تواجه المجتمعات الإسلامية تحديات صعبة لم تتهيأ لها، وتخوض مع المتغيرات معركة غير متكافئة، وهناك إشكالية مفتعلة بين التحديث والتطوير المطلوب لحراسة الدين والدنيا، وبين التحلل من القيم والثوابت والالتزامات الشرعية التي هي سر تميز الأمة ووجودها، وهي عمقها التاريخي وامتدادها المستقبلي.
وضمن هذه المجتمعات جهود واجتهادات إسلامية متكاثرة، تتمثل في جماعات ومؤسسات وهيئات وأفراد، تثبت خيرية هذه الأمة، وتحقق الوعد الرباني بالفئة الصالحة المصلحة التي تهدي إلى الحق، وتعدل به بين الناس، وتتولى أمر الوراثة النبوية في نشر العلم والرحمة.
وفي الوقت الذي يدرك أولو الألباب أن الأمة بأشد الحاجة إلى كل ذرة من جهد أو عمل، فإن ثمة نزيفًا مستمرًّا يضيع الكثير الكثير من الجهود في تقاطعات وصراعات بينية، وخلافات فرعية، وإشكالات جزئية، وعراك حامٍ دامٍ حول هذه الخطوة أو تلك، وهذا العمل أو ذاك؛ فكأنه ترسخ في الأذهان أن الناس جميعًا يجب أن يكونوا صورة طبق الأصل عن بعضهم، أو أن وحدة العمل الإسلامي تعني وحدة الاجتهاد والرأي والموقف، وبالتالي صرنا نريد من الجميع أن يصطفوا في كل قضية، وتحولت فروض الكفايات عندنا إلى فروض أعيان، و تحولت الاجتهادات إلى مواقف حدية يفرز الناس بحسب موقفهم منها، فهذا مع..، وهذا ضد..، ثم لم تعد المسألة معي أو ضدي، بل تطورت أحيانًا إلى نوع من الترسيم الشرعي، والتثبيت القطعي؛ فصار من ليس معي فهو -عندهم- ضد الدين وضد الإيمان، وضد الله، نعوذ بالله من ذلك.
وفي ظل هذا المأزق الصعب تتجدد الحاجة إلى فقه المسارات المتعددة التي تتكامل ولا تتقاطع، وتتآخى ولا تتصارع.
وهذه المطالبة العادلة بفقه التعددية تقع امتثالاً لأمر الله ورسوله فضلاً عن كون تعدد الرأي والفقه لنازلة أو موضوع ما كثيرًا ما يكون مصلحة راجحة للأمة وتحقيقًا للرحمة والخيرية.
لقد أختلف الأئمة الأربعة وغيرهم في مسائل أقرب إلى إمكان الاتفاق عليها نظرًا لقرب مأخذها الفقهي، فما يظن بمسائل يتنازعها جملة من المناطات الشرعية الموجبة لتعدد الرأي .
إن كثيرين حتى من طلاب العلم ورجال العمل الإسلامي بحاجة إلى تبصر بذاك المنهج الواسع في فتح باب الاجتهاد تحت مفهوم: إنني أعمل وفق اجتهادي الذي أسلمتني إليه رؤيتي الخاصة، ووفق ما فهمته من مقاصد الشريعة وقواعدها، وما أراه محققًا لمصالح الدين والدنيا، وهذا تكليف الله الذي لا يجوز الافتيات عليه لرغبة أحد.
وأنت تعمل كذلك، وكلانا على خير، ولا حاجة أبدًا - وفي هذه الظروف خاصة- إلى أن أقف في وجهك مطالبًا بإبراز هويتك والتحقق منها، مشككًا في دوافعك، مفندًا لاجتهادك، ونحن لا نتحدث عن قطعيات أو ضروريات أو محكمات لا جدل حولها؛ إنما نتحدث عن مسائل في معالجة الواقع واستثمار الفرص وتحقيق المكاسب الشرعية، وإن شئت فقل : تقليل الخسائر في حالات كثيرة.
لقد اختلف الخيران ( أبو بكر وعمر ) في أسارى بدر، وكان أبو بكر يذهب إلى الرفق بهم والتأني وأخذ الفداء والعفو عنهم، ويعلل ذلك بأنهم بنو العم والعشيرة.
وهو كان يعلم أنهم قوم كفار، ولكن يرجو أن يهديهم الله وأن يكونوا ردءًا للإسلام وأهله.
