حقيقة الاجتهاد في النوازل هو رد حكم النازلة إلى قضاء الله ورسوله وهذا مقامٌ يختص بتمام الفقه فيه أهل العلم بالشريعة ، وقد تستدعي كثير من النوازل العلم بما يلابسها ويقارنها من الأحوال التي لا تنفك عنها ، فالحكم على الشيء فرع عن تصوره وهذه من قواعد النظر المسلمة .
ومن هنا فإن تجريد الحدث عن لوازمه وارتباطاته من المعارف والأحوال يُعد نقصاً في التصور ينتج عنه تأخر الحكم عن مرتبة الصحة ، ومما يعرض لبعض الناظرين استعمالُ ما هو من مفصل الأدلة ؛لتخريج النازلة على أحد الفروع المقولة لدى الفقهاء في مصنفاتهم ، وهذا من حيث الأصل هو من الاجتهاد المناسب ، لكن محل المؤاخذة حين يستعمل في حكم الحوادث العامة المعقدة والتي تتنازعها مؤثرات وموادُ عديدة فيجردها الناظرُ من كل ذلك ويُخرجُها مع فرع فقهي مخصوص وربما كان من موارد الخلاف بين الفقهاء ثم يجعل هذا منتهى البحث والنظر .
ولعل هذا أثرٌ للقصور عن تحصيل فقه المقاصد ومراعاته في اعتبار الأحكام ، ومن هنا فإنه وإن حسن اعتبار الفروع والتخريج على المناسب منها في النوازل فإنه لا بد مع ذلك من اعتبار قواعد الشريعة وأصولها المذكورة في كلام الله ورسوله ومعاقد إجماع أهل العلم .
بل يتحقق لكل عارفٍ أن الاعتبار الثاني أصل في أحكام النوازل العامة والاجتهاد فيها .
ولهذا ترى في سنة الخلفاء الراشدين وأئمة الفقه والحديث العناية بتحقيق هذا الاعتبار فيما يعرض لهم من النوازل .
ففي الصحيح عن ابن عباس أن عمر بن الخطاب خرج إلى الشام حتى إذا كان بسرغ لقيه أهل الأجناد أبو عبيدة بن الجراح وأصحابه ، فأخبروه أن الوباء قد وقع بالشام . قال ابن عباس : فقال عمر : ادع لي المهاجرين الأولين فدعوتهم ، فاستشارهم واخبرهم أن الوباء قد وقع بالشام فاختلفوا ، فقال بعضهم : قد خرجت لأمر ولا نرى أن ترجع عنه . وقال بعضهم : معك بقية الناس وأصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم ولا نرى أن نقدمهم على هذا الوباء . فقال : ارتفعوا عني ثم قال : أدع لي الأنصار فدعوتهم له ، فاستشارهم فسلكوا سبيل المهاجرين ، واختلفوا كاختلافهم . فقال ارتفعوا عني ثم قال : أدع لي من كان ها هنا من مشيخة قريش من مهاجرة الفتح ، فدعوتهم فلم يختلف عليه رجلان ، فقالوا : نرى أن ترجع بالناس ولا تقدمهم على هذا الوباء .
فنادى عمر في الناس إني مصبح على ظهر فأصبحوا عليه . فقال أبو عبيدة بن الجراح : إفراراً من قدر الله ؟
فقال عمر : لو غيرك قالها يا أبا عبيدة ـ وكان عمر يكره خلافه ـ نعم نفر من قدر الله إلى قدر الله .
وقد صّدقت رواية عبد الرحمن بن عوف المرفوعة هذا الاجتهاد الراشدي وفي هذا الأثر من الفقه : أخذ أمور العامة بعزمٍ وتأمل ومراجعة ، وفيه قبول اختلاف المجتهدين في النوازل فإن المهاجرين والأنصار وهم مادة الصحابة ومقدموهم اختلفوا ، ولم يحفظ بينهم في هذا الاختلاف تذامٌ ولا تطاعن ولا تضييق لمقام الاجتهاد .
وكأن أهل الشوكة والصبر فيهم كانوا يميلون إلى المضي وعدم الرجوع ، وأهل الفقه في الجملة يميلون إلى الرجوع ، وهؤلاء أعرف بمقام الشريعة ، والأولون غلب عليهم تعظيم مقام الإرادة والعزم .
