"وَالتِّينِ وَالزَّيْتُونِ*وَطُورِ سِينِينَ*وَهَذَا الْبَلَدِ الْأَمِينِ*لَقَدْ خَلَقْنَا الْإِنسَانَ فِي أَحْسَنِ تَقْوِيمٍ*ثُمَّ رَدَدْنَاهُ أَسْفَلَ سَافِلِينَ*إِلَّا الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ فَلَهُمْ أَجْرٌ غَيْرُ مَمْنُونٍ*فَمَا يُكَذِّبُكَ بَعْدُ بِالدِّينِ*أَلَيْسَ اللَّهُ بِأَحْكَمِ الْحَاكِمِينَ"[التين:1-8].
أقسم الله سبحانه وتعالى بثلاثة أقسام:[color=blue]
1- التين والزيتون.
2- طور سنين.
3- البلد الأمين.[/color]
وإذا أخذنا بالتفسير القائل أن المقصود بقول الله سبحانه وتعالى: "وَالتِّينِ وَالزَّيْتُونِ" منابتها في الشام وفلسطين، وقول الله سبحانه وتعالى: "وَطُورِ سِينِينَ" : أنه طور سيناء.
فمعنى ذلك: أن هذا القسم يجمع نبوءات الأنبياء الكرام كلهم، عليهم الصلاة والسلام ويؤكد أن دعوتهم واحدة ودينهم واحد، وهذا يعطي قدراً كبيراً من الأهمية، لبلاد العالم الإسلامي كلها، فالرقعة الإسلامية كلها رقعة اختارها الله سبحانه وتعالى واجتباها واصطفاها وميزها.
ونحن حينما نتكلم عن خصوصية هذا البلد المبارك لا يعني أننا نمارس نوعاً من الإقصاء لبلاد أخرى، فضلّها الله سبحانه وتعالى وكرمها.
ولذلك فالعالم الإسلامي كله مجموعة تتكامل فيما بينها.
والعالم -اليوم- يشهد ما يسمى بـ: صناعة الأحلاف السياسية، والعسكرية، والاقتصادية، حتى الشركات الكبرى التي تحسب رؤوس أموالها بالمليارات من الدولارات، تسعى إلى مزيد من التحالفات، حتى تأخذ حصة أكبر من السوق العالمية، خصوصاً في عصر العولمة.
إذاً هذا معنى واضح وجلي وجميل في القرآن.
وفي السياق نفسه ذكر الله تعالى البلد الأمين.
والمفسرون وإن اختلفوا حول التين والزيتون وطور سنين فإنا لا نجد اختلافا حول البلد الأمين؛ لأن الله سبحانه وتعالى سماه باسمه معرفاً بـ (ال) البلد وهذا ينطلق إلى مكة بمجرد سماعه، حتى لو لم يكن معه شيء آخر.
ثم أشار إليه، فقال: "وَهَذَا الْبَلَدِ" يؤكد أن الحديث عن معهود مرئي مشاهد بالعيان، ثم عرفه ثالثاً بهذا الوصف الجميل الدائم: " الْأَمِينِ".
ولهذا لم يختلف المفسرون في تعريف البلد الأمين ما هو؟
بل لم يختلف المفسرون، حينما أقسم الله سبحانه وتعالى بقوله: "لَا أُقْسِمُ بِهَذَا الْبَلَدِ*وَأَنتَ حِلٌّ بِهَذَا الْبَلَدِ"[البلد:1-2] أن المقصود به مكة المكرمة.
بل لم يختلفوا عندما قال سبحانه وتعالى "رَبَّ هَذِهِ الْبَلْدَةِ"[النمل:91] أن المقصود بها مكة.
ولذ لما قال النبي صلى الله عليه وسلم يوم النحر :أي بلد هذا؟ أليس البلدة؟ قال الناس كلهم: بلى يا رسول الله.
