من يحاصر غزّة؟
لقد انتظر أهل غزّة فكّ الحصار وتسرّبت لهم تواشيح الأمل في الحصول على المعونات من الغذاء والأدوية وعلى تأشيرات الحج ولكنّ الإحساس المضني بالقهر والمرارة كان أقوى من الحلم فبكى النّساء والشيوخ لضياع فرصة أداء فريضة الحج قبل الموت. وضاعت الفرصة في مخاض الخيبة والانتظار وربّما يأتي الموت قبل موسم آخر للحج فتصعد الأرواح ملبيّة لائذة بربّ العباد شاكية ظلم العباد وليتحرّروا بالموت من هذا الواقع الأليم بين ظلم المحتلين وصواريخ الصهاينة وصمت الأنظمة المرتمية في أحضان القوى المعادية للأمّة.
فمن يحاصر غزّة؟ إنّها القوى التي تقف وراء مشروع المساومة، وراء أوهام التّفاوض. إنّها القوى التي فقدت الإحساس الوطني وانخرطت في أجندة إسرائيل وأميركا. إنّها الأطراف التي ترفض نتائج الخيارات الشعبية وتمارس الاستبداد والوصاية على مقدّرات الأمّة ومكوّناتها السياسية والفكرية.
كان العرب يتابعون الانتخابات في فلسطين ليشهدوا ميلاد تجربة عربيّة ديمقراطيّة حقيقية بعيدا عن التّزييف والتّزوير ولكنهم نسوا أنّ رموز السلطة تربّوا في أحضان الأنظمة العربية ولم يتخلصوا بعد من إرثها في الاستبداد والوصاية ورغم أن التراث عموما هو تشكّل غير نهائي ويحمل عوامل التطور والتحول غير أن الاستبداد و"الائتمان على الوطن" (والتعبير للنظام التونسي) هما أكثر العناصر ترسبا وثباتا و"أعدلها توزعا بين الأنظمة العربية".
إنّ الحصار لم يحقق أهدافه بفضل المقاومة ولما لاحت بوادر الفشل قرر العدو الصهيوني العدوان لكسر سلطة حماس وتركيعها.
الغزّاويون بين الجوع والقهر
"
ستبقى معاناة أهالي غزّة نقطة سوداء في تاريخ الأنظمة العربية وجرحا غائرا بل هو الأعمق غورا والأشدّ إيلاما وأفضل ما يقال لعبّاس في هذه المناسبة ما قاله الخليفة العادل عمر بن عبد العزيز: الأفواه الجائعة أولى عند الله من البيت الحرام
"
القلوب في غزّة مكلومة والدّموع حارقة والجوع ناهش والقهر قاتل والحصار شرس والدمار شامل والقتل يتربص بالجميع ولا يستثني امرأة ولا طفلا ولا شيخا ولا مريضا، ومن يرد جوع الأطفال، ومعاناة المرضى، ودَين الشهداء والأسرى؟
ستبقى معاناة أهالي غزّة نقطة سوداء في تاريخ الأنظمة العربية وجرحا غائرا بل هو الأعمق غورا والأشدّ إيلاما وأفضل ما يقال لعبّاس في هذه المناسبة ما قاله الخليفة العادل عمر بن عبد العزيز: "الأفواه الجائعة أولى عند الله من البيت الحرام " أولم يقل عليه الصلاة والسّلام وهو ينظر إلى الكعبة: "ما أعظمك وما أعظم حرمتك والذي نفس محمد بيده لحرمة المؤمن عند الله أعظم من حرمتك." (المنذري). إنّ ما يجري في غزّة إنّما هو مؤامرة. وجريمة لتفكيك الملحمة التي صنعها الشهداء والأبطال وترويج لأوهام التّفاوض المذلّ.