وهذه العلة ذاتها -وهي القرابة- حملت عمر على موقف آخر مختلف تمامًا؛ فقد كان يرى أن يمكن كل قريب من قريبه ليقتله حتى يعلموا أن لا هوادة في قلوبهم لقوم كافرين. وحدثت المناظرة، وحسم الأمر، وقبل الفداء، ولم ينقل أن هذا الموقف أحدث استقطابًا في صفوف الصحابة، ما بين مؤيد لموقف هذا، ومؤيد لموقف ذاك، ولا أن الأمر تحول إلى انشقاق كبير خطير وتلاسن وتشاتم، وحاشا هذا عن أصحاب محمد صلى الله عليه وسلم ورضي الله عنهم.
كانت العقول كبيرة، والنفوس صافية، والتربية متزنة، ولهذا لم يطغ فيها جانب الأنانية ومشاهدة النفس والثقة المفرطة بقناعاتها، أو الإزراء والازدراء لقناعات الآخرين واستهجانها.
الشريعة تعلم حسن الظن بالآخر، وسوء الظن بالنفس، وهذا من شأنه أن يصنع برزخًا بين المختلفين لئلا يبغى بعضهم على بعض، ولتسير بحارهم وأنهارهم وجداولهم على سنن الوفاق والتكامل والتعاضد، وإن تنوعت ينابيعها واختلفت مصابها، ففي كل خير.
تأمل لحظة لو أن الجهود التي بذلت في إذكاء نار الصراع والتطاحن داخل الصفوف الإسلامية صرفت بكليتها أو صرف معظمها إلى عمل جاء يؤسس لخير أو هداية أو علم أو إعلام أو تربية أو اقتصاد أو يدعو كافرًا أو يهدي ضالاًّ أو يصلح فاسدًا أو يحل مشكلة ...؛ لكانت أوضاع الدعاة -بل المسلمين كافة- اليوم أفضل مما هي عليه بكثير.
ولا يأس على فائت، ولا نطلب اليوم مثاليات بعيدة، لكن نهدف إلى اعتدال المزاج وهدوء اللغة وسلامة النفس والتزام التقوى في مواطن الاختلاف، وإعطاء إخواننا من حسن ظن ما نعطيه لأنفسنا، والإيمان بأن ضرورة الاجتهاد، ومقتضى الواقع يتطلب التفكير الجاد بالمسارات المتعددة المتوازية التي قد لا تلتقي لكنها أيضًا لا تتقاطع ولا يهدم بعضها بعضا.
وضمن هذه المجتمعات جهود واجتهادات إسلامية متكاثرة، تتمثل في جماعات ومؤسسات وهيئات وأفراد، تثبت خيرية هذه الأمة، وتحقق الوعد الرباني بالفئة الصالحة المصلحة التي تهدي إلى الحق، وتعدل به بين الناس، وتتولى أمر الوراثة النبوية في نشر العلم والرحمة.
وفي الوقت الذي يدرك أولو الألباب أن الأمة بأشد الحاجة إلى كل ذرة من جهد أو عمل، فإن ثمة نزيفًا مستمرًّا يضيع الكثير الكثير من الجهود في تقاطعات وصراعات بينية، وخلافات فرعية، وإشكالات جزئية، وعراك حامٍ دامٍ حول هذه الخطوة أو تلك، وهذا العمل أو ذاك؛ فكأنه ترسخ في الأذهان أن الناس جميعًا يجب أن يكونوا صورة طبق الأصل عن بعضهم، أو أن وحدة العمل الإسلامي تعني وحدة الاجتهاد والرأي والموقف، وبالتالي صرنا نريد من الجميع أن يصطفوا في كل قضية، وتحولت فروض الكفايات عندنا إلى فروض أعيان، و تحولت الاجتهادات إلى مواقف حدية يفرز الناس بحسب موقفهم منها، فهذا مع..، وهذا ضد..، ثم لم تعد المسألة معي أو ضدي، بل تطورت أحيانًا إلى نوع من الترسيم الشرعي، والتثبيت القطعي؛ فصار من ليس معي فهو -عندهم- ضد الدين وضد الإيمان، وضد الله، نعوذ بالله من ذلك.
وفي ظل هذا المأزق الصعب تتجدد الحاجة إلى فقه المسارات المتعددة التي تتكامل ولا تتقاطع، وتتآخى ولا تتصارع.
