من الامتياز والفضيلة أن نكون قادرين على مراجعة أحوالنا وأقوالنا، قبل أو مع مراجعة الآخرين لها.
كثيرون يواجهون أزمة في التصور لبعض الحقائق الشرعية والعلمية؛ فيكون من الصحيح لديه أن يقول أو يكتب في مراجعة غيره، لكن حينما يقول غيره أو يكتب في مراجعة قوله، والتصحيح له، فهذا غير مفهوم، وكذا أن يقول هو أو يكتب في المراجعة والتصحيح لنفسه.
هذه معادلـة غير مؤهلة لأن تصنع رحمة في عالم الخلاف والتعدد القائـم في الأمـة اليوم.
قضى عمر رضي الله عنه قضاءً في مسألة في الميراث، ثم رجع إلى ضد قضائه الأول، فقيل له, فقال: تلك على ما قضينا، وهذه على ما نقضي.
وكم سجل التاريخ رجوع الكبار من المحدثين والفقهاء، وعظماء الأمة عن مقالات ومسائل، بل ومواقف في العلم والدعوة والجهاد، وقضايا الأمة كلها.
فلماذا لا نستطيع أن نستوعب التفكير في مراجعتنا لمسيرتنا، واجتهاداتنا الخاصة! مع كوننا ملحين ومطالبين بمراجعتنا لغيرنا تارة في مسائل هي مما يسع فيه الخلاف والاجتهاد، ونجد أن مطالبتنا بمراجعة غيرنا هو تصحيح للأمة وحفظ للدين وقوامة في الحق!!
قد يكون الأمر كذلك، وربما كان أسهل من ذلك، وننظر إلى مراجعة أحوالنا العلمية، والدعوية على أنها نوع من الاضطراب، وأصبح البعض منا يتربى على تمجيد البقاء، والإصرار على ما كان، فهو لا يستطيع أن يلتفت إلى الماضي حتى لا يصِادر تاريخه، أو يحكـم على نفسه بالجهل.
إن المراجعة والتصحيح والرد في مسائل الاجتهاد العلمية والدعوية وغيرها لا يرتبط بحركة الزمان، ولا بالحصول أو عدم الحصول، ولا بكونه يتعلق بالشخص نفسه أو بغيره.
إن هذه المعطيات ليس لها أثر لا في الشرع ولا في العقل، ومع ذلك فهي تساهم في تشكيل رؤيتنا التطبيقية لمنهج النقد والمراجعة، وإن كنا نستطيع تجاوزها نظرياً.
إن الحق حق، أياً كان زمانه أو قائله, كان أولم يكن، والخطأ خطأ, أياً كان زمانه أو قائله , كان أولم يكن، مع أن الكثير من المسائل لا تتحمل الحسم المطلق، ففيها حسن وأحسن وراجح ومرجوح، وقوي وضعيف.
نتحدث أحياناً عن ذم التعصب والتقليد، وننقل الآثار عن الأئمة في ذلك، لكن ربما لا يدرك بعضنا أن من أخفى صور التعصب وأشدها تعويقاً للتصحيح العلمي والدعوي التعصب للنفس.
وهذا الشكل من التعصب يقع غالباً في دائرة اللاشعور، وهذا هو محك الأزمة، بل ترى من ينظر إلى هذا التعصب لنفسه وشخصه - مع شدة رفضه وطعنه على التعصب - على أنه يمارس تحقيق الفضيلة والتجرد للحق، فليس هو تبعاً لأحد، ولم يدرك أنه تبع لنفسه.
ثمت أشياء كثيرة نجيد قراءتها، وتصويرها داخل عقول ونفوس الآخرين، لكننا لا نتمتع بنفس القدرة حينما نحاول ذلك في نفوسنا وعقولنا.