حماس بين المبدئية والسياسة والتنظيم
إنّ حماس نجحت في اكتساب شعبية كبيرة داخل الشعب الفلسطيني بل نفذت إلى كل البيوت ورغم انخراطها في المشاركة السياسية وإدارتها للسلطة في قطاع غزّة لم تفقد قدرتها على الاستقطاب.
ورغم "الفيتو" الإقليمي والدولي عليها والعدوان الغاشم على غزّة فقد أثبتت تماسكا نادرا ووحدة تنظيمية قوية. لا شك أنّ هذه القوّة الحزبية تخفي وراءها إدارة ناجحة للحوار الداخلي وديمقراطية حقيقية داخل مؤسساتها وأسلوبا فائقا في إفراز القرارات فلم يصبها الانقسام أو التآكل وبروز الشقوق المتصارعة خارج المؤسسات كما حصل في بعض الحركات الإسلامية هنا وهناك.
وإلى جانب هذه الوحدة التنظيمية المساهمة في قوة حماس يمثل الوفاء للمبادئ التي تأسست عليها عنصرا كبيرا في شعبيّتها. إنّ خوض حماس غمار العمل السياسي والمشاركة في الانتخابات وتسلم السلطة لم يجعلها تتنازل عن "الأيديولوجيا" فلم تستسلم للتكتيك السياسي على حساب الأفكار والقيم وإنّ إدارتها للسلطة لم يحولها إلى بيروقراطية ولا قوة تسلّطيّة ضدّ إرادة الشعب.
إنّ حماس لم تتورّط في الفساد المالي والإداري وانتصرت لمنطق المقاومة على منطق الدولة ولم تفقد بريقها ولا شعبيتها بوجودها في السلطة.
القمة العربية لن تداري المواقف المخزية
إن الفجوة بين الأنظمة العربية وشعوبها في توسع والوضع في غزة كشف ما عليه هذه الأنظمة من خيانة لقضايا الأمّة لأنّ الإهانة التي حصلت في غزة هي إهانة لحكامها بدرجة أولى وأن الدعوة لقمة عربية لن يغيّر من الأوضاع شيئا ولن يفرز غير البيانات ولن يداري الخذلان والصمت ولن يوقف الهجمة الظالمة.
"
المقاومة ولئن دفعت ثمنا باهظا اليوم وقدمت التضحيات والشهداء والجرحى فقد زادها العدوان تجذرا وقوة وأصبحت نموذجا مأمولا للشعوب العربية وباتت رقما صعبا على مشاريع الترويض
"
فبعد كل عدوان عودتنا الأنظمة العربية بمزيد من مشاريع الاستسلام والتنازل و"مبادرات السلام" من جانب واحد في حين تضرب إسرائيل بكل المعاهدات والمواثيق والاتفاقيات بل تحاول وتسعى جاهدة لوضع المجتمع الدولي في إطار رؤيتها مستعينة بالدعم الأميركي واللوبي الصهيوني المالي والإعلامي القويين.
إنّ غزة هي الهامة التي رفضت الاستسلام ولم تركع وكما قال رئيس الحكومة المنتخبة إسماعيل هنية "قد يسقط مزيد من الشهداء والجرحى ولكن لن تسقط غزة".
وستبقى زيارة وزيرة خارجية الكيان الصهيوني "ليفني" لمصر قبيل العدوان بقليل عارا على جبين النظام المصري وليس غريبا ولا مستبعدا أن تكون أبلغته بشنّ العدوان.
وفي الأخير إنّ المقاومة ولئن دفعت ثمنا باهظا اليوم وقدمت التضحيات والشهداء والجرحى فقد زادها العدوان تجذرا وقوة وأصبحت نموذجا مأمولا للشعوب العربية وباتت رقما صعبا على مشاريع الترويض الثقافي والسياسي ونجحت في الاستعصاء على كل محاولات الاستئصال والإبادة.
"ولينصرنّ الله من ينصره إنّ الله لقوي ّعزيز". صبرا أهل غزة إنّ موعدكم إحدى الحسنيين.