ففي هذا إشارة إلى:
[color=blue]أولاً:[/color]أن دين الإسلام له وضوح وقوة ونصاعة لا توجد في الأديان السابقة كلها وكيف لا، وقد اختاره الله سبحانه وتعالى ليكون خاتمة الرسالات.
[color=blue]ثانياً:[/color]أن موطن هذا الدين الأصلي ومنطلقه ومهبط الوحي وموئل الرسالة له من الخصوصية والتمييز والفضيلة ما ليس لغيره.
وفي الآيات أن الله سبحانه وتعالى جعل مناط التكريم هو الإنسان؛ فإِنَّ الأَرْضَ لاَ تُقَدِّسُ أَحَدًا وَإِنَّمَا يُقَدِّسُ الإِنْسَانَ عَمَلُهُ. كما قال سلمان الفارسي رضي الله عنه.
فقداسة هذه الأرض بقداسة إنسانها الذي جعل الله له تكريماً ومزية، كما قال سبحانه وتعالى: "وَلَقَدْ كَرَّمْنَا بَنِي آدَمَ"[الإسراء:70].
ثم هناك الكرامة الخاصة للمسلم الذي حفظ الله تعالى دمه وماله وعرضه حتى كان النبي صلى الله عليه وسلم يقول في حجة الوداع في خطبته الشهيرة: (إِنَّ دِمَاءَكُمْ، وَأَمْوَالَكُمْ، وَأَعْرَاضَكُمْ، وَأَبْشَارَكُمْ عَلَيْكُمْ حَرَامٌ، كَحُرْمَةِ يَوْمِكُمْ هَذَا، فِي شَهْرِكُمْ هَذَا، فِي بَلَدِكُمْ هَذَا، أَلاَ هَلْ بَلَّغْتُ؟). قالوا: نَعَمْ . قَالَ: (اللَّهُمَّ اشْهَدْ، فَلْيُبَلِّغِ الشَّاهِدُ الْغَائِبَ، فَإِنَّهُ رُبَّ مُبَلِّغٍ يُبَلِّغُهُ مَنْ هُوَ أَوْعَى لَهُ فَكَانَ كَذَلِكَ - قَالَ - لاَ تَرْجِعُوا بَعْدِي كُفَّارًا يَضْرِبُ بَعْضُكُمْ رِقَابَ بَعْضٍ ).رواه البخاري ومسلم.
وهذا واضح في قوله سبحانه وتعالى -هنا-:"لَقَدْ خَلَقْنَا الْإِنسَانَ فِي أَحْسَنِ تَقْوِيمٍ" وقوله: "إِلَّا الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ".
فهذا بلد الإيمان البلد الأمين، بلد الذين آمنوا وعملوا الصالحات.
وهذه دعوة إبراهيم عليه السلام، حينما يقول: "رَبِّ اجْعَلْ هََذَا بَلَدًا آمِنًا وَارْزُقْ أَهْلَهُ مِنَ الثَّمَرَاتِ مَنْ آمَنَ مِنْهُم بِاللّهِ وَالْيَوْمِ الآخِرِ"[البقرة:126].
في هذه الدعوة ثلاثة معان:
1- أن يجعل الله سبحانه وتعالى هذا البلد آمناً وإبراهيم نبي من أولي العزم لكن هل كان يدري مدى ما تصل إليه دعوته العظيمة هذه، أن يجعل الله تعالى هذه المهامه التي يخاف فيها الذئب، وكان الناس فيها يقتل بعضهم بعضاً ويسبي بعضهم بعضاً ولم يكن فيها حضارة ولا مدنية ولا تواصل ولا بناء.
ثم يأذن الله سبحانه وتعالى أن تتحول إلى واحة من واحات الأمن والإيمان والمدنية حتى قال النبي صلى الله عليه وسلم: (يَسِيرَ الرَّاكِبُ مِنْ صَنْعَاءَ إِلَى حَضْرَمَوْتَ، لاَ يَخَافُ إِلاَّ اللَّهَ أَوِ الذِّئْبَ عَلَى غَنَمِهِ...) رواه البخاري.
