1-الرياح العاتية تطفئ النيران، والرياح الهادئة لا تشعلها, والرياح الوسط هي الغاية.
وهكذا السفن في البحر, تغرقها الريح العاصفة, ويوقفها السكون, وتحركها الريح الطيبة الرخاء.
2 ـ عند الفقراء تنتشر الجريمة, حتى يقول علي ـ رضي الله عنه ـ: لو كان الفقر رجلاً لقتلته, ويكاد الفقر يكون كفراً, كما في الأثر.
وفي أوساط الثراء الفاحش جريمة من نوع آخر, وبدافع مختلف..
ذاك للحاجة والعوز.
وهذا للأشر والبطر.
وفي طبقة الوسط شيء من هذا وهذا, بيد أنها للفطرة أقرب, ولقبول الحق أسرع.
3 ـ المتشائم يقرأ حظه العاثر في كل شيء, حتى في كوب الماء تكون فيه القذاة, فإذا أصغاه ليشرب؛ كانت القذاة أقرب شيء إلى فمه!
والمتفائل بإفراط يغمض عينيه عن مشاهدة النقص والضرر, اعتماداً على روح مشرقة, تصلح لتجديد العزيمة, ولا تكفي لفهم السياق التاريخي.
4 ـ دين الله بين الغالي فيه والجافي عنه, وفي الأثر: يحمل هذا العلم من كل خلف عدوله, ينفون عنه تحريف الغالين, وتأويل الجاهلين, وانتحال المبطلين.
5 ـ في العمل والعبادة: (اكْلَفُوا مِنَ الْعَمَلِ مَا تُطِيقُونَ، فَإِنَّ اللَّهَ لاَ يَمَلُّ حَتَّى تَمَلُّوا) و(إِنَّ هَذَا الدِّينَ مَتِينٌ فَأَوْغِلُوا فِيهِ بِرِفْقٍ؛ فإنَّ المُنبَتَّ لَا أرضاً قَطَعَ, وَلَا ظَهْراً أَبْقَى)، ولكل عابد شِرة, ولكل شِرة فترة, فمن كانت فترته إلى سنة فقد هدي, ومن كانت إلى بدعة فقد هلك.
6 ـ في المواقف والأحداث, من استصحب التوسط أخذ من كل حظ بنسب, ومن كل خير بسبب, ومن لجأ إلى الحدّ (وهو أحد الطرفين) كان الغالب عليه العطب, وكان عاقبة أمره خسراً.
7 ـ في العلاقة إذا جمحت العاطفة أضرّت, حتى إن المحبّ الواله ربما يجافي العقل والدين ولا يبالي.
وإذا جمدت أورثت قسوة وخشونة وجفافاً, والعدل الوسط في الحكمة الراشدية العلويّة "أَحْبِبْ حَبِيبَكَ هَوْناً مَا عَسَى أَنْ يَكُونَ بَغِيضَكَ يَوْماً مَا، وَأَبْغِضْ بَغِيضَكَ هَوْناً مَا عَسَى أَنْ يَكُونَ حَبِيبَكَ يَوْماً مَا".
8 ـ قد يزهد المرءُ في الدنيا بأكثر مما يشرع؛ فيجور على نفسه وولده, ويخالف مقتضى الفطرة والسنة.
وربما ارتدّ ذلك رغبة في الدنيا من وجه آخر, كالرغبة في الثناء والمديح, والطمع في الجاه, حتى إنه يخاف أن يُعرف عنه شيء من التعلق بمصالح الحياة فينكسر عند الناس جاهُه! أو يحمّل نفسه من المشاقّ ما يبغّض إليه الديانة والتعبّد, أو ينفّر منها الناس.
9 ـ قد يتعمّق الباحث في المسائل العلميّة, حتى تتحول إلى أغلوطات ومماحكات وتعجيز.
ولمثل هذا يُساق أثر عمر حين قال لابن عباس -رضي الله عنهما-: إنه يكره إيغالهم في العلم!