ــــــــــ
كاتب تونسي
لقد انتظر أهل غزّة فكّ الحصار وتسرّبت لهم تواشيح الأمل في الحصول على المعونات من الغذاء والأدوية وعلى تأشيرات الحج ولكنّ الإحساس المضني بالقهر والمرارة كان أقوى من الحلم فبكى النّساء والشيوخ لضياع فرصة أداء فريضة الحج قبل الموت. وضاعت الفرصة في مخاض الخيبة والانتظار وربّما يأتي الموت قبل موسم آخر للحج فتصعد الأرواح ملبيّة لائذة بربّ العباد شاكية ظلم العباد وليتحرّروا بالموت من هذا الواقع الأليم بين ظلم المحتلين وصواريخ الصهاينة وصمت الأنظمة المرتمية في أحضان القوى المعادية للأمّة.
فمن يحاصر غزّة؟ إنّها القوى التي تقف وراء مشروع المساومة، وراء أوهام التّفاوض. إنّها القوى التي فقدت الإحساس الوطني وانخرطت في أجندة إسرائيل وأميركا. إنّها الأطراف التي ترفض نتائج الخيارات الشعبية وتمارس الاستبداد والوصاية على مقدّرات الأمّة ومكوّناتها السياسية والفكرية.
كان العرب يتابعون الانتخابات في فلسطين ليشهدوا ميلاد تجربة عربيّة ديمقراطيّة حقيقية بعيدا عن التّزييف والتّزوير ولكنهم نسوا أنّ رموز السلطة تربّوا في أحضان الأنظمة العربية ولم يتخلصوا بعد من إرثها في الاستبداد والوصاية ورغم أن التراث عموما هو تشكّل غير نهائي ويحمل عوامل التطور والتحول غير أن الاستبداد و"الائتمان على الوطن" (والتعبير للنظام التونسي) هما أكثر العناصر ترسبا وثباتا و"أعدلها توزعا بين الأنظمة العربية".
إنّ الحصار لم يحقق أهدافه بفضل المقاومة ولما لاحت بوادر الفشل قرر العدو الصهيوني العدوان لكسر سلطة حماس وتركيعها.
الغزّاويون بين الجوع والقهر
"
ستبقى معاناة أهالي غزّة نقطة سوداء في تاريخ الأنظمة العربية وجرحا غائرا بل هو الأعمق غورا والأشدّ إيلاما وأفضل ما يقال لعبّاس في هذه المناسبة ما قاله الخليفة العادل عمر بن عبد العزيز: الأفواه الجائعة أولى عند الله من البيت الحرام
"
القلوب في غزّة مكلومة والدّموع حارقة والجوع ناهش والقهر قاتل والحصار شرس والدمار شامل والقتل يتربص بالجميع ولا يستثني امرأة ولا طفلا ولا شيخا ولا مريضا، ومن يرد جوع الأطفال، ومعاناة المرضى، ودَين الشهداء والأسرى؟
ستبقى معاناة أهالي غزّة نقطة سوداء في تاريخ الأنظمة العربية وجرحا غائرا بل هو الأعمق غورا والأشدّ إيلاما وأفضل ما يقال لعبّاس في هذه المناسبة ما قاله الخليفة العادل عمر بن عبد العزيز: "الأفواه الجائعة أولى عند الله من البيت الحرام " أولم يقل عليه الصلاة والسّلام وهو ينظر إلى الكعبة: "ما أعظمك وما أعظم حرمتك والذي نفس محمد بيده لحرمة المؤمن عند الله أعظم من حرمتك." (المنذري). إنّ ما يجري في غزّة إنّما هو مؤامرة. وجريمة لتفكيك الملحمة التي صنعها الشهداء والأبطال وترويج لأوهام التّفاوض المذلّ.
حماس بين المبدئية والسياسة والتنظيم
إنّ حماس نجحت في اكتساب شعبية كبيرة داخل الشعب الفلسطيني بل نفذت إلى كل البيوت ورغم انخراطها في المشاركة السياسية وإدارتها للسلطة في قطاع غزّة لم تفقد قدرتها على الاستقطاب.