فيضرب الأمن بجرانه في هذه الرقعة الواسعة والمهيعة الممتدة وتنتهي كل ألوان العدوان التي كانت تمارسها العصابات في الجاهلية وفي غيرها.
2- "وَارْزُقْ أَهْلَهُ مِنَ الثَّمَرَاتِ"[البقرة:126].
والله أعلم هل كان إبراهيم يتصور ما سوف تبلغه دعوته في هذه الصحراء الجرداء، حيث لا ماء ولا مرعى ولا مظهر من مظاهر الحياة التي توجد في جنان الدنيا ومواقعها إلا أن الله سبحانه وتعالى يأذن أن يوجد فيها أغلى ثروة مادية وهي: (النفط) .
حتى إنني أتذكر قول النبي صلى الله عليه وسلم -كما في صحيح البخاري- عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ رضي الله عنه أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم قَالَ: (فَبَيْنَا أَنَا نَائِمٌ أُتِيتُ بِمَفَاتِيحِ خَزَائِنِ الأَرْضِ، فَوُضِعَتْ فِي يَدِي ) أي من غير كبير جهد ولا كد، حتى وهو نائم عليه الصلاة والسلام ولم يكن الناس حتى الذين سمعوا كلمات النبي صلى الله عليه وسلم، يتخيلون حقيقة هذا الرزق وهذه البركة، التي دعا بها النبي صلى الله عليه وسلم لمكة وللمدينة وما حولها، من سعة الرزق والفضل والخير والعطاء.
3- "مَنْ آمَنَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الآخِرِ"[البقر:177] فيأذن الله سبحانه وتعالى أن يكون هذا البلد موئلاً للإيمان ومهبطاً للوحي ومستقراً للرسالة وهكذا تجمعت هذه الأضلاع الثلاثة: الإيمان والأمن والرزق.
هناك سر كبير، في الجمع بين هذه المعاني ولعلي لا أذهب بعيداً إذا قلت: إن الرزق والأمن ركنان لابد منهما للحياة وقد امتن الله سبحانه وتعالى على العباد كثيراً بأن أطعمهم من جوع وآمنهم من خوف!
ويأتي الأمر الثالث وهو (الإيمان)، إشارة إلى أن هذه المقدرات هي من أعظم أسباب بقاء الإيمان ونموه.
فالإيمان والتوفيق والعلم والتقدم والحضارة لا يمكن أن تستقر في بلد يعاني المسغبة والجوع والفقر وينشغل الإنسان فيه بلقمة العيش ويخاف على نفسه وأهله.
فكانت هذه هي القاعدة الطبيعية الصحيحة أن يوجد الأمن والرزق، حتى تنطلق دعوة الله عز وجل من هذه البلاد لتشمل أنحاء المعمورة.
وليس غريباً أن نجد ـ اليوم بحمد الله ـ المؤسسات الخيرية والجمعيات التي تنطلق من هذا البلد يداً ممتدةً لكل الجياع والفقراء والأيتام والمحتاجين والجهلة في أنحاء العالم.. تقدم لهم الهداية بيد وتقدم لهم لقمة العيش والغذاء والكساء باليد الأخرى.
ولعل هذا من أسباب حفظ الله سبحانه وتعالى لهذا البلد، وبقاء الخيرية فيه وبقاء الأمن ودفع الله سبحانه وتعالى كثيراً من الغوائل والمشكلات.
وفي صلح الحديبية عندما تعاهدت قريش، مع النبي صلى الله عليه وسلم، يقول الزهري: إنه بعد هذا الصلح أمن الناس بعضهم بعضاً، حتى إنه لم يكلم أحد يعقل في الإسلام إلا دخل فيه.