قال: ولم يا أمير المؤمنين؟
قال: أخشى أن يتحاقّقوا!
والعدل في لزوم المحكمات والجوامع, والأخذ بما تكثر حاجة الناس إليه, والاعتماد على الكتاب المنزل, ومشهور السنة المتلقّى عند الأئمة بالقبول, ومواضع الإجماع الصحيح.
10 ـ قد يشاء المرء أن يكون وسطاً, فيختلق طريقين ويضع نفسه بينهما.
والوسطيّة نسبيّة, لكنها تعتمد على أمرين:
أحدهما: الفهم السليم للنصوص والمقاصد الشرعيّة, فبها يُضبط الميزان, ويستقيم الأمر, ويصلح الخلل.
والثاني: اعتدال النفس في تكوينها واستعدادها, فبعض الطبائع جُبِلت على شيء من الميل إلى إفراط أو تفريط.
ثم إن الوسط يعتمد على الإطار الذي تنظر إليه, فإذا نظرت إلى شريحة المتديّنين فهناك وسط, أو نظرت إلى العامة فهناك وسط, أو الفقهاء, فهناك وسط...
عليك بأوساط الأمور فإنها نجاة ولا تركب ذلولاً ولا صعبا
11 ـ الوسط ليس لوناً واحداً, بل طريق لاحِب وخطّ واسع, وربما يكون فيه وسط الوسط, ويمينه وشماله, وكلها وسط, وهذا من التنوّع والسعة ما دام ضمن التزام الشريعة.
وإذا كان جيل الصحابة أنموذج الوسط؛ فقد كان فيهم أصناف من التنوّع في عملهم وعبادتهم وشخوصهم, والوسط ليس طمساً لتميّز إنسان عن غيره, بل هو معيار مرِن يسع الصالحين من عباد الله.
12 ـ القسمة الثلاثيّة تكاد تكون مطّردة في كل شيء, وهي -وإن لم تكن منضبطة- ضرورة علميّة وعمليّة, في تقسيم الأشياء وفرزها وتصنيفها؛ ففي المال والجمال والعقل والعلم والعمل واللون والصحة والخلق.
ثمّة حدّ أعلى... وحدّ أدنى, ووسط بينهما.
13 ـ على أن بلوغ الغاية بذاته مطلب, إذا لم تصحبه المآخذ والعلل؛ فتمام الجمال حسن, سوى أن العيوب تكثر فيه, فيسرع إليه الغرور, والتعرّض, والتغيّر.
وتمام العقل ميزة, إذا لم يُفض إلى تردّد وشكّ وحيرة وإفراط في الحساب.
14 ـ من الحكمة الإلهيّة أن الوسط أوسع انتشاراً وأكثر حضوراً, وأن الطرفين هما الأقل, فالمعتدلون إسلامياً هم الأغلب, وأصحاب الغلوّ أو الجفاء أقلّ, وكذا الأمر في سائر الشرائح التي هي محلّ النظر.
بل في الأوصاف الفطريّة الخلقيّة, عدا عن الكسبيّة, الوسط أكثر, فالثراء الفاحش أو الجمال المذهل, أو الذكاء المفرط قليل, والأغلب متوسط, أو أقل من المتوسط.
15 ـ ومن حسن القول أن يكون من معاني الوسط: الخيار, فالوسط خير, والخير وسط, وإذا تم للمرء تحصيل الأكمل في الفضائل والخصال, وتجنب لوازمها المعتادة من المفاسد كان ذلك هو الخير, بل خير الخير.
وإلا فما دونه أفضل منه، والوسط هو الفضيلة، والفضيلة هي الوسط بين رذيلتين.
فالقدر المعتدل من العلم والفهم قد يكون أنفع لصاحبه وللناس من غيره.
وقليل ينفع, خير من كثير يضرّ, وهذه الجمل لها حديث فصل في مقالة سالفة.