وفيه ترك الرهق الذي لا يستطاع وعدم ابتلاء بقية أهل العلم والإيمان والجهاد به ، وقريب من هذا المعنى سبق في خبر حصار الطائف .
وهذا الأثر وأمثاله ، يدلُ على أن تحصيل الموقف الشرعي لابد أن يتحقق في صاحبه ديانةٌ وعلمٌ وفقه وأناة ؛ فإن مقام الديانة يدفع الظلم ، ومقام العلم يدفع الجهل ، وهما موجبا الخطأ ، قال الله تعالى : [ إنا عرضنا الأمانة على السماوات والأرض والجبال فأبيين أن يحملنها وأشفقن منها وحملها الإنسان إنه كان ظلوماً جهولاً ] .
والقول في مواقف الأمة من أعظم الأمانة التي تنوء بحملها الجبال ، وإن من تقوى القلوب ألا يتحدث في المواقف العامة من لم يزن قوله بميزان الشريعية كما في قوله تعالى : [ إلا من شهد بالحق وهم يعلمون .. ] قال غير واحد : الحق : الصدق .
إنه لا يكفي لموافقه الشريعة أن يكون الموقف مبنياً على مقام الصدق وحسن الإرادة دون أن يتحقق له مقام العلم والمعرفة ؛ فإن مقام العلم هو الذي يحقق موافقة مراد الشريعة وليس مقام الصدق .
ولهذا أمر الله تعالى باعتبار العلم عند الحوادث والنوازل كما قال سبحانه : [ وإذا جاءهم أمر من الأمن أو الخوف أذاعوا به و لو ردوه إلى الرسول وإلى أولي الأمر منهم لعلمه الذين يستنبطونه منهم ) وألو الأمر هم أولوا الفقه في الدين وهم أولوا العقل والفهم كما ذكره ابن جرير عن بعض متقدمي العلماء .
إن مما يفوت كثيراً من عامة المسلمين وبعض خاصتهم عدم تحقيق الرد إلى الله والرسول ، ولئن كان مظنوناً في جملتهم حسن القصد وصلاح النية في المواقف التي يتخذونها في حاضر الأمة وغابرها ، وهذا من فضل الله ورحمته ، إلا أن التقصير في تحقيق العلم والفقه ونقص قيمة الوعي وسلامة التفكير هو من موارد الفتنة وموجبات الفساد .
ومن له حظ من العلم والاجتهاد في تقرير أحكام الشريعة في هذه النوازل لا يصلح أن يكون فقهه ومدركه من جنس فقه العامة ومدركهم وبصرهم ؛ فإن الله تعالى قال : [ قل هل يستوي الذين يعلمون والذين لا يعلمون ] بل هذه درجةٌ مخصوصةٌ من العلم شأنها كما قال الإمام الشافعي في الرسالة : هذه درجة من العلم ليس تبلغها العامة ، ولم يكلفها كل الخاصة ، ومن احتمل بلوغها من الخاصة فلا يسعهم كلهم كافة أن يعطلوها ، وإذا قام بها من خاصتهم من فيه الكفاية لم يحُرج غيره من تركها إن شاء الله ، والفضل فيها لمن قام بها لا من عطلها .
ومما يعرض لبعض أهل الاجتهاد في النوازل المبالغةُ في منازعة من يخالفه من ذوي العلم والدين ، وهذا من ضعف الفقه ؛ فإن اختلاف المجتهدين في مثل هذا أمر تفرضه حال الحدث ومادته وطبيعته ، مع تفاوت الأفهام والمدارك والعلوم.
ومن أسباب هذا التضييق لمقام الاجتهاد أن يكون الحدث مركباً من مواد شتى ، ويكون منه وجه محكم ظاهر يعرفه العامة والخاصة ويعتبرونه ، فيقصرون الأمر على هذا الوجه البين ولا يلتفتون إلى سواه .
وهذا يقع كثيراً أن يرد أكثر العامة ، بل وبعض الخاصة ، الأمر إلى جانب من جوانبه الصحيحة والبينة ، ولكنهم يقصرون الأمر عليه ، ولا يتفطنون إلى الجوانب الأخرى التي خفيت عليهم .