أي: إن قبول الناس للدعوة والخير إذا كانت عقولهم مستقرة وهادئة يكون أسرع وأكبر، بينما إذا كان الإنسان يحاذر خوفاً أو جزعاً أو قلقاً أو جوعاً فإنه لا يستطيع أن يفكر بشكل صحيح ولا أن يسمع الخطاب ولا أن يرد الجواب.
هذه البلاد، التي أذن الله جل جلاله -إلى نهاية الدنيا- أن تكون محضن الحرمين الشريفين اللذين اختارهما الله سبحانه وتعالى اختياراً ربانياً، على علم، "وَرَبُّكَ يَخْلُقُ مَا يَشَاء وَيَخْتَارُ"[القصص:68].
مكة المكرمة أحب البلاد إلى الله، كما يقول النبي صلى الله عليه وسلم في حديث عبد الله بن عدي: (والله إنك لخير البلاد وأحب البلاد إلى الله) يقول هذا، وهو يغادرها صلى الله عليه وسلم قبل الهجرة، فخص جل جلاله مكة المكرمة بالحب، وجعلها مثابة للناس وأمنا، تثوب إليها قلوبهم ولا تقضي منها وطراً، واليوم يشهد العالم كثيراً من التجمعات والمهرجانات للرياضة أو التجارة أو غبرها، ويبذل المنظمون لها الكثير من الجوائز والمغريات والتسهيلات، والتنقلات والرحلات الإضافية و... و... من أجل أن يفلحوا في حشد عدد أكبر إلى مكان المهرجان، أما مكة شرفها الله فإن الأمر منعكس تماماً فالحاجة ملحة إلى أن يتم تنظيم وتفويج الذين يريدون المجيء إلى مكة بدافع إيماني ذاتي ولو أن كل من أراد الحج أو العمرة إلى مكة جاءها؛ لضاق بهم رحب المكان، ولما اتسعت لهم فجاج مكة وشعابها .
فانظر هذه الروح هذه الأفئدة من الناس التي تهوي إلى هذا المكان الطاهر المبارك، وكم هي بحاجة إلى حفظ الأمن وحفظ الطريق، وأن تكون هذه البلدة واحةً آمنةً مطمئنةً، كما أذن الله -تبارك وتعالى- وجعل ذلك من الشريعة، وجعله من القدر.
أقسم الله سبحانه وتعالى بثلاثة أقسام:[color=blue]
1- التين والزيتون.
2- طور سنين.
3- البلد الأمين.[/color]
وإذا أخذنا بالتفسير القائل أن المقصود بقول الله سبحانه وتعالى: "وَالتِّينِ وَالزَّيْتُونِ" منابتها في الشام وفلسطين، وقول الله سبحانه وتعالى: "وَطُورِ سِينِينَ" : أنه طور سيناء.
فمعنى ذلك: أن هذا القسم يجمع نبوءات الأنبياء الكرام كلهم، عليهم الصلاة والسلام ويؤكد أن دعوتهم واحدة ودينهم واحد، وهذا يعطي قدراً كبيراً من الأهمية، لبلاد العالم الإسلامي كلها، فالرقعة الإسلامية كلها رقعة اختارها الله سبحانه وتعالى واجتباها واصطفاها وميزها.
ونحن حينما نتكلم عن خصوصية هذا البلد المبارك لا يعني أننا نمارس نوعاً من الإقصاء لبلاد أخرى، فضلّها الله سبحانه وتعالى وكرمها.
ولذلك فالعالم الإسلامي كله مجموعة تتكامل فيما بينها.
والعالم -اليوم- يشهد ما يسمى بـ: صناعة الأحلاف السياسية، والعسكرية، والاقتصادية، حتى الشركات الكبرى التي تحسب رؤوس أموالها بالمليارات من الدولارات، تسعى إلى مزيد من التحالفات، حتى تأخذ حصة أكبر من السوق العالمية، خصوصاً في عصر العولمة.