إن مراجعة مسيرة علماء الإسلام، مع كثرة التصانيف وتنوعها، ومع كثرة الخلاف والمذهبيات، ومع تداخل مادة العلوم، ولا سيما في القرون المتأخرة بعـد عصر التأليف، فمع هذه المعطيات وغيرها لا نجد في تاريخ العلماء منهج الملاحقة للأخطاء، بل إما أن يرد كتاب بكتاب، أو قضية بقضية، أما استقراء الخطأ فقط في مصنفات يكثر فيها الخير والحق فهذا لم يسلكه علماء الأئمة الكبار فيما أعلم.
لقد كتب أهل العلم مراجعات وتصحيحات، لكن لا نجد إصراراً على ربط المراجعة والتصحيح بالشخص الذي يراد نقده، وهذه أزمة أخلاقية أكثر من كونها إلحاحاً شرعياً أوعلمياً.
من الممكن أن نشارك في النقد والمراجعة والتصحيح دون أن نستدني نواصي الأشخاص ونوقفهم أمام قضاءاتنا وكأننا فقط القائمون بأمر الله، والغيورون على الحق، وحفظة الدين.
وأكثر المراجعات والتصحيحات في تاريخ علماء الإسلام لم ترتبط بالأشخاص، بل بالقضايا والمسائل نفسها، وربما عرض ذكر لأعيان القائلين بها أحياناً.
وحين نكتب رداً أو مراجعة، فمن الواجب -هنا- أن نتخلص من الشعور بالسلطة، والحاكمية؛ لنكون أكثر عدلاً و هدوءاً، وندرك أن كثيراً من مراجعاتنا لغيرنا هي نفسها مؤهلة للمراجعة والنقد، وأن لدينا الكثير مما يستطيع الآخرون أن يراجعوه، ويصححوه لنا.
وحين نكتب في الرد على من خالف الأصول الثابتة، فلنعي أن هذا الرد صواب غير مؤهلٍ للمراجعة، ليس لأنه من إنتاجنا، أو امتيازاً نحمله نحن فقط، بل هذا بسبب من القضية نفسها، وموقعها من الدين.
حينما نكتب مراجعة أو نقداً فنحن أمام تحدٍ نفسي معقد التركيب، حتى إن من غير المناسب أن نقول: يجب أن نتجرد مـن نفوسنا عند هـذه الكتابة.
هذه محاولة نظرية غير ممكنة التطبيق، ولابد أن تشارك النفس بقدر ما في صياغة هذه المراجعة أو تلك، لكن من الضروري أن نعي إيحاءات النفس، وأن نلتمس لها أسباب الرحمة الإلهية " إِنَّ النَّفْسَ لَأَمَّارَةٌ بِالسُّوءِ إِلَّا مَا رَحِمَ رَبِّي"[يوسف:53].
فحقائق الطبيعة البشرية يجب أن تكون واضحة، ومعترفا بها دون تردد.
وحين يذكر الله - سبحانه - حقائق هذا الجنس الآدمي يقول: " إِنَّ الْإِنْسَانَ لَظَلُومٌ كَفَّارٌ "[إبراهيم:34]، "إِنَّ الْإنْسَانَ خُلِقَ هَلُوعاً"[المعارج:19]، " خُلِقَ الْإِنْسَانُ مِنْ عَجَلٍ"[الانبياء:37]، " وَخُلِقَ الْإِنْسَانُ ضَعِيفاً "[النساء:28]، " وَلَقَدْ عَهِدْنَا إِلَى آدَمَ مِنْ قَبْلُ فَنَسِيَ وَلَمْ نَجِدْ لَهُ عَزْماً"[طه:115]، إلى غير ذلك من الحقائق، وكذا في القول النبوي (خلق آدم خلقاً لا يتمالك)، (كل بني آدم خطاء) وهما في الصحيح.
