن الكريم نص على وجوب الحج ولم يذكر العمرة في موضع من المواضع، وكذلك الرسول –صلى الله عليه وسلم- ذكر وجوب الحج وأكده كما في حديث: (أيها الناس قد فرض الله عليكم الحج فحجوا) رواه مسلم (1337) من حديث أبي هريرة –رضي الله عنه-، وحديث: (بني الإسلام على خمس) وغيرها، ولم يذكر العمرة، والحديث رواه البخاري (8) ومسلم (16) عن ابن عمر –رضي الله عنهما- بل ثبت في البخاري (46) ومسلم (11) من حديث أنس –رضي الله عنه- أن رجلاً قال: والله لا أزيد على هذا ولا أنقص منه، فقال –صلى الله عليه وسلم-: (أفلح إن صدق) أو (دخل الجنة إن صدق). وهذا الرجل لم يظهر أنه سيؤدي العمرة.
أما الأحاديث الواردة في العمرة فهي قسمان: أحاديث وردت في وجوب العمرة، وأحاديث وردت في عدم وجوب العمرة، وكلها لا تخلو من مقال، وأمثل ما ورد في هذا الباب ما جاء عن عائشة –رضي الله عنها- قالت: قلت: يا رسول الله على النساء جهاد؟ قال: (نعم. عليهن جهاد لا قتال فيه الحج والعمرة) رواه ابن ماجة (2901) وأحمد (25322) وهذا الحديث -وإن كان ظاهر سنده أنه جيد- إلا أن لفظه الآخر عن عائشة –رضي الله عنها- في البخاري (1520) ليس فيه ذكر العمرة وهو مشهور، قالت: يا رسول الله، نرى الجهاد أفضل العمل أفلا نجاهد؟ قال: (لكُنَّ –وفي رواية- (لَكِنَّ) أفضل الجهاد حج مبرور) ولم يذكر فيه العمرة، وهذا يعكر على لفظ العمرة خصوصاً أنها لم ترد في رواية النسائي للحديث رقم (2628)، فلعل زيادة العمرة في الحديث من قبيل الشاذ أو المعلول، فالأحاديث الواردة في إيجاب العمرة أو في عدم إيجابها ضعيفة، فنرجع إلى البراءة الأصلية، إذ الأصل براءة الذمة من إيجاب العمرة، ثم إن أعمال العمرة ليس فيها زيادة على ما في الحج ففيها الطواف والسعي والحلق أو التقصير، وهذه هي أعمال الحج، ولذلك جاء في الحديث: (دخلت العمرة في الحج) رواه مسلم (1218) عن جابر بن عبد الله –رضي الله عنهما-، فقد فَهِم بعضهم أنه من هذا الباب.
فالعمرة سنة وليست واجبة.
- بعض المعتمرين يهملون أهليهم الذين استرعاهم الله إياهم، فقد يسافر الأب والأم إلى مكة للعمرة، ويتركان أولادهما - من أجل الدراسة- في بلدهم، فيقضي الوالدان نصف رمضان أو أكثر في مكة، والأولاد طوال هذه المدة بدون رقيب، وقد يكونون من الصغار الذين لا يدركون، أو من المراهقين الذين يخشى أن ينـزلقوا في مزالق كبيرة - ذكورًا أو إناثًا- بسبب استفزاز شياطين الجن والإنس لهم، وكفى بالمرء إثمًا أن يضيع من يعول!
وقد يحدث الخطأ بصورة أخرى، وهي أن كثيرًا من الناس يسافرون بأهليهم إلى مكة، ثم يعتكف الأب في الحرم، أو يقضي غالب وقته فيه، ويغفل تمامًا عن مراقبة أبنائه وبناته، تاركًا لهم الحبل على الغارب؛ فينتج عن ذلك من المساوئ ما يندى له الجبين. ومن مظاهر ذلك ما رأيناه - ورآه غيرنا - في أطهر بقعة من التبرج، وتضييع الحشمة لدى بعض البنات.