إذاً هذا معنى واضح وجلي وجميل في القرآن.
وفي السياق نفسه ذكر الله تعالى البلد الأمين.
والمفسرون وإن اختلفوا حول التين والزيتون وطور سنين فإنا لا نجد اختلافا حول البلد الأمين؛ لأن الله سبحانه وتعالى سماه باسمه معرفاً بـ (ال) البلد وهذا ينطلق إلى مكة بمجرد سماعه، حتى لو لم يكن معه شيء آخر.
ثم أشار إليه، فقال: "وَهَذَا الْبَلَدِ" يؤكد أن الحديث عن معهود مرئي مشاهد بالعيان، ثم عرفه ثالثاً بهذا الوصف الجميل الدائم: " الْأَمِينِ".
ولهذا لم يختلف المفسرون في تعريف البلد الأمين ما هو؟
بل لم يختلف المفسرون، حينما أقسم الله سبحانه وتعالى بقوله: "لَا أُقْسِمُ بِهَذَا الْبَلَدِ*وَأَنتَ حِلٌّ بِهَذَا الْبَلَدِ"[البلد:1-2] أن المقصود به مكة المكرمة.
بل لم يختلفوا عندما قال سبحانه وتعالى "رَبَّ هَذِهِ الْبَلْدَةِ"[النمل:91] أن المقصود بها مكة.
ولذ لما قال النبي صلى الله عليه وسلم يوم النحر :أي بلد هذا؟ أليس البلدة؟ قال الناس كلهم: بلى يا رسول الله.
ففي هذا إشارة إلى:
[color=blue]أولاً:[/color]أن دين الإسلام له وضوح وقوة ونصاعة لا توجد في الأديان السابقة كلها وكيف لا، وقد اختاره الله سبحانه وتعالى ليكون خاتمة الرسالات.
[color=blue]ثانياً:[/color]أن موطن هذا الدين الأصلي ومنطلقه ومهبط الوحي وموئل الرسالة له من الخصوصية والتمييز والفضيلة ما ليس لغيره.
وفي الآيات أن الله سبحانه وتعالى جعل مناط التكريم هو الإنسان؛ فإِنَّ الأَرْضَ لاَ تُقَدِّسُ أَحَدًا وَإِنَّمَا يُقَدِّسُ الإِنْسَانَ عَمَلُهُ. كما قال سلمان الفارسي رضي الله عنه.
فقداسة هذه الأرض بقداسة إنسانها الذي جعل الله له تكريماً ومزية، كما قال سبحانه وتعالى: "وَلَقَدْ كَرَّمْنَا بَنِي آدَمَ"[الإسراء:70].
ثم هناك الكرامة الخاصة للمسلم الذي حفظ الله تعالى دمه وماله وعرضه حتى كان النبي صلى الله عليه وسلم يقول في حجة الوداع في خطبته الشهيرة: (إِنَّ دِمَاءَكُمْ، وَأَمْوَالَكُمْ، وَأَعْرَاضَكُمْ، وَأَبْشَارَكُمْ عَلَيْكُمْ حَرَامٌ، كَحُرْمَةِ يَوْمِكُمْ هَذَا، فِي شَهْرِكُمْ هَذَا، فِي بَلَدِكُمْ هَذَا، أَلاَ هَلْ بَلَّغْتُ؟). قالوا: نَعَمْ . قَالَ: (اللَّهُمَّ اشْهَدْ، فَلْيُبَلِّغِ الشَّاهِدُ الْغَائِبَ، فَإِنَّهُ رُبَّ مُبَلِّغٍ يُبَلِّغُهُ مَنْ هُوَ أَوْعَى لَهُ فَكَانَ كَذَلِكَ - قَالَ - لاَ تَرْجِعُوا بَعْدِي كُفَّارًا يَضْرِبُ بَعْضُكُمْ رِقَابَ بَعْضٍ ).رواه البخاري ومسلم.