لكن أهل العلم والاعتبار يقع لهم نظر آخر ، لمحل آخر من هذا الحدث لا يدركه العامة ، وهذا من أسرار قوله سبحانه : [ يستنبطونه ] فإن الاستنباط يكون فيه نوع معالجة وجهد ، فهو من خصائص أولى العلم الذين يدركون جوانب من الأمر يغيب إدراكها أو استحضارها عن غيرهم .
إن الوجه المحكم في الشريعة الذي لا تنفك عامة الأحداث عنه يجب أن يبقى لحمة أهل الإسلام وعصمة اجتماعهم ، لكن يبقى لخاصتهم حق النظر في إحكام الموقف وتسديده على وفق قواعد الشريعة ، التي جاءت بتحقيق المصالح ودرء المفاسد .
وهنا نظر من الفقه ، وهو أن يكون الحكم المستنبط باجتهاد دقيق لا يفطن له كل أحد ، قد لا تظهر مناسبته عند بعض العامة ، بسبب الحكم الآخر الظاهر المحكم ، فيظن من يظن أن ذلك النظر الدقيق المستنبط يقتضي التفريط في الوجه المحكم أو مناقضته .
وليس الأمر كذلك عند من له علم وفقه .
وقد جاء في السنة قصة صلح الحديبية المخرجة في البخاري وغيره في سياق طويل ، وكيف أن الشروط التي قبلها صلى الله عليه وسلم وإن رأي فيها بعض الصحابة ، بل بعض خواصهم وأكابرهم ، مفارقة لمقام الجهاد وعلو المؤمنين ، لكنه كان الخير والحق والصواب ، وسماه الله فتحاً [ إنا فتحنا لك فتحاً مبينا ] .
وهذه السورة نـزلت مرجعه عليه الصلاة والسلام من الحديبية ، وهم يخالطهم الحزن والكآبة كما ثبت في صحيح مسلم عن أنس بن مالك رضي الله عنه .
ومن فاضل فقه الصحابة في هذا الوجه الذي قد يراه منافياً للوجه المحكم ما جاء في الصحيحين وغيرهما في غزوة مؤته ، فقد روى البخاري وغيره عن أنس أن النبي صلى الله عليه وسلم نعى زيداً وجعفراً وابن رواحة للناس قبل أن يأتيهم خبرهم فقال : ( أخذ الراية زيد فأصيب ثم أخذ جعفر فأصيب ثم أخذ ابن رواحة فأصيب ، وعيناه تذرفان ، حتى أخذ الراية سيف من سيوف الله حتى فتح الله عليهم ) .
وأهل العلم وإن اختلفوا في تفسير هذا الحرف الآخر ، إلا أن من أرجح الأقوال أن الفتح المذكور تحيز خالد بالمسلمين عند عدوهم ، وسواء فسر هذا الحرف بهذا أو به وبغيره أو حتى بغيره ؛ فإنه يعلم بالإجماع أن تحيز خالد بالمسلمين كان محموداً وقد أقره الرسول صلى الله عليه وسلم وامتدحه وإن كان هذا لم يظهر مبدأ الأمر لبعضهم .
وفي الحديث من الفقه أن مقام حسن القصد والصبر وبذل النفس لا يحكم وحده سائر المواقف ، بل هذه الشريعة جاءت بمراعاة القواعد الشمولية العامة ، وهذا من فقه خالد لمقاصد الجهاد .
ومن أخص ما يجب على أهل الإسلام ألا يتخذوا العلم بغياً بينهم ؛ فإن الوحي نزل ليرد الناس إليه ويجتمعوا به على الحق ، وسائر أوجه الحق لا تظهر لكل أحد ، ويقع فيها ما هو من موارد النـزاع المقر في الشريعة .