حقًا، إن اصطحاب الأبناء إلى البلد الحرام أمر طيب، فيه تربية لهم، وتمكين لهم من إدراك فضيلة الزمان والمكان، ومضاعفة الحسنات، فإذا كان الأب رجلاً حازمًا يستطيع أن يحافظ على رعيته فحبذا ذاك، وأما إن كان عاجزًا عن رعايتهم ومراقبتهم، وضبط تصرفاتهم فليبقَ في بيته؛ طلبًا للسلامة من الفساد والضرر البالغ، الذي قد يلحق برعيته؛ فيرجع بوزرهم بدلاً من الرجوع بالثواب المضاعف.
- البعض من أئمة المساجد، ومن المصلحين، الآمرين بالمعروف، الناهين عن المنكر، والوعاظ، والموجهين يتركون ثغورهم ويؤمون مكة؛ ليعتمروا ويقضوا العشر الأواخر هناك، ولا ريب أن من كان مرتبطًا بإمامة أو وعظ أو وظيفة يحتاج إليها المسلمون؛ فإن الأوجب في حقه أن يبقى على ثغره؛ فإن في ذلك من تحصيل المصالح المتعدية خيرًا كثيرًا، وإن أبى إلا الذهاب للعمرة فليكن ذلك في مدة وجيزة يومًا أو يومين، يعود بعدها إلى مكانه؛ فإن من غير الحسن أن تخلو المساجد وغيرها من الوعاظ والمرشدين، والأئمة المؤثرين في هذا الزمان الفاضل - وخاصة العشر الأواخر-، فلينتبه الحريصون على الخير لذلك، ولينظروا إلى الأمور بميزان عادل.
تكرار العمرة
تكرار العمرة في السفر الواحد، فإن هذا لم ينقل عن النبي – صلى الله عليه وسلم- ولا عن أحد من أصحابه –رضي الله عنهم- إلا ما كان من أمر عائشة –رضي الله عنها- فإنها أحرمت بحج وعمرة في نسكها، ثم لم يطب خاطرها حتى قالت: يا رسول الله، يرجع الناس بحجة وعمرة، وأرجع بحجة، وكان النبي – صلى الله عليه وسلم – رجلاً سهلاً إذا هويت الشيء تابعها عليه، فقال لعبد الرحمن بن أبي بكر –رضي الله عنهما-: (اذهب بها فأعمرها من التنعيم) فخرجت عائشة –رضي الله عنها- واعتمرت، رواه البخاري (1561) ومسلم (1211) فتكون عائشة –رضي الله عنها- حينئذٍ أحرمت بعمرتين في سفر واحد، وهذا دليل على جواز إحداث أكثر من عمرة في سفر واحد، ولو لم يكن جائزاً لم يكن النبي – صلى الله عليه وسلم – ليطيع عائشة –رضي الله عنها-، ولا ليجاملها في أمره.
ولذلك نقول: من كان حاله مثل حال عائشة –رضي الله عنها-، فإنه يجوز له أن يذهب وأن يحرم للعمرة من غير كراهة ولا إشكال.
أما من كان بغير هذه المثابة، فإننا لا نأمره بالعمرة ولا ننهاه عنها، ولكن قال بعض السلف: إن بقاءه في مكة وطوافه بالبيت وصلاته فيه أفضل من عمرته. فبدلاً من أن يذهب ويتعب ثم يعود، قالوا: أن يطوف بالبيت أسبوعين أو ثلاثة أسابيع يعني: ثلاثة أطوفة أو أربعة هذا أفضل، لأن العمرة في حقيقة أمرها إنما هي طواف، وهذا لو أخبر به كثير من الناس لاقتنعوا، لأن بعض الناس قد يأتي من مسافات بعيدة، ويقول أريد أن أكرر العمرة، واحدة لي، وواحدة لأمي، وواحدة لأبي، فنقول له: العمرة حقيقتها الطواف بالبيت، فبإمكانك أن تطوف وبدلاً من ذهابك إلى الحل وإحرامك منه ثم رجوعك تكون في مدة مكثك قد طفت أربعة أو خمسة أطوفة، وخصوصاً إذا لم يكن في هذا تضييق ومشقة على الناس.