والله يدعو إلى دار السلام ويهدي من يشاء إلى صراط مستقيم .
وهكذا السفن في البحر, تغرقها الريح العاصفة, ويوقفها السكون, وتحركها الريح الطيبة الرخاء.
2 ـ عند الفقراء تنتشر الجريمة, حتى يقول علي ـ رضي الله عنه ـ: لو كان الفقر رجلاً لقتلته, ويكاد الفقر يكون كفراً, كما في الأثر.
وفي أوساط الثراء الفاحش جريمة من نوع آخر, وبدافع مختلف..
ذاك للحاجة والعوز.
وهذا للأشر والبطر.
وفي طبقة الوسط شيء من هذا وهذا, بيد أنها للفطرة أقرب, ولقبول الحق أسرع.
3 ـ المتشائم يقرأ حظه العاثر في كل شيء, حتى في كوب الماء تكون فيه القذاة, فإذا أصغاه ليشرب؛ كانت القذاة أقرب شيء إلى فمه!
والمتفائل بإفراط يغمض عينيه عن مشاهدة النقص والضرر, اعتماداً على روح مشرقة, تصلح لتجديد العزيمة, ولا تكفي لفهم السياق التاريخي.
4 ـ دين الله بين الغالي فيه والجافي عنه, وفي الأثر: يحمل هذا العلم من كل خلف عدوله, ينفون عنه تحريف الغالين, وتأويل الجاهلين, وانتحال المبطلين.
5 ـ في العمل والعبادة: (اكْلَفُوا مِنَ الْعَمَلِ مَا تُطِيقُونَ، فَإِنَّ اللَّهَ لاَ يَمَلُّ حَتَّى تَمَلُّوا) و(إِنَّ هَذَا الدِّينَ مَتِينٌ فَأَوْغِلُوا فِيهِ بِرِفْقٍ؛ فإنَّ المُنبَتَّ لَا أرضاً قَطَعَ, وَلَا ظَهْراً أَبْقَى)، ولكل عابد شِرة, ولكل شِرة فترة, فمن كانت فترته إلى سنة فقد هدي, ومن كانت إلى بدعة فقد هلك.
6 ـ في المواقف والأحداث, من استصحب التوسط أخذ من كل حظ بنسب, ومن كل خير بسبب, ومن لجأ إلى الحدّ (وهو أحد الطرفين) كان الغالب عليه العطب, وكان عاقبة أمره خسراً.
7 ـ في العلاقة إذا جمحت العاطفة أضرّت, حتى إن المحبّ الواله ربما يجافي العقل والدين ولا يبالي.
وإذا جمدت أورثت قسوة وخشونة وجفافاً, والعدل الوسط في الحكمة الراشدية العلويّة "أَحْبِبْ حَبِيبَكَ هَوْناً مَا عَسَى أَنْ يَكُونَ بَغِيضَكَ يَوْماً مَا، وَأَبْغِضْ بَغِيضَكَ هَوْناً مَا عَسَى أَنْ يَكُونَ حَبِيبَكَ يَوْماً مَا".
8 ـ قد يزهد المرءُ في الدنيا بأكثر مما يشرع؛ فيجور على نفسه وولده, ويخالف مقتضى الفطرة والسنة.
وربما ارتدّ ذلك رغبة في الدنيا من وجه آخر, كالرغبة في الثناء والمديح, والطمع في الجاه, حتى إنه يخاف أن يُعرف عنه شيء من التعلق بمصالح الحياة فينكسر عند الناس جاهُه! أو يحمّل نفسه من المشاقّ ما يبغّض إليه الديانة والتعبّد, أو ينفّر منها الناس.
9 ـ قد يتعمّق الباحث في المسائل العلميّة, حتى تتحول إلى أغلوطات ومماحكات وتعجيز.
ولمثل هذا يُساق أثر عمر حين قال لابن عباس -رضي الله عنهما-: إنه يكره إيغالهم في العلم!