فالقراءة في نصوص الكتاب والسنة عن هذه الطبيعة تمثل أرقى فهم لحقيقة النفس البشرية التي اضطرب الفلاسفة - من أحقاب تاريخية - في وصفها، وجاء فلاسفة العصر الحديث، وظلوا يمارسون قوانين التجربة على النفس البشرية، فصارت عندهم تحكم بقوانين حسب منطق الفيزياء، ويبقى ذكر الله ورسوله لهذه النفس، وطبيعة الإنسان هو الأنموذج الأول المتعالي على قوانين التطور العلمي،؛ لكـن لنعترف أن الإسلاميين لم يسجلوا إلى اليوم قراءة واعية لها واقع في مناهج التربية، مع أنهم يمتلكون هذه القواعد التي قررها القرآن، والنبي الأمين صلى الله عليه وسلم.
فالأمانة التي هي قوام العدل في منهج الرد والنقد والمراجعة تواجه إشكالية الطبيعة البشرية الإنسانية التي تخوض معها - أحياناً - معركة صامتة، تقع غالباً في دائرة اللاشعور "إِنَّا عَرَضْنَا الْأَمَانَةَ عَلَى السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَالْجِبَالِ فَأَبَيْنَ أَنْ يَحْمِلْنَهَا وَأَشْفَقْنَ مِنْهَا وَحَمَلَهَا الْإِنْسَانُ إِنَّهُ كَانَ ظَلُوماً جَهُولاً "[الأحزاب:72].
وكل تجاوز لقواعد الأمانة والعدل والصواب فإنه نتيجة عن طبيعة الظلم أو الجهل، كما قرر هذا المعنى الإمام ابن تيمية عند هذه الآية.
لذا فإن تجاوز هذه الطبيعة يحتاج إلى قوام عدلي شرعي؛ ولهذا كان العلم الذي بعث به المرسلون مقروناً بالرحمة؛ حتى لا يقع الظلم، وفي قول الله عن الخضر صاحب موسى، وهو نبي على قول الجمهور, وهو الصحيح "فَوَجَدَا عَبْداً مِنْ عِبَادِنَا آتَيْنَاهُ رَحْمَةً مِنْ عِنْدِنَا وَعَلَّمْنَاهُ مِنْ لَدُنَّا عِلْماً "[الكهف:65]. لقد أوتى فضيلة العلم، وأيضاً فضيلة الرحمة، وهاتان الفضيلتان يمكن بهما تجاوز هذه الطبيعة المذكورة في قوله تعالى: " وَحَمَلَهَا الْإِنْسَانُ إِنَّهُ كَانَ ظَلُوماً جَهُولاً "[الأحزاب:72].
إن العلم بلا رحمة ليس هدياً إلهياً، وإن رحمة بلا علم ليست شريعة ربانية.
والناس لا يصلحهم عالم لا رحمة فيه، أو رحيم لا علم معه، فالأول يطغيهم، والآخر يرديهم في انحطاط الجهل وفوضى التفكير وسذاجة الرأي.
ولذا قرر أئمة السلف أن منازعة المخالف لها شرطان:
أحدهما: العلم.
والثاني: الصدق.
فلا تكون منازعة المخالف جهلاً وتعدياً، ولا يقصد بها العلو في الأرض.
ولقد ذكر الله العلو في الأرض شأناً لفرعون " إِنَّ فِرْعَوْنَ عَلا فِي الْأَرْضِ "[القصص:4]، وذكر الله العلو وصفاً للمؤمنين " وَلا تَهِنُوا وَلا تَحْزَنُوا وَأَنْتُمُ الْأَعْلَوْنَ إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ "[آل عمران:139].
فالعلو يوم يكون هدفا ًذاتياً تحصِّل به النفس امتيازها وتسلطها، ويعي الإنسان به وجوده الطاغي على من حوله فهذا تطلع فرعوني.
ويوم يكون استجابة لطبيعة الدين، والإيمان الصادق في التعالي ليس من أجل مزاج الذات البشرية الحاد، وإنما من أجل حقائق الإيمان – فمن أعلى ممن يعبد الله، ويؤمن به في هذه الأرض- فهنا يكون علواً فاضلاً متصلاً بالله سبحانه.