[center]|[url=http://www.islamtoday.net/pen/show_articles_content.cfm?id=64&catid=38&artid=439]1[/url]|2|[url=http://www.islamtoday.net/pen/show_articles_content.cfm?id=64&catid=38&artid=464]3[/url]|[url=http://www.islamtoday.net/pen/show_articles_content.cfm?id=64&catid=38&artid=485]4[/url]|[url=http://www.islamtoday.net/pen/show_articles_content.cfm?id=64&catid=38&artid=514]5[/url]|[/center]
ومن هنا فإن تجريد الحدث عن لوازمه وارتباطاته من المعارف والأحوال يُعد نقصاً في التصور ينتج عنه تأخر الحكم عن مرتبة الصحة ، ومما يعرض لبعض الناظرين استعمالُ ما هو من مفصل الأدلة ؛لتخريج النازلة على أحد الفروع المقولة لدى الفقهاء في مصنفاتهم ، وهذا من حيث الأصل هو من الاجتهاد المناسب ، لكن محل المؤاخذة حين يستعمل في حكم الحوادث العامة المعقدة والتي تتنازعها مؤثرات وموادُ عديدة فيجردها الناظرُ من كل ذلك ويُخرجُها مع فرع فقهي مخصوص وربما كان من موارد الخلاف بين الفقهاء ثم يجعل هذا منتهى البحث والنظر .
ولعل هذا أثرٌ للقصور عن تحصيل فقه المقاصد ومراعاته في اعتبار الأحكام ، ومن هنا فإنه وإن حسن اعتبار الفروع والتخريج على المناسب منها في النوازل فإنه لا بد مع ذلك من اعتبار قواعد الشريعة وأصولها المذكورة في كلام الله ورسوله ومعاقد إجماع أهل العلم .
بل يتحقق لكل عارفٍ أن الاعتبار الثاني أصل في أحكام النوازل العامة والاجتهاد فيها .
ولهذا ترى في سنة الخلفاء الراشدين وأئمة الفقه والحديث العناية بتحقيق هذا الاعتبار فيما يعرض لهم من النوازل .
ففي الصحيح عن ابن عباس أن عمر بن الخطاب خرج إلى الشام حتى إذا كان بسرغ لقيه أهل الأجناد أبو عبيدة بن الجراح وأصحابه ، فأخبروه أن الوباء قد وقع بالشام . قال ابن عباس : فقال عمر : ادع لي المهاجرين الأولين فدعوتهم ، فاستشارهم واخبرهم أن الوباء قد وقع بالشام فاختلفوا ، فقال بعضهم : قد خرجت لأمر ولا نرى أن ترجع عنه . وقال بعضهم : معك بقية الناس وأصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم ولا نرى أن نقدمهم على هذا الوباء . فقال : ارتفعوا عني ثم قال : أدع لي الأنصار فدعوتهم له ، فاستشارهم فسلكوا سبيل المهاجرين ، واختلفوا كاختلافهم . فقال ارتفعوا عني ثم قال : أدع لي من كان ها هنا من مشيخة قريش من مهاجرة الفتح ، فدعوتهم فلم يختلف عليه رجلان ، فقالوا : نرى أن ترجع بالناس ولا تقدمهم على هذا الوباء .
فنادى عمر في الناس إني مصبح على ظهر فأصبحوا عليه . فقال أبو عبيدة بن الجراح : إفراراً من قدر الله ؟
فقال عمر : لو غيرك قالها يا أبا عبيدة ـ وكان عمر يكره خلافه ـ نعم نفر من قدر الله إلى قدر الله .
وقد صّدقت رواية عبد الرحمن بن عوف المرفوعة هذا الاجتهاد الراشدي وفي هذا الأثر من الفقه : أخذ أمور العامة بعزمٍ وتأمل ومراجعة ، وفيه قبول اختلاف المجتهدين في النوازل فإن المهاجرين والأنصار وهم مادة الصحابة ومقدموهم اختلفوا ، ولم يحفظ بينهم في هذا الاختلاف تذامٌ ولا تطاعن ولا تضييق لمقام الاجتهاد .
وكأن أهل الشوكة والصبر فيهم كانوا يميلون إلى المضي وعدم الرجوع ، وأهل الفقه في الجملة يميلون إلى الرجوع ، وهؤلاء أعرف بمقام الشريعة ، والأولون غلب عليهم تعظيم مقام الإرادة والعزم .