وهذه المطالبة العادلة بفقه التعددية تقع امتثالاً لأمر الله ورسوله فضلاً عن كون تعدد الرأي والفقه لنازلة أو موضوع ما كثيرًا ما يكون مصلحة راجحة للأمة وتحقيقًا للرحمة والخيرية.
لقد أختلف الأئمة الأربعة وغيرهم في مسائل أقرب إلى إمكان الاتفاق عليها نظرًا لقرب مأخذها الفقهي، فما يظن بمسائل يتنازعها جملة من المناطات الشرعية الموجبة لتعدد الرأي .
إن كثيرين حتى من طلاب العلم ورجال العمل الإسلامي بحاجة إلى تبصر بذاك المنهج الواسع في فتح باب الاجتهاد تحت مفهوم: إنني أعمل وفق اجتهادي الذي أسلمتني إليه رؤيتي الخاصة، ووفق ما فهمته من مقاصد الشريعة وقواعدها، وما أراه محققًا لمصالح الدين والدنيا، وهذا تكليف الله الذي لا يجوز الافتيات عليه لرغبة أحد.
وأنت تعمل كذلك، وكلانا على خير، ولا حاجة أبدًا - وفي هذه الظروف خاصة- إلى أن أقف في وجهك مطالبًا بإبراز هويتك والتحقق منها، مشككًا في دوافعك، مفندًا لاجتهادك، ونحن لا نتحدث عن قطعيات أو ضروريات أو محكمات لا جدل حولها؛ إنما نتحدث عن مسائل في معالجة الواقع واستثمار الفرص وتحقيق المكاسب الشرعية، وإن شئت فقل : تقليل الخسائر في حالات كثيرة.
لقد اختلف الخيران ( أبو بكر وعمر ) في أسارى بدر، وكان أبو بكر يذهب إلى الرفق بهم والتأني وأخذ الفداء والعفو عنهم، ويعلل ذلك بأنهم بنو العم والعشيرة.
وهو كان يعلم أنهم قوم كفار، ولكن يرجو أن يهديهم الله وأن يكونوا ردءًا للإسلام وأهله.
وهذه العلة ذاتها -وهي القرابة- حملت عمر على موقف آخر مختلف تمامًا؛ فقد كان يرى أن يمكن كل قريب من قريبه ليقتله حتى يعلموا أن لا هوادة في قلوبهم لقوم كافرين. وحدثت المناظرة، وحسم الأمر، وقبل الفداء، ولم ينقل أن هذا الموقف أحدث استقطابًا في صفوف الصحابة، ما بين مؤيد لموقف هذا، ومؤيد لموقف ذاك، ولا أن الأمر تحول إلى انشقاق كبير خطير وتلاسن وتشاتم، وحاشا هذا عن أصحاب محمد صلى الله عليه وسلم ورضي الله عنهم.
كانت العقول كبيرة، والنفوس صافية، والتربية متزنة، ولهذا لم يطغ فيها جانب الأنانية ومشاهدة النفس والثقة المفرطة بقناعاتها، أو الإزراء والازدراء لقناعات الآخرين واستهجانها.
الشريعة تعلم حسن الظن بالآخر، وسوء الظن بالنفس، وهذا من شأنه أن يصنع برزخًا بين المختلفين لئلا يبغى بعضهم على بعض، ولتسير بحارهم وأنهارهم وجداولهم على سنن الوفاق والتكامل والتعاضد، وإن تنوعت ينابيعها واختلفت مصابها، ففي كل خير.
تأمل لحظة لو أن الجهود التي بذلت في إذكاء نار الصراع والتطاحن داخل الصفوف الإسلامية صرفت بكليتها أو صرف معظمها إلى عمل جاء يؤسس لخير أو هداية أو علم أو إعلام أو تربية أو اقتصاد أو يدعو كافرًا أو يهدي ضالاًّ أو يصلح فاسدًا أو يحل مشكلة ...؛ لكانت أوضاع الدعاة -بل المسلمين كافة- اليوم أفضل مما هي عليه بكثير.
ولا يأس على فائت، ولا نطلب اليوم مثاليات بعيدة، لكن نهدف إلى اعتدال المزاج وهدوء اللغة وسلامة النفس والتزام التقوى في مواطن الاختلاف، وإعطاء إخواننا من حسن ظن ما نعطيه لأنفسنا، والإيمان بأن ضرورة الاجتهاد، ومقتضى الواقع يتطلب التفكير الجاد بالمسارات المتعددة المتوازية التي قد لا تلتقي لكنها أيضًا لا تتقاطع ولا يهدم بعضها بعضا.