ويوم نلاحق هوى النفس ونوقفه أمام عدل الشريعة ندرك تحقيقنا لقيمة مبدئية من أعظم حقائق أهل الإسلام، وامتيازهم عن أهل الكفر الذين قال الله فيهم: " إِنْ يَتَّبِعُونَ إِلَّا الظَّنَّ وَمَا تَهْوَى الْأَنْفُسُ "[النجم:23].
إن الأمة في كل تاريخها، وفي هذا العصر خاصة بحاجة إلى أن تتصالح بما تقتضيه قواعد الشريعة وأصولها مع روادها الذين يحملون خطاب الأمة، ويعالجون واقعها، ويحاولون تجاوز التحدي القائم، وخوض معركة الأمة في العلم والمعرفة والدعوة، ضد الاتجاهات الوضعية التي تتحرك وسط ساحة أهل الإسلام، حين تفتقد الأمة هذا التصالح مع رموزها، فإنها تنتقل إلى عقل الثأر، وحب الانتصار الفردي.
هذا التصالح لا يؤهل شخصاً أو مجموعة أو كتاباً إلى أن يكون متعالياً على النقد والمراجعة، لكنه يصنع الاعتدال في منهج النقد والحوار، كما أن هذا التصالح لا يمكن أن يفهم منه تجاوز الأصول الثابتة وتحقيقها علماً وعملاً، وإنكار المخالف من المقالات والأعمال لأصول السنة والجماعة فهذا أصل ثابت لا بد من تحقيقه، ولتقريره موضع آخر.
إن الإسقاط للآخرين قد يكون محاولة مغرية للذين لا يقرؤون الأمور بوضوح وعدل،
لكن السؤال الذي يلح: من المستفيد من هذا الإسقاط ومن البديل؟
نتوهم كثيراً حينما نفترض أن هذا الإسقاط سيكون فضيلة وقوامة؛ لأن فلاناً له سقطات في مسيرته العلمية والدعوية، بينما الواقع أننا نتحرك عكس قانون الفضيلة والمصلحة، لكننا لا نحسن حساب الخطى.
كثيرون يواجهون أزمة في التصور لبعض الحقائق الشرعية والعلمية؛ فيكون من الصحيح لديه أن يقول أو يكتب في مراجعة غيره، لكن حينما يقول غيره أو يكتب في مراجعة قوله، والتصحيح له، فهذا غير مفهوم، وكذا أن يقول هو أو يكتب في المراجعة والتصحيح لنفسه.
هذه معادلـة غير مؤهلة لأن تصنع رحمة في عالم الخلاف والتعدد القائـم في الأمـة اليوم.
قضى عمر رضي الله عنه قضاءً في مسألة في الميراث، ثم رجع إلى ضد قضائه الأول، فقيل له, فقال: تلك على ما قضينا، وهذه على ما نقضي.
وكم سجل التاريخ رجوع الكبار من المحدثين والفقهاء، وعظماء الأمة عن مقالات ومسائل، بل ومواقف في العلم والدعوة والجهاد، وقضايا الأمة كلها.
فلماذا لا نستطيع أن نستوعب التفكير في مراجعتنا لمسيرتنا، واجتهاداتنا الخاصة! مع كوننا ملحين ومطالبين بمراجعتنا لغيرنا تارة في مسائل هي مما يسع فيه الخلاف والاجتهاد، ونجد أن مطالبتنا بمراجعة غيرنا هو تصحيح للأمة وحفظ للدين وقوامة في الحق!!
قد يكون الأمر كذلك، وربما كان أسهل من ذلك، وننظر إلى مراجعة أحوالنا العلمية، والدعوية على أنها نوع من الاضطراب، وأصبح البعض منا يتربى على تمجيد البقاء، والإصرار على ما كان، فهو لا يستطيع أن يلتفت إلى الماضي حتى لا يصِادر تاريخه، أو يحكـم على نفسه بالجهل.