وفيه ترك الرهق الذي لا يستطاع وعدم ابتلاء بقية أهل العلم والإيمان والجهاد به ، وقريب من هذا المعنى سبق في خبر حصار الطائف .
وهذا الأثر وأمثاله ، يدلُ على أن تحصيل الموقف الشرعي لابد أن يتحقق في صاحبه ديانةٌ وعلمٌ وفقه وأناة ؛ فإن مقام الديانة يدفع الظلم ، ومقام العلم يدفع الجهل ، وهما موجبا الخطأ ، قال الله تعالى : [ إنا عرضنا الأمانة على السماوات والأرض والجبال فأبيين أن يحملنها وأشفقن منها وحملها الإنسان إنه كان ظلوماً جهولاً ] .
والقول في مواقف الأمة من أعظم الأمانة التي تنوء بحملها الجبال ، وإن من تقوى القلوب ألا يتحدث في المواقف العامة من لم يزن قوله بميزان الشريعية كما في قوله تعالى : [ إلا من شهد بالحق وهم يعلمون .. ] قال غير واحد : الحق : الصدق .
إنه لا يكفي لموافقه الشريعة أن يكون الموقف مبنياً على مقام الصدق وحسن الإرادة دون أن يتحقق له مقام العلم والمعرفة ؛ فإن مقام العلم هو الذي يحقق موافقة مراد الشريعة وليس مقام الصدق .
ولهذا أمر الله تعالى باعتبار العلم عند الحوادث والنوازل كما قال سبحانه : [ وإذا جاءهم أمر من الأمن أو الخوف أذاعوا به و لو ردوه إلى الرسول وإلى أولي الأمر منهم لعلمه الذين يستنبطونه منهم ) وألو الأمر هم أولوا الفقه في الدين وهم أولوا العقل والفهم كما ذكره ابن جرير عن بعض متقدمي العلماء .
إن مما يفوت كثيراً من عامة المسلمين وبعض خاصتهم عدم تحقيق الرد إلى الله والرسول ، ولئن كان مظنوناً في جملتهم حسن القصد وصلاح النية في المواقف التي يتخذونها في حاضر الأمة وغابرها ، وهذا من فضل الله ورحمته ، إلا أن التقصير في تحقيق العلم والفقه ونقص قيمة الوعي وسلامة التفكير هو من موارد الفتنة وموجبات الفساد .
ومن له حظ من العلم والاجتهاد في تقرير أحكام الشريعة في هذه النوازل لا يصلح أن يكون فقهه ومدركه من جنس فقه العامة ومدركهم وبصرهم ؛ فإن الله تعالى قال : [ قل هل يستوي الذين يعلمون والذين لا يعلمون ] بل هذه درجةٌ مخصوصةٌ من العلم شأنها كما قال الإمام الشافعي في الرسالة : هذه درجة من العلم ليس تبلغها العامة ، ولم يكلفها كل الخاصة ، ومن احتمل بلوغها من الخاصة فلا يسعهم كلهم كافة أن يعطلوها ، وإذا قام بها من خاصتهم من فيه الكفاية لم يحُرج غيره من تركها إن شاء الله ، والفضل فيها لمن قام بها لا من عطلها .
ومما يعرض لبعض أهل الاجتهاد في النوازل المبالغةُ في منازعة من يخالفه من ذوي العلم والدين ، وهذا من ضعف الفقه ؛ فإن اختلاف المجتهدين في مثل هذا أمر تفرضه حال الحدث ومادته وطبيعته ، مع تفاوت الأفهام والمدارك والعلوم.
ومن أسباب هذا التضييق لمقام الاجتهاد أن يكون الحدث مركباً من مواد شتى ، ويكون منه وجه محكم ظاهر يعرفه العامة والخاصة ويعتبرونه ، فيقصرون الأمر على هذا الوجه البين ولا يلتفتون إلى سواه .
وهذا يقع كثيراً أن يرد أكثر العامة ، بل وبعض الخاصة ، الأمر إلى جانب من جوانبه الصحيحة والبينة ، ولكنهم يقصرون الأمر عليه ، ولا يتفطنون إلى الجوانب الأخرى التي خفيت عليهم .