وهذا واضح في قوله سبحانه وتعالى -هنا-:"لَقَدْ خَلَقْنَا الْإِنسَانَ فِي أَحْسَنِ تَقْوِيمٍ" وقوله: "إِلَّا الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ".
فهذا بلد الإيمان البلد الأمين، بلد الذين آمنوا وعملوا الصالحات.
وهذه دعوة إبراهيم عليه السلام، حينما يقول: "رَبِّ اجْعَلْ هََذَا بَلَدًا آمِنًا وَارْزُقْ أَهْلَهُ مِنَ الثَّمَرَاتِ مَنْ آمَنَ مِنْهُم بِاللّهِ وَالْيَوْمِ الآخِرِ"[البقرة:126].
في هذه الدعوة ثلاثة معان:
1- أن يجعل الله سبحانه وتعالى هذا البلد آمناً وإبراهيم نبي من أولي العزم لكن هل كان يدري مدى ما تصل إليه دعوته العظيمة هذه، أن يجعل الله تعالى هذه المهامه التي يخاف فيها الذئب، وكان الناس فيها يقتل بعضهم بعضاً ويسبي بعضهم بعضاً ولم يكن فيها حضارة ولا مدنية ولا تواصل ولا بناء.
ثم يأذن الله سبحانه وتعالى أن تتحول إلى واحة من واحات الأمن والإيمان والمدنية حتى قال النبي صلى الله عليه وسلم: (يَسِيرَ الرَّاكِبُ مِنْ صَنْعَاءَ إِلَى حَضْرَمَوْتَ، لاَ يَخَافُ إِلاَّ اللَّهَ أَوِ الذِّئْبَ عَلَى غَنَمِهِ...) رواه البخاري.
فيضرب الأمن بجرانه في هذه الرقعة الواسعة والمهيعة الممتدة وتنتهي كل ألوان العدوان التي كانت تمارسها العصابات في الجاهلية وفي غيرها.
2- "وَارْزُقْ أَهْلَهُ مِنَ الثَّمَرَاتِ"[البقرة:126].
والله أعلم هل كان إبراهيم يتصور ما سوف تبلغه دعوته في هذه الصحراء الجرداء، حيث لا ماء ولا مرعى ولا مظهر من مظاهر الحياة التي توجد في جنان الدنيا ومواقعها إلا أن الله سبحانه وتعالى يأذن أن يوجد فيها أغلى ثروة مادية وهي: (النفط) .
حتى إنني أتذكر قول النبي صلى الله عليه وسلم -كما في صحيح البخاري- عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ رضي الله عنه أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم قَالَ: (فَبَيْنَا أَنَا نَائِمٌ أُتِيتُ بِمَفَاتِيحِ خَزَائِنِ الأَرْضِ، فَوُضِعَتْ فِي يَدِي ) أي من غير كبير جهد ولا كد، حتى وهو نائم عليه الصلاة والسلام ولم يكن الناس حتى الذين سمعوا كلمات النبي صلى الله عليه وسلم، يتخيلون حقيقة هذا الرزق وهذه البركة، التي دعا بها النبي صلى الله عليه وسلم لمكة وللمدينة وما حولها، من سعة الرزق والفضل والخير والعطاء.
3- "مَنْ آمَنَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الآخِرِ"[البقر:177] فيأذن الله سبحانه وتعالى أن يكون هذا البلد موئلاً للإيمان ومهبطاً للوحي ومستقراً للرسالة وهكذا تجمعت هذه الأضلاع الثلاثة: الإيمان والأمن والرزق.
هناك سر كبير، في الجمع بين هذه المعاني ولعلي لا أذهب بعيداً إذا قلت: إن الرزق والأمن ركنان لابد منهما للحياة وقد امتن الله سبحانه وتعالى على العباد كثيراً بأن أطعمهم من جوع وآمنهم من خوف!