إن المراجعة والتصحيح والرد في مسائل الاجتهاد العلمية والدعوية وغيرها لا يرتبط بحركة الزمان، ولا بالحصول أو عدم الحصول، ولا بكونه يتعلق بالشخص نفسه أو بغيره.
إن هذه المعطيات ليس لها أثر لا في الشرع ولا في العقل، ومع ذلك فهي تساهم في تشكيل رؤيتنا التطبيقية لمنهج النقد والمراجعة، وإن كنا نستطيع تجاوزها نظرياً.
إن الحق حق، أياً كان زمانه أو قائله, كان أولم يكن، والخطأ خطأ, أياً كان زمانه أو قائله , كان أولم يكن، مع أن الكثير من المسائل لا تتحمل الحسم المطلق، ففيها حسن وأحسن وراجح ومرجوح، وقوي وضعيف.
نتحدث أحياناً عن ذم التعصب والتقليد، وننقل الآثار عن الأئمة في ذلك، لكن ربما لا يدرك بعضنا أن من أخفى صور التعصب وأشدها تعويقاً للتصحيح العلمي والدعوي التعصب للنفس.
وهذا الشكل من التعصب يقع غالباً في دائرة اللاشعور، وهذا هو محك الأزمة، بل ترى من ينظر إلى هذا التعصب لنفسه وشخصه - مع شدة رفضه وطعنه على التعصب - على أنه يمارس تحقيق الفضيلة والتجرد للحق، فليس هو تبعاً لأحد، ولم يدرك أنه تبع لنفسه.
ثمت أشياء كثيرة نجيد قراءتها، وتصويرها داخل عقول ونفوس الآخرين، لكننا لا نتمتع بنفس القدرة حينما نحاول ذلك في نفوسنا وعقولنا.
إن مراجعة مسيرة علماء الإسلام، مع كثرة التصانيف وتنوعها، ومع كثرة الخلاف والمذهبيات، ومع تداخل مادة العلوم، ولا سيما في القرون المتأخرة بعـد عصر التأليف، فمع هذه المعطيات وغيرها لا نجد في تاريخ العلماء منهج الملاحقة للأخطاء، بل إما أن يرد كتاب بكتاب، أو قضية بقضية، أما استقراء الخطأ فقط في مصنفات يكثر فيها الخير والحق فهذا لم يسلكه علماء الأئمة الكبار فيما أعلم.
لقد كتب أهل العلم مراجعات وتصحيحات، لكن لا نجد إصراراً على ربط المراجعة والتصحيح بالشخص الذي يراد نقده، وهذه أزمة أخلاقية أكثر من كونها إلحاحاً شرعياً أوعلمياً.
من الممكن أن نشارك في النقد والمراجعة والتصحيح دون أن نستدني نواصي الأشخاص ونوقفهم أمام قضاءاتنا وكأننا فقط القائمون بأمر الله، والغيورون على الحق، وحفظة الدين.
وأكثر المراجعات والتصحيحات في تاريخ علماء الإسلام لم ترتبط بالأشخاص، بل بالقضايا والمسائل نفسها، وربما عرض ذكر لأعيان القائلين بها أحياناً.
وحين نكتب رداً أو مراجعة، فمن الواجب -هنا- أن نتخلص من الشعور بالسلطة، والحاكمية؛ لنكون أكثر عدلاً و هدوءاً، وندرك أن كثيراً من مراجعاتنا لغيرنا هي نفسها مؤهلة للمراجعة والنقد، وأن لدينا الكثير مما يستطيع الآخرون أن يراجعوه، ويصححوه لنا.
وحين نكتب في الرد على من خالف الأصول الثابتة، فلنعي أن هذا الرد صواب غير مؤهلٍ للمراجعة، ليس لأنه من إنتاجنا، أو امتيازاً نحمله نحن فقط، بل هذا بسبب من القضية نفسها، وموقعها من الدين.
حينما نكتب مراجعة أو نقداً فنحن أمام تحدٍ نفسي معقد التركيب، حتى إن من غير المناسب أن نقول: يجب أن نتجرد مـن نفوسنا عند هـذه الكتابة.