لكن أهل العلم والاعتبار يقع لهم نظر آخر ، لمحل آخر من هذا الحدث لا يدركه العامة ، وهذا من أسرار قوله سبحانه : [ يستنبطونه ] فإن الاستنباط يكون فيه نوع معالجة وجهد ، فهو من خصائص أولى العلم الذين يدركون جوانب من الأمر يغيب إدراكها أو استحضارها عن غيرهم .
إن الوجه المحكم في الشريعة الذي لا تنفك عامة الأحداث عنه يجب أن يبقى لحمة أهل الإسلام وعصمة اجتماعهم ، لكن يبقى لخاصتهم حق النظر في إحكام الموقف وتسديده على وفق قواعد الشريعة ، التي جاءت بتحقيق المصالح ودرء المفاسد .
وهنا نظر من الفقه ، وهو أن يكون الحكم المستنبط باجتهاد دقيق لا يفطن له كل أحد ، قد لا تظهر مناسبته عند بعض العامة ، بسبب الحكم الآخر الظاهر المحكم ، فيظن من يظن أن ذلك النظر الدقيق المستنبط يقتضي التفريط في الوجه المحكم أو مناقضته .
وليس الأمر كذلك عند من له علم وفقه .
وقد جاء في السنة قصة صلح الحديبية المخرجة في البخاري وغيره في سياق طويل ، وكيف أن الشروط التي قبلها صلى الله عليه وسلم وإن رأي فيها بعض الصحابة ، بل بعض خواصهم وأكابرهم ، مفارقة لمقام الجهاد وعلو المؤمنين ، لكنه كان الخير والحق والصواب ، وسماه الله فتحاً [ إنا فتحنا لك فتحاً مبينا ] .
وهذه السورة نـزلت مرجعه عليه الصلاة والسلام من الحديبية ، وهم يخالطهم الحزن والكآبة كما ثبت في صحيح مسلم عن أنس بن مالك رضي الله عنه .
ومن فاضل فقه الصحابة في هذا الوجه الذي قد يراه منافياً للوجه المحكم ما جاء في الصحيحين وغيرهما في غزوة مؤته ، فقد روى البخاري وغيره عن أنس أن النبي صلى الله عليه وسلم نعى زيداً وجعفراً وابن رواحة للناس قبل أن يأتيهم خبرهم فقال : ( أخذ الراية زيد فأصيب ثم أخذ جعفر فأصيب ثم أخذ ابن رواحة فأصيب ، وعيناه تذرفان ، حتى أخذ الراية سيف من سيوف الله حتى فتح الله عليهم ) .
وأهل العلم وإن اختلفوا في تفسير هذا الحرف الآخر ، إلا أن من أرجح الأقوال أن الفتح المذكور تحيز خالد بالمسلمين عند عدوهم ، وسواء فسر هذا الحرف بهذا أو به وبغيره أو حتى بغيره ؛ فإنه يعلم بالإجماع أن تحيز خالد بالمسلمين كان محموداً وقد أقره الرسول صلى الله عليه وسلم وامتدحه وإن كان هذا لم يظهر مبدأ الأمر لبعضهم .
وفي الحديث من الفقه أن مقام حسن القصد والصبر وبذل النفس لا يحكم وحده سائر المواقف ، بل هذه الشريعة جاءت بمراعاة القواعد الشمولية العامة ، وهذا من فقه خالد لمقاصد الجهاد .
ومن أخص ما يجب على أهل الإسلام ألا يتخذوا العلم بغياً بينهم ؛ فإن الوحي نزل ليرد الناس إليه ويجتمعوا به على الحق ، وسائر أوجه الحق لا تظهر لكل أحد ، ويقع فيها ما هو من موارد النـزاع المقر في الشريعة .
[center]|[url=http://www.islamtoday.net/pen/show_articles_content.cfm?id=64&catid=38&artid=439]1[/url]|2|[url=http://www.islamtoday.net/pen/show_articles_content.cfm?id=64&catid=38&artid=464]3[/url]|[url=http://www.islamtoday.net/pen/show_articles_content.cfm?id=64&catid=38&artid=485]4[/url]|[url=http://www.islamtoday.net/pen/show_articles_content.cfm?id=64&catid=38&artid=514]5[/url]|[/center]