قال: ولم يا أمير المؤمنين؟
قال: أخشى أن يتحاقّقوا!
والعدل في لزوم المحكمات والجوامع, والأخذ بما تكثر حاجة الناس إليه, والاعتماد على الكتاب المنزل, ومشهور السنة المتلقّى عند الأئمة بالقبول, ومواضع الإجماع الصحيح.
10 ـ قد يشاء المرء أن يكون وسطاً, فيختلق طريقين ويضع نفسه بينهما.
والوسطيّة نسبيّة, لكنها تعتمد على أمرين:
أحدهما: الفهم السليم للنصوص والمقاصد الشرعيّة, فبها يُضبط الميزان, ويستقيم الأمر, ويصلح الخلل.
والثاني: اعتدال النفس في تكوينها واستعدادها, فبعض الطبائع جُبِلت على شيء من الميل إلى إفراط أو تفريط.
ثم إن الوسط يعتمد على الإطار الذي تنظر إليه, فإذا نظرت إلى شريحة المتديّنين فهناك وسط, أو نظرت إلى العامة فهناك وسط, أو الفقهاء, فهناك وسط...
عليك بأوساط الأمور فإنها نجاة ولا تركب ذلولاً ولا صعبا
11 ـ الوسط ليس لوناً واحداً, بل طريق لاحِب وخطّ واسع, وربما يكون فيه وسط الوسط, ويمينه وشماله, وكلها وسط, وهذا من التنوّع والسعة ما دام ضمن التزام الشريعة.
وإذا كان جيل الصحابة أنموذج الوسط؛ فقد كان فيهم أصناف من التنوّع في عملهم وعبادتهم وشخوصهم, والوسط ليس طمساً لتميّز إنسان عن غيره, بل هو معيار مرِن يسع الصالحين من عباد الله.
12 ـ القسمة الثلاثيّة تكاد تكون مطّردة في كل شيء, وهي -وإن لم تكن منضبطة- ضرورة علميّة وعمليّة, في تقسيم الأشياء وفرزها وتصنيفها؛ ففي المال والجمال والعقل والعلم والعمل واللون والصحة والخلق.
ثمّة حدّ أعلى... وحدّ أدنى, ووسط بينهما.
13 ـ على أن بلوغ الغاية بذاته مطلب, إذا لم تصحبه المآخذ والعلل؛ فتمام الجمال حسن, سوى أن العيوب تكثر فيه, فيسرع إليه الغرور, والتعرّض, والتغيّر.
وتمام العقل ميزة, إذا لم يُفض إلى تردّد وشكّ وحيرة وإفراط في الحساب.
14 ـ من الحكمة الإلهيّة أن الوسط أوسع انتشاراً وأكثر حضوراً, وأن الطرفين هما الأقل, فالمعتدلون إسلامياً هم الأغلب, وأصحاب الغلوّ أو الجفاء أقلّ, وكذا الأمر في سائر الشرائح التي هي محلّ النظر.
بل في الأوصاف الفطريّة الخلقيّة, عدا عن الكسبيّة, الوسط أكثر, فالثراء الفاحش أو الجمال المذهل, أو الذكاء المفرط قليل, والأغلب متوسط, أو أقل من المتوسط.
15 ـ ومن حسن القول أن يكون من معاني الوسط: الخيار, فالوسط خير, والخير وسط, وإذا تم للمرء تحصيل الأكمل في الفضائل والخصال, وتجنب لوازمها المعتادة من المفاسد كان ذلك هو الخير, بل خير الخير.
وإلا فما دونه أفضل منه، والوسط هو الفضيلة، والفضيلة هي الوسط بين رذيلتين.
فالقدر المعتدل من العلم والفهم قد يكون أنفع لصاحبه وللناس من غيره.
وقليل ينفع, خير من كثير يضرّ, وهذه الجمل لها حديث فصل في مقالة سالفة.
والله يدعو إلى دار السلام ويهدي من يشاء إلى صراط مستقيم .