هذه محاولة نظرية غير ممكنة التطبيق، ولابد أن تشارك النفس بقدر ما في صياغة هذه المراجعة أو تلك، لكن من الضروري أن نعي إيحاءات النفس، وأن نلتمس لها أسباب الرحمة الإلهية " إِنَّ النَّفْسَ لَأَمَّارَةٌ بِالسُّوءِ إِلَّا مَا رَحِمَ رَبِّي"[يوسف:53].
فحقائق الطبيعة البشرية يجب أن تكون واضحة، ومعترفا بها دون تردد.
وحين يذكر الله - سبحانه - حقائق هذا الجنس الآدمي يقول: " إِنَّ الْإِنْسَانَ لَظَلُومٌ كَفَّارٌ "[إبراهيم:34]، "إِنَّ الْإنْسَانَ خُلِقَ هَلُوعاً"[المعارج:19]، " خُلِقَ الْإِنْسَانُ مِنْ عَجَلٍ"[الانبياء:37]، " وَخُلِقَ الْإِنْسَانُ ضَعِيفاً "[النساء:28]، " وَلَقَدْ عَهِدْنَا إِلَى آدَمَ مِنْ قَبْلُ فَنَسِيَ وَلَمْ نَجِدْ لَهُ عَزْماً"[طه:115]، إلى غير ذلك من الحقائق، وكذا في القول النبوي (خلق آدم خلقاً لا يتمالك)، (كل بني آدم خطاء) وهما في الصحيح.
فالقراءة في نصوص الكتاب والسنة عن هذه الطبيعة تمثل أرقى فهم لحقيقة النفس البشرية التي اضطرب الفلاسفة - من أحقاب تاريخية - في وصفها، وجاء فلاسفة العصر الحديث، وظلوا يمارسون قوانين التجربة على النفس البشرية، فصارت عندهم تحكم بقوانين حسب منطق الفيزياء، ويبقى ذكر الله ورسوله لهذه النفس، وطبيعة الإنسان هو الأنموذج الأول المتعالي على قوانين التطور العلمي،؛ لكـن لنعترف أن الإسلاميين لم يسجلوا إلى اليوم قراءة واعية لها واقع في مناهج التربية، مع أنهم يمتلكون هذه القواعد التي قررها القرآن، والنبي الأمين صلى الله عليه وسلم.
فالأمانة التي هي قوام العدل في منهج الرد والنقد والمراجعة تواجه إشكالية الطبيعة البشرية الإنسانية التي تخوض معها - أحياناً - معركة صامتة، تقع غالباً في دائرة اللاشعور "إِنَّا عَرَضْنَا الْأَمَانَةَ عَلَى السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَالْجِبَالِ فَأَبَيْنَ أَنْ يَحْمِلْنَهَا وَأَشْفَقْنَ مِنْهَا وَحَمَلَهَا الْإِنْسَانُ إِنَّهُ كَانَ ظَلُوماً جَهُولاً "[الأحزاب:72].
وكل تجاوز لقواعد الأمانة والعدل والصواب فإنه نتيجة عن طبيعة الظلم أو الجهل، كما قرر هذا المعنى الإمام ابن تيمية عند هذه الآية.
لذا فإن تجاوز هذه الطبيعة يحتاج إلى قوام عدلي شرعي؛ ولهذا كان العلم الذي بعث به المرسلون مقروناً بالرحمة؛ حتى لا يقع الظلم، وفي قول الله عن الخضر صاحب موسى، وهو نبي على قول الجمهور, وهو الصحيح "فَوَجَدَا عَبْداً مِنْ عِبَادِنَا آتَيْنَاهُ رَحْمَةً مِنْ عِنْدِنَا وَعَلَّمْنَاهُ مِنْ لَدُنَّا عِلْماً "[الكهف:65]. لقد أوتى فضيلة العلم، وأيضاً فضيلة الرحمة، وهاتان الفضيلتان يمكن بهما تجاوز هذه الطبيعة المذكورة في قوله تعالى: " وَحَمَلَهَا الْإِنْسَانُ إِنَّهُ كَانَ ظَلُوماً جَهُولاً "[الأحزاب:72].