ويأتي الأمر الثالث وهو (الإيمان)، إشارة إلى أن هذه المقدرات هي من أعظم أسباب بقاء الإيمان ونموه.
فالإيمان والتوفيق والعلم والتقدم والحضارة لا يمكن أن تستقر في بلد يعاني المسغبة والجوع والفقر وينشغل الإنسان فيه بلقمة العيش ويخاف على نفسه وأهله.
فكانت هذه هي القاعدة الطبيعية الصحيحة أن يوجد الأمن والرزق، حتى تنطلق دعوة الله عز وجل من هذه البلاد لتشمل أنحاء المعمورة.
وليس غريباً أن نجد ـ اليوم بحمد الله ـ المؤسسات الخيرية والجمعيات التي تنطلق من هذا البلد يداً ممتدةً لكل الجياع والفقراء والأيتام والمحتاجين والجهلة في أنحاء العالم.. تقدم لهم الهداية بيد وتقدم لهم لقمة العيش والغذاء والكساء باليد الأخرى.
ولعل هذا من أسباب حفظ الله سبحانه وتعالى لهذا البلد، وبقاء الخيرية فيه وبقاء الأمن ودفع الله سبحانه وتعالى كثيراً من الغوائل والمشكلات.
وفي صلح الحديبية عندما تعاهدت قريش، مع النبي صلى الله عليه وسلم، يقول الزهري: إنه بعد هذا الصلح أمن الناس بعضهم بعضاً، حتى إنه لم يكلم أحد يعقل في الإسلام إلا دخل فيه.
أي: إن قبول الناس للدعوة والخير إذا كانت عقولهم مستقرة وهادئة يكون أسرع وأكبر، بينما إذا كان الإنسان يحاذر خوفاً أو جزعاً أو قلقاً أو جوعاً فإنه لا يستطيع أن يفكر بشكل صحيح ولا أن يسمع الخطاب ولا أن يرد الجواب.
هذه البلاد، التي أذن الله جل جلاله -إلى نهاية الدنيا- أن تكون محضن الحرمين الشريفين اللذين اختارهما الله سبحانه وتعالى اختياراً ربانياً، على علم، "وَرَبُّكَ يَخْلُقُ مَا يَشَاء وَيَخْتَارُ"[القصص:68].
مكة المكرمة أحب البلاد إلى الله، كما يقول النبي صلى الله عليه وسلم في حديث عبد الله بن عدي: (والله إنك لخير البلاد وأحب البلاد إلى الله) يقول هذا، وهو يغادرها صلى الله عليه وسلم قبل الهجرة، فخص جل جلاله مكة المكرمة بالحب، وجعلها مثابة للناس وأمنا، تثوب إليها قلوبهم ولا تقضي منها وطراً، واليوم يشهد العالم كثيراً من التجمعات والمهرجانات للرياضة أو التجارة أو غبرها، ويبذل المنظمون لها الكثير من الجوائز والمغريات والتسهيلات، والتنقلات والرحلات الإضافية و... و... من أجل أن يفلحوا في حشد عدد أكبر إلى مكان المهرجان، أما مكة شرفها الله فإن الأمر منعكس تماماً فالحاجة ملحة إلى أن يتم تنظيم وتفويج الذين يريدون المجيء إلى مكة بدافع إيماني ذاتي ولو أن كل من أراد الحج أو العمرة إلى مكة جاءها؛ لضاق بهم رحب المكان، ولما اتسعت لهم فجاج مكة وشعابها .
فانظر هذه الروح هذه الأفئدة من الناس التي تهوي إلى هذا المكان الطاهر المبارك، وكم هي بحاجة إلى حفظ الأمن وحفظ الطريق، وأن تكون هذه البلدة واحةً آمنةً مطمئنةً، كما أذن الله -تبارك وتعالى- وجعل ذلك من الشريعة، وجعله من القدر.