ورغم "الفيتو" الإقليمي والدولي عليها والعدوان الغاشم على غزّة فقد أثبتت تماسكا نادرا ووحدة تنظيمية قوية. لا شك أنّ هذه القوّة الحزبية تخفي وراءها إدارة ناجحة للحوار الداخلي وديمقراطية حقيقية داخل مؤسساتها وأسلوبا فائقا في إفراز القرارات فلم يصبها الانقسام أو التآكل وبروز الشقوق المتصارعة خارج المؤسسات كما حصل في بعض الحركات الإسلامية هنا وهناك.
وإلى جانب هذه الوحدة التنظيمية المساهمة في قوة حماس يمثل الوفاء للمبادئ التي تأسست عليها عنصرا كبيرا في شعبيّتها. إنّ خوض حماس غمار العمل السياسي والمشاركة في الانتخابات وتسلم السلطة لم يجعلها تتنازل عن "الأيديولوجيا" فلم تستسلم للتكتيك السياسي على حساب الأفكار والقيم وإنّ إدارتها للسلطة لم يحولها إلى بيروقراطية ولا قوة تسلّطيّة ضدّ إرادة الشعب.
إنّ حماس لم تتورّط في الفساد المالي والإداري وانتصرت لمنطق المقاومة على منطق الدولة ولم تفقد بريقها ولا شعبيتها بوجودها في السلطة.
القمة العربية لن تداري المواقف المخزية
إن الفجوة بين الأنظمة العربية وشعوبها في توسع والوضع في غزة كشف ما عليه هذه الأنظمة من خيانة لقضايا الأمّة لأنّ الإهانة التي حصلت في غزة هي إهانة لحكامها بدرجة أولى وأن الدعوة لقمة عربية لن يغيّر من الأوضاع شيئا ولن يفرز غير البيانات ولن يداري الخذلان والصمت ولن يوقف الهجمة الظالمة.
"
المقاومة ولئن دفعت ثمنا باهظا اليوم وقدمت التضحيات والشهداء والجرحى فقد زادها العدوان تجذرا وقوة وأصبحت نموذجا مأمولا للشعوب العربية وباتت رقما صعبا على مشاريع الترويض
"
فبعد كل عدوان عودتنا الأنظمة العربية بمزيد من مشاريع الاستسلام والتنازل و"مبادرات السلام" من جانب واحد في حين تضرب إسرائيل بكل المعاهدات والمواثيق والاتفاقيات بل تحاول وتسعى جاهدة لوضع المجتمع الدولي في إطار رؤيتها مستعينة بالدعم الأميركي واللوبي الصهيوني المالي والإعلامي القويين.
إنّ غزة هي الهامة التي رفضت الاستسلام ولم تركع وكما قال رئيس الحكومة المنتخبة إسماعيل هنية "قد يسقط مزيد من الشهداء والجرحى ولكن لن تسقط غزة".
وستبقى زيارة وزيرة خارجية الكيان الصهيوني "ليفني" لمصر قبيل العدوان بقليل عارا على جبين النظام المصري وليس غريبا ولا مستبعدا أن تكون أبلغته بشنّ العدوان.
وفي الأخير إنّ المقاومة ولئن دفعت ثمنا باهظا اليوم وقدمت التضحيات والشهداء والجرحى فقد زادها العدوان تجذرا وقوة وأصبحت نموذجا مأمولا للشعوب العربية وباتت رقما صعبا على مشاريع الترويض الثقافي والسياسي ونجحت في الاستعصاء على كل محاولات الاستئصال والإبادة.
"ولينصرنّ الله من ينصره إنّ الله لقوي ّعزيز". صبرا أهل غزة إنّ موعدكم إحدى الحسنيين.
ــــــــــ
كاتب تونسي