إن العلم بلا رحمة ليس هدياً إلهياً، وإن رحمة بلا علم ليست شريعة ربانية.
والناس لا يصلحهم عالم لا رحمة فيه، أو رحيم لا علم معه، فالأول يطغيهم، والآخر يرديهم في انحطاط الجهل وفوضى التفكير وسذاجة الرأي.
ولذا قرر أئمة السلف أن منازعة المخالف لها شرطان:
أحدهما: العلم.
والثاني: الصدق.
فلا تكون منازعة المخالف جهلاً وتعدياً، ولا يقصد بها العلو في الأرض.
ولقد ذكر الله العلو في الأرض شأناً لفرعون " إِنَّ فِرْعَوْنَ عَلا فِي الْأَرْضِ "[القصص:4]، وذكر الله العلو وصفاً للمؤمنين " وَلا تَهِنُوا وَلا تَحْزَنُوا وَأَنْتُمُ الْأَعْلَوْنَ إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ "[آل عمران:139].
فالعلو يوم يكون هدفا ًذاتياً تحصِّل به النفس امتيازها وتسلطها، ويعي الإنسان به وجوده الطاغي على من حوله فهذا تطلع فرعوني.
ويوم يكون استجابة لطبيعة الدين، والإيمان الصادق في التعالي ليس من أجل مزاج الذات البشرية الحاد، وإنما من أجل حقائق الإيمان – فمن أعلى ممن يعبد الله، ويؤمن به في هذه الأرض- فهنا يكون علواً فاضلاً متصلاً بالله سبحانه.
ويوم نلاحق هوى النفس ونوقفه أمام عدل الشريعة ندرك تحقيقنا لقيمة مبدئية من أعظم حقائق أهل الإسلام، وامتيازهم عن أهل الكفر الذين قال الله فيهم: " إِنْ يَتَّبِعُونَ إِلَّا الظَّنَّ وَمَا تَهْوَى الْأَنْفُسُ "[النجم:23].
إن الأمة في كل تاريخها، وفي هذا العصر خاصة بحاجة إلى أن تتصالح بما تقتضيه قواعد الشريعة وأصولها مع روادها الذين يحملون خطاب الأمة، ويعالجون واقعها، ويحاولون تجاوز التحدي القائم، وخوض معركة الأمة في العلم والمعرفة والدعوة، ضد الاتجاهات الوضعية التي تتحرك وسط ساحة أهل الإسلام، حين تفتقد الأمة هذا التصالح مع رموزها، فإنها تنتقل إلى عقل الثأر، وحب الانتصار الفردي.
هذا التصالح لا يؤهل شخصاً أو مجموعة أو كتاباً إلى أن يكون متعالياً على النقد والمراجعة، لكنه يصنع الاعتدال في منهج النقد والحوار، كما أن هذا التصالح لا يمكن أن يفهم منه تجاوز الأصول الثابتة وتحقيقها علماً وعملاً، وإنكار المخالف من المقالات والأعمال لأصول السنة والجماعة فهذا أصل ثابت لا بد من تحقيقه، ولتقريره موضع آخر.
إن الإسقاط للآخرين قد يكون محاولة مغرية للذين لا يقرؤون الأمور بوضوح وعدل،
لكن السؤال الذي يلح: من المستفيد من هذا الإسقاط ومن البديل؟
نتوهم كثيراً حينما نفترض أن هذا الإسقاط سيكون فضيلة وقوامة؛ لأن فلاناً له سقطات في مسيرته العلمية والدعوية، بينما الواقع أننا نتحرك عكس قانون الفضيلة والمصلحة، لكننا لا نحسن حساب الخطى.