وعليه فتكرار العمرة في السفر الواحد غير مشروع، ولكن لا نثرِّب على من فعله، ولا نحجر على الناس أمراً واسعاً.
أما تكرار العمرة في أسفار متعددة فلا حرج فيه، فلو أن إنساناً سافر، ثم رجع مع أصدقائه، وبعد يومين أو ثلاثة سافر أهله إلى مكة فذهب معهم، لاستحب له أن يحرم بعمرة حينئذ.
زيارة قبر النبي –صلى الله عليه وآله وسلم
زيارة القبر ذكرها معظم الذين صنفوا في المناسك من الحنابلة وغيرهم، وهذا الكلام ذكره ابن قدامة في المغني (1/521) وجماعة من المصنفين، وكذلك فقهاء المالكية والشافعية، بل إن ابن قدامة ذكر في ذلك القصة المشهورة عن العتبي في قصة الذي جاء إلى النبي –صلى الله عليه وسلم- ووقف عند القبر وقال:
يا خير من دفنت في الترب أعظمه فطاب من طيبهن القاع والأكم
نفسي الفداء لقبر أنت ساكنه فيه العفاف وفيه الجود والكرم
إلى آخر ما ذكر وأيضاً هذه القصة ذكرها ابن كثير في تفسيره (1/521)، واستغرب الكثيرون هذه القصة وإيرادها، وعلى كل حال فإن مسألة زيارة قبر النبي –صلى الله عليه وآله وسلم- لمن كان مقيماً في المدينة أو كان آتياً إليها فإن زيارة القبر مشروعة، كما هي زيارة قبور الناس كلهم؛ لقوله –صلى الله عليه وسلم-: (نهيتكم عن زيارة القبور، فزوروها) رواه مسلم (977) من حديث بريدة –رضي الله عنه-، وقبر النبي –صلى الله عليه وسلم- على وجه الخصوص، وكان ابن عمر وغيره من الصحابة –رضي الله عنهم- يأتون، ويقولون: السلام عليك يا رسول الله، السلام عليك يا أبا بكر، السلام عليك يا عمر، انظر ما رواه مالك في الموطأ (406). لكن شد الرحل لزيارة القبر ذكره معظم المصنفين في المناسك والفقهاء قد استنكره الإمام ابن تيمية –رحمه الله- وصنف فيه مصنفاً، وثارت فيه قضية في عهده مشهورة وصارت فيه مقالات بينه وبين السبكي وغيرهم.
وابن تيمية –رحمه الله- قال: إن الأحاديث الواردة في الباب كلها موضوعة، مثل: من حج ولم يزرني فقد جفاني، وغير ذلك من الأحاديث، وقال: إنها ليست واجبة بإجماع المسلمين، يقول ابن تيمية –رحمه الله-: والذي عليه الأئمة وأكثر العلماء، أنه غير مشروع ولا مأمور به، وقد أطال النفس في هذه المسألة في المصنفات المعروفة التي يمكن الرجوع إليها.
لكن نقول: إن شد الرحل يستحب أن يكون لزيارة المسجد النبوي لأن النبي –صلى الله عليه وسلم- ذكر فيه الفضيلة، ففي الحديث المتفق عليه عند البخاري (1189) ومسلم (1397) عن أبي هريرة –رضي الله عنه- عن النبي –صلى الله عليه وسلم- قال: (لا تشد الرحال إلا إلى ثلاثة مساجد المسجد الحرام، ومسجد الرسول –صلى الله عليه وسلم-، والمسجد الأقصى" فهذا دليل على عدم مشروعية شد الرحال إلى بقاع أخرى بنية التعبد لله